إضاءات قرآنية؛ سورة هود..
(تسميتها، ونزولها، وفضلها)
د. علي محمد الصلابي
سورة هود هي سورة مكية، نزلت قبل هجرة رسول الله ﷺ إلى المدينة المنورة، وقد عدت آياتها مائة وإحدى وعشرين في العدد المدني الأخير، وكانت آياتها معدودة في المدني الأول مائة واثنتين وعشرين، وهي كذلك في عدد أهل الشام وفي عدد أهل البصرة وأهل الكوفة مائة وثلاث وعشرون، ونزلت هذه السورة بعد سورة يونس وقبل سورة يوسف. وقد عدت الثانية والخمسين في ترتيب نزول السور، تضمنت مواضيع متنوعة وعديدة، وذكرت عدداً من قصص الأنبياء، مثل نبي الله هود ونوح (عليهما السلام). (سعيد حوا ، كتاب الأساس في التفسير، صفحة 523)
- سبب التسمية:
وسميت باسم هود لتكرر اسمه فيها خمس مرات ، ولأن ما حكي عنه فيها أطول مما حكي عنه في غيرها ، ولأن عادا وصفوا فيها بأنهم قوم هود في قوله : ﴿وَأُتْبِعُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ﴾ [ هود: 60]، وقد تقدم في تسمية سورة يونس وجه آخر للتسمية ينطبق على هذه وهو تمييزها من بين السور ذوات الافتتاح بـ (الر).
وقد سماها النبي ﷺ بسورة هود، فقد روى الترمذي عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله قد شبت! قال: «شيبتني هود» و «الواقعة» ، و «المرسلات» و «عم يتساءلون» و «إذا الشمس كورت» . وفي رواية: شيبتني هود وأخواتها. (الألباني، السلسة الصحيحة، ج2 ص641)
- سبب نزول بعض آيات من سورة هود:
- سبب نزول الآية (5):
﴿ أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ۚ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾. [سورة هود: 5]
اختلف المفسرون في سبب نزول الآية، فذهب البعض إلى أنَّها نزلت في مسلمين كانوا يستحيون من الله إذا جامعوا زوجاتهم، وقيل: إنَّ جماعةً من المسلمين كانوا يظهرون التنسُّك لله بأن يستروا أبدانهم ولا يكشفونها، فبين الله لهم أن التنسك يكون بما احتوته قلوبهم من معتقد، وبما أظهروه من قول وعمل، ورأى آخرون أنَّها نزلت في المنافقين حيث كانوا إذا أغلقوا أبوابهم واستغشوا ثيابهم يثنون صدورهم على عداوة محمد ﷺ ولا يعلم أحد بهم، فنزلت الآية، ورأت جماعة أنَّها تتحدث عن المشركين، ومحاولة استتارهم عن اللَّه جل وعلا. (خالد المزيني، المحرر في أسباب النزول، صفحة 620-624.)
- سبب نزول الآية (114):
﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ﴾. [ سورة هود: 114]
عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه): أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة حرام فأتى النبي ﷺ فذكر ذلك فأنزلت عليه، (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلتها من الليل) . فقال الرجل: ألي هذه؟ قال : لمن عمل بها من أمتي. [رواه مسلم في الصحيح برقم: 2763] (ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج12 ص180)
- ما جاء في فضل سورة هود:
إنّ قراءة سورة هود وتدبّر معانيها وفهمها له أثر كبير في حياة المسلمين عامّة، غير أنّه كان لها وقعاً خاصّاً على قلب النّبي ﷺ، وفيما يأتي بيان لأثر هذه السّور على نفس النّبي ﷺ وعلى المسلم:
1- كان لسورة هود وأخواتها من السّور أثرٌ في ظهور الشيب في رأس النبي ﷺ، ففي الحديث الشريف حين سأل أبو بكر الصّديق (رضي الله عنه) رسول الله فقال له: (يا رسولَ اللهِ ، قد شِبْتَ! قال: شَيَّبَتْني هودٌ، والواقعةُ، والمرسلاتِ، وعمَّ يتساءلون، وإذا الشمسُ كُوِّرَتْ)،[رواه الترمذي في السنن برقم: 3297]، وقال المناوي في شرح معنى شيّبتني هود وأخواتها؛ إنّ ما اشتملت عليه تلك السور من ذكرٍ للعذاب، وما حلّ بالأمم المكذّبة السّابقة، وما فيها من تفصيل لأهوال يوم القيامة ما يسبّب تقاحم الهموم والأحزان على المرء، وبالتالي يظهر الشيب في غير أوانه في رأس الإنسان. وقد شاب النبي ﷺ من شدّة خوفه على أمّته إن كذّبت وحادت كالأمم السّابقة. (المناوي، فيض القدير، ج4 ص222).
2- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو قَالَ : أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقَالَ : أَقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ : (اقْرَأَ ثَلَاثًا مِنْ ذَوَاتِ ﴿الر﴾). قَالَ الرَّجُلُ: كَبِرَتْ سِنِّي، وَاشْتَدَّ قَلْبِي ، وَغَلظَ لِسَانِي؟ قَالَ : ((اقْرَأَ ثلَاثاً مِنْ ذَوَاتِ ﴿حَمَ﴾). قَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الأُولَى، فَقَالَ : ((اقْرَأْ ثَلاثًا مِنَ الْمُسَبْحَاتِ)). فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الأُولَى، قَالَ: لَكِنْ أَقْرِئْنِي سُورَةٌ جَامِعَةً، فَأَقْرَأَهُ ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، قَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهَا أَبَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ، أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ )). [رواه النسائي في السنن الكبرى (١٠٤٨٤) والحاكم (٣٩٦٤) وصححه ووافقه الذهبي]. و(سورة هود) من ذوات ﴿الر﴾ أي تبدأ بهذه الحروف الهجائية.
3- عَنْ وَائِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ : ((أُعْطِيتُ مَكَانَ التَّوْرَاةِ السَّبْعَ، وَمَكَانَ الزَّبُورِ الْمِنِينَ، وَمَكَانَ الْإِنْجِيلِ الْمَثَانِيَ، وَفَضَّلْتُ بِالْمُفَضَّل )). [رواه البيهقي في شعب الإيمان (۲۱۹۲)، وحسن إسناده الألباني في السلسة (١٤٨٠)]. و(سورة هود) من المنين، التي أوتيها النبي ﷺ مكان الزبور.
- موضوعات سورة هود:
إن المتتبع لآيات هذه السورة الكريمة والناظر في آياتها يجد أنها تحمل العديد من المواضيع، منها:
- دعوة القرآن الصريحة تتجه بشكلٍ كامل إلى عبودية الله المنعم والمتفضّل على عباده، وإفراده بالعبادة والطاعة والمحبّة والخضوع المطلق.
- عناية الله بكل مخلوقاته، وقدرته عزّ وجلّ على بعث جميع الخلائق يوم القيامة للحساب والجزاء، وفي ذلك حثٌّ للمؤمن على دوام مراقبة الله تعالى منتظرًا منه الجزاء الأوفى
- ذكرت السورة صفات النفس وأخلاقها من الفضائل والرذائل، والتي منها تصل أعمال الإنسان الخيّرة أو الضارّة، وبيّنت فضائل الرسل والمؤمنين الذين يصبرون على الشدائد والمكاره، ويكونون عند السعة والرخاء من الشاكرين لأنعم الله، مقابل الكافرين الذين لا يصبرون عند المصيبة ولا يشكرون النعمة.
- بيان ما كان عليه المشركون من عناد في الحق ومكابرة، ودأبهم المستمر في عداوة المصلحين ورثة الأنبياء.
- أشارت قصة سيدنا نوح (عليه السلام) مع ابنه إلى مظهر من مظاهر رحمة الوالد بولده، كفطرة إنسانيّة وغريزة في النفس الإنسانيّة.
- بيان حقيقة أن القصص القرآني الوارد في القرآن عامةً وفي سورة هود بشكلٍ خاص غرضه تثبيت قلب الرسول صلى الله عليه وسلّم، وبالتالي تثبيت قلوب من ساروا على هديه ونهجه.
- إثبات جوهريّة الإيمان باليوم الآخر، وكل ما يتضمنّه هذا اليوم من علامات صغرى وكبرى، ﴿وإِنَّ في ذلِكَ لَآيَةً لِمَن خافَ عَذابَ الآخِرَةِ ذلِكَ يَومٌ مَجموعٌ لَهُ النّاسُ وَذلِكَ يَومٌ مَشهودٌ﴾. [هود: 103] (سعيد خضر، مقاصد وأهداف الحزب الثالث والعشرين من القرآن الكريم، صفحة 32 - 200)
المراجع:
1- سعيد حوا ، كتاب الأساس في التفسير، دار السلام - القاهرة ، الطبعة: السادسة، ١٤٢٤ هـ
2- تفسير التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»، الغمام محمد الطاهر ابن عاشور، الدار التونسية للنشر - تونس، ١٩٨٤ هـ، ج 12
3- المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة دراسة الأسباب رواية ودراية، خالد بن سليمان المزيني، دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة: الأولى، (١٤٢٧ هـ - ٢٠٠٦ م).
4- سعيد طه خضر، مقاصد وأهداف الحزب الثالث والعشرين من القرآن الكريم، الناشر: الجامعة الإسلامية، 2014م، (دراسة تحليلية).
5- سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة: الأولى 1416هـ - 1996م.
6- فيض القدير شرح الجامع الصغير، زين الدين محمد بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي، المكتبة التجارية الكبرى – مصر، الطبعة: الأولى، ١٣٥٦هـ.