السبت

1446-06-13

|

2024-12-14

"التمكين والشهود الحضاري الإسلامي" (3)

(البعد الدستوري الحضاري للإسلام .. وثيقة المدينة نموذجاً)

د. علي محمد الصلابي

 

فور وصول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، نظّمَ العلاقات بين سكانها، وكتب في ذلك كتاباً أوردته المصادر التَّاريخية، واستهدف هذا الكتاب أو الصَّحيفة توضيح التزامات جميع الأطراف داخل المدينة، وتحديد الحقوق والواجبات، وقد سُمِّيت في المصادر القديمة بالكتاب والصَّحيفة، وأطلقت الأبحاث الحديثة عليها لفظة (الدُّستور).

وقد تضمَّنت الصَّحيفة مبادئ عامَّةً، درجت دساتير الدُّول الحديثة على وضعها فيها، وفي طليعة هذه المبادئ، تحديد مفهوم الأمَّة؛ فالأمَّة في الصَّحيفة تضمُّ المسلمين جميعهم، مهاجريهم وأنصارهم، وَمَنْ تبعهم ممَّن لحق بهم وجاهد معهم، أمَّةٌ واحدةٌ من دون النَّاس (محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السِّياسيَّة، ص 41 ـ 47)، وهذا شيءٌ جديدٌ كلَّ الجدَّة في تاريخ الحياة السِّياسيَّة في جزيرة العرب؛ إذ نقل الرَّسول صلى الله عليه وسلم قومه من شعار القبليَّة والتَّبعيَّة لها، إلى شعار الأمَّة الَّتي تضمُّ كلَّ من اعتنق الدِّين الجديد، فلقد قالت الصَّحيفة عنهم في الفقرة الأولى والثانية أنهم: «إنَّهم أمَّةٌ واحدةٌ»، وهو ما جاء به القرآن الكريم. قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 92]، وبيَّن سبحانه وتعالى وسطية هذه الأمَّة في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143]، ووضَّح - سبحانه وتعالى -: أنَّها أمَّةٌ إيجابيَّة؛ فهي لا تقف موقف المتفرِّج من قضايا عصرها؛ بل تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتدعو إلى الفضائل وتحذِّر من الرَّذائل. قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: 110] .

وبهذا الاسم الَّذي أُطلق على جماعةٍ من المسلمين والمؤمنين، ومَنْ تبعهم من أهل يثرب، اندمج المسلمون على اختلاف قبائلهم في هذه الجماعة؛ الَّتي ترتبط فيما بينها برابطة الإسلام؛ فهم يتكافلون فيما بينهم، وهم ينصرون المظلوم على الظَّالم، وهم يرعون حقوق القرابة والمحبَّة والجوار (السَّيِّد عبد العزيز سالم، التَّاريخ السِّياسيُّ والحضاريُّ، ص 100).

واعتبرت الصَّحيفة اليهود جزءاً من مواطني الدَّولة الإسلاميَّة، وعنصراً من عناصرها؛ ولذلك قيل في الصَّحيفة: «وإنَّه من تبعنا من يهود، فإنَّ له النَّصر والأسوة غير مظلومين، ولا متناصرٌ عليهم»، ثمَّ زاد هذا الحكم إيضاحاً، حيث نصَّ فيها صراحةً بقوله: «وإنَّ يهود بني عوف أمَّةٌ مع المؤمنين...». وبهذا نرى أنَّ الإسلام قد اعتبر أهل الكتاب؛ الَّذين يعيشون في أرجائه مواطنين في دولته، وأنَّهم أمَّةٌ مع المؤمنين، ما داموا قائمين بالواجبات المترتِّبة عليهم؛ فاختلاف الدِّين ليس - بمقتضى أحكام الصَّحيفة - سبباً للحرمان من مبدأ المواطنة (ظافر القاسمي، نظام الحكم ، ص 1/37).

كما جعلت الصَّحيفة الفصل في كل الأمور بالمدينة يعود إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقد نصَّت على مرجع فضِّ الخلاف بوضوح، فقد جاء فيها: «وإنَّه مهما اختلفتم فيه من شيءٍ، فإنَّ مردَّه إلى الله، وإلى محمَّد صلى الله عليه وسلم» والمغزى من ذلك واضحٌ، وهو تحديد مرجعية الدولة والتأكيد عليها، وهو السلطة الدينية العليا التي تُهيمن على المدينة وتفصل في الخلافات؛ منعاً لقيام اضطراباتٍ في الدَّاخل من جرَّاء تعدُّد السُّلطات، وفي الوقت نفسه تأكيدٌ ضمنيٌّ برئاسة الرَّسول صلى الله عليه وسلم على الدَّولة (السَّيِّد عبد العزيز سالم، التَّاريخ السِّياسيُّ والحضاريُّ، ص 102)، فقد حدَّدت الصَّحيفة مصدر السُّلطات الثلاثة: التَّشريعية والقضائية والتَّنفيذية، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، حريصاً على تنفيذ أوامر الله، من خلال دولته الجديدة؛ لأنَّ تحقيق الحاكمية لله على الأمَّة هو محض العبوديَّة لله تعالى؛ وبذلك يتحقَّق التَّوحيد ويقوم الدِّين. قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 40] . يعني: «ما الحكم الحـقُّ في الرُّبوبيـة، والعقائـد، والعبادات، والمعاملات إلا لله وحده، يوحيه لمن اصطفاه من رسله، لا يمكن لبشرٍ أن يحكم فيه برأيه وهواه، ولا بعقله واستدلاله، ولا باجتهاده واستحسانه، فهذه القاعدة هي أساس دين الله تعالى على ألسنة جميع رسله، لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة» (محمد رشيد رضا، تفسير المنار، ص 12/309).

وقد اعترف اليهود في هذه الصَّحيفة بوجود سلطة قضائيَّة عليا يرجع إليها سكَّان المدينة - بما فيهم اليهود -، لكنَّ اليهود لم يُلزَموا بالرُّجوع إلى القضاء الإسلاميِّ دائماً؛ بل فقط عندما يكون الحدث أو الاشتجار بينهم وبين المسلمين، أمَّا في قضاياهم الخاصَّة وأحوالهم الشَّخصيَّة، فهم يحتكمون إلى التَّوراة ويقضي بينهم أحبارها، ولكن إذا شاؤوا؛ فبوسعهم الاحتكام إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد خيَّر القرآن الكريم النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بين قبول الحكم فيهم أو ردِّهم إلى أحبارهم، قال تعالى: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [المائدة: 42] .

وبهذه الصَّحيفة الَّتي أقرَّت على «أنَّه ما كان بين أهل هذه الصَّحيفة من حدثٍ، أو اشتجارٍ يُخاف فساده. فإنَّ مردَّه إلى الله، وإلى محمَّدٍ رسوله صلى الله عليه وسلم» أصبح للرَّسول صلى الله عليه وسلم سلطةٌ قضائيَّةٌ مركزيَّةٌ عليا، يرجع إليها الجميع، وجعلها ترجع إلى الله وإلى الرَّسول صلى الله عليه وسلم، ولها قوَّةٌ تنفيذيَّةٌ؛ لأنَّ أوامر الله واجبة الطَّاعة وملزمة التَّنفيذ، كما أنَّ أوامر الرَّسول صلى الله عليه وسلم هي من الله وطاعتها واجبةٌ. وبذلك أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم رئيسَ الدَّولة، وفي الوقت نفسه رئيس السُّلطة القضائيَّة، والتَّنفيذيَّة، والتَّشريعية؛ فقد تولَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم السُّلطات الثلاث، بصفته رسول الله صلى الله عليه وسلم، المكلَّف بتبليغ شرع الله، والمفسِّر لكلام الله، والسُّلطة التَّنفيذيَّة بصفته الرَّسول الحاكم ورئيس الدَّولة، فقد تولَّى رئاسة الدَّولة وَفْقَ نصوص الصَّحيفة، وباتفاق الطَّوائف المختلفة الموجودة في المدينة، ممَّن شملتهم نصوص الصَّحيفة الَّتي تقرِّر في إحدى موادها أنَّه: «لا يخرج منهم أحدٌ إلا بإذن محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» ولهذا تأثيرٌ كبيرٌ في عدم السَّماح لهم بمحالفة قريش، أو غيرها من القبائل المعادية (كامل سلامة الدقس، دولة الرَّسول صلى الله عليه وسلم من التَّكوين إلى التَّمكين، ص 418-420).

لقد حددت صحيفة المدينة بوضوح الأسس والقواعد التي يقوم عليها المجتمع الجديد والدولة الوليدة في المدينة المنورة، ومثّلت تلك الصحيفة ببنودها سابقةً تاريخية، فقد اعتبرها الكثير من المؤرخين من أولى النماذج الدستورية تاريخياً، كما احتوت هذه الوثيقة على القواعد والقيم السياسية والاجتماعية في أفضل صورها، وبشكل متقدم وسابق لكثير من المفاهيم الحديثة والمعاصرة للعلاقة بين الحاكم والمحكومين، وأيضاً العلاقة بين مكونات وأطياف الشعب والأمة.

المراجع:

1. كامل سلامة الدقس، دولة الرَّسول (ﷺ) من التَّكوين إلى التَّمكين، دار عمَّار - عمَّان، الطَّبعة الأولى، 1415هـ 1994م.

2. محمَّد رشيد رضا، تفسير المنار، دار المعرفة، بيروت - لبنان.

3. محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السِّياسيَّة.

4. السَّيِّد عبد العزيز سالم، التَّاريخ السِّياسيُّ والحضاريُّ.

5. ظافر القاسمي، نظام الحكم في الشَّريعة والتَّاريخ الإسلامي، دار النفائس، الطَّبعة السادسة 1411 هـ 1990 م.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022