التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (31)
"التعلق بالدين وخطورة إيثار الدُّنيا على الآخرة "
بقلم: د. علي محمد الصَّلابي
وردت نصوصٌ عديدةٌ من آيات وأحاديث، تبيِّن منزلة الدُّنيا عند الله وتصف زخارفها، وأثرها على فتنة الإنسان، وتحذِّر من الحرص عليها. قال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران: 14]، وقال تعالى: ﴿فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ [لقمان: 33].
وقد حذَّر الرَّسول الكريم (ﷺ) أمَّته من الاغترار بالدُّنيا والحرص الشَّديد عليها في أكثر من موضعٍ، وذلك لما لهذا الحرص من أثر سيِّىءٍ على الأمَّة عامَّةً، وعلى مَنْ يحملون لواء الدَّعوة خاصَّةً؛ ومن ذلك ما روي عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه عن النَّبيِّ (ﷺ) قال: «إنَّ الدُّنيا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وإنَّ الله مستخلفُكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدُّنيا، واتَّقوا النِّساء؛ فإنَّ أوَّل فتنة بني إسرائيل كانت في النِّساء» [مسلم (2742)، وأحمد (3/22)، وابن حبان (3221)] ويظهر للباحث في السيرة النبوية أثر الحرص على الدُّنيا في غزوة أحدٍ.
قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: لـمَّا هزم الله المشركين يوم أُحدٍ، قال الرُّماة: «أدركوا النَّاس؛ ونبيَّ الله؛ لايسبقوكم إلى الغنائم؛ فتكون لهم دونكم». وقال بعضهم: «لا نريم حتَّى يأذن لنا النَّبيُّ(ﷺ)» (ابن أبي العز الحنفي، 1992، ص 2/540)، فنزلت: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾ [آل عمران: 152]. قال الطَّبريُّ: قولـه سبحانه: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾ يعني الغنيمة. قال ابن عباس ما كنت أرى أحداً من أصحاب رسول الله (ﷺ) يريد الدُّنيا حتى نزل فينا يوم أحدٍ: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾.
إنَّ الَّذي حدث في أُحدٍ، عبرةٌ عظيمةٌ للدُّعاة، وتعليمٌ لهم بأنَّ حبَّ الدُّنيا قد يتسلَّل إلى قلوب أهل الإيمان ويخفى عليهم، فيؤثرون الدُّنيا ومتاعها على الآخرة ومتطلَّبات الفوز بنعيمها، ويعصون أوامر الشَّرع الصَّريحة؛ كما عصى الرُّماة أوامر الرَّسول (ﷺ) الصَّريحة بتأويلٍ ساقطٍ، يرفعه هوى النَّفس وحبُّ الدُّنيا، فيخالفون الشَّرع وينسون المحكم من أوامره، كلُّ هذا يحدث ويقع من المؤمن؛ وهو غافلٌ عن دوافعه الخفيَّة، وعلى رأسها حبُّ الدُّنيا وإيثارُها على الآخرة ومتطلَّبات الإيمان، وهذا يستدعي من الدُّعاة التَّفتيش الدَّائم الدَّقيق في خبايا نفوسهم، واقتلاع حبِّ الدُّنيا منها، حتَّى لا تحولَ بينهم وبين أوامر الشَّرع، ولا تُوقعهم في مخالفته بتأويلاتٍ ملفوفةٍ بهوى النَّفس، وتَلفُّتها إلى الدُّنيا ومتاعها.
قال ابن كثير: لـمَّا انهزم مَنِ انهزم من المسلمين يوم أُحدٍ، وقُتل مَنْ قُتِل منهم، نادى الشَّيطانُ: ألا إن محمَّداً قد قُتل، ورجع ابنُ قميئةَ إلى المشركين، فقال لهم: قتلتُ محمَّداً، وإنَّما كان قد ضرب رسولَ الله (ﷺ) فشجَّه في رأسه، فوقع ذلك في قلوب كثيرٍ من الناس، واعتقدوا: أنَّ رسول الله (ﷺ) قد قُتِل، وجَوَّزوا عليه ذلك، كما قد قصَّ الله عن كثيرٍ من الأنبياء - عليهم السَّلام - فحصل ضعفٌ ووهنٌ وتأخُّرٌ عن القتال، ففي ذلك أنزل الله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 144] أي: له أُسوةٌ بهم في الرِّسالة، وفي جواز القتل عليه (زيدان، 1997، ص 2/197).
وقد جاء في تفسير الآية السَّابقة: «إنَّ الرُّسل ليست باقيةً في أقوامها أبداً، فكلُّ نفسٍ ذائقةُ الموت، ومهمَّة الرَّسول تبليغ ما أُرسل به؛ وقد فعل، وليس من لوازم رسالته البقاء دائماً مع قومه، فلا خـلودَ لأحدٍ في هذه الدُّنيـا، ثمَّ قال تعالى منكراً على مَنْ حصل له ضعفٌ لموت النَّبيِّ (ﷺ) أو قتله: ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ أي: رجعتم وقعدتم عن الجهاد، والانقلاب على الأعقاب يعني: الإدبار عمَّا كان رسول الله (ﷺ) يقوم به من أمر الجهاد ومتطلَّباته» (ابن كثير، د.ت، ص 1/441).
لقد كان من أسباب البلاء والمصائب الَّتي حدثت للمسلمين يوم أُحدٍ: أنَّهم ربطوا إيمانهم وعقيدتهم ودعوتهم إلى الله لإعلاء كلمته، بشخص رسول الله (ﷺ)، فهذا الرَّبط بين عقيدة الإيمان بالله ربّـاً معبوداً وحدَه، وبين بقاء شخص النَّبيِّ (ﷺ) خالداً فيهم خالطه الحبُّ المغلوب بالعاطفة، والرَّبط بين الرِّسالة الخالدة وبين الرَّسول (ﷺ)، البشر؛ الَّذي يلحقه الموت كان من أسباب ما نال الصَّحابةَ رضي الله عنهم من الفوضى والدَّهشة والاستغراب، ومتابعة الرَّسول (ﷺ) أساس وجوب التأسِّي به في الصَّبر على المكارِه، والعمل الدَّائب على نشر الرِّسالة وتبليغ الدَّعوة ونصرة الحقِّ.
وهذا التَّأسِّي هو الجانب الأغرُّ من جوانب منهج رسالة الإسلام، لأنَّه الدِّعَامَةُ الأولى في بناء مسيرة الدَّعوة لإعلاء كلمة الله ونشرها في آفاق الأرض، وعدم ربط بقاء الدِّين واستمرار الجهاد في سبيله ببقاء شخص النَّبيِّ (ﷺ) في هذه الدُّنيا، لا يلحقه فناءٌ بموتٍ أو قتلٍ، وإيجاب متابعة الرَّسول (ﷺ) والتأسِّي به علماً وعملاً هما الوَشيجةُ العظمى لتماسك المجتمع المسلم، ولا سيَّما الدُّعاة إلى الله من أتباعه (زيدان، 1997، ص 2/200).
المراجع:
1. ابن كثير، (د.ت)، تفسير القرآن العظيم، لابن كثيرٍ القرشيِّ، دار الفكر، ودار القلم، بيروت - لبنان، الطَّبعة الثانية.
2. ابن أبي العز الحنفي، (1992)، شرح العقيدة الطَّحاويَّة، تحقيق وتعليق وتخريج أحاديث وتقديم: د. عبد الله بن عبد المحسن التُّركي وشعيب الأرناؤوط، ط4، 1412هـ 1992م، مؤسَّسة الرِّسالة - بيروت.
3. زيدان، عبدالكريم، (1997)، المستفاد من قصص القرآن للدَّعوة والدُّعاة، مؤسَّسة الرِّسالة، الطَّبعة الأولى 1418 هـ 1997 م.
4. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ج 2، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 109-112.