الإثنين

1446-08-11

|

2025-2-10

التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (43)

" دعوة الملوك والأمراء "

بقلم: د. علي محمد الصَّلابي

 

في أعقاب صلح الحديبية انساح المدُّ الإسلامي إلى أطراف الجزيرة العربيَّة، بل تجاوزها إلى ما وراء حدود الجزيرة العربيَّة، فمنذ أن عقد الرَّسول (ﷺ) صلح الحديبية مع قريشٍ، وما تلا ذلك من إخضاع يهود شمال الحجاز في خيبر، ووادي القرى، وتيماء، وفَدَك إلى سيادة الإسلام؛ فإنَّ الرَّسول (ﷺ) لم يألُ جهداً لنشر الإسلام خارج حدود الحجاز، وكذلك خارج حدود الجزيرة العربيَّـة، وقد عبَّر (ﷺ) عن هذا المنهج قولاً وعملاً من خلال إرساله عدداً من الرُّسل، والمبعوثين إلى أمراء أطراف الجزيرة العربيَّة، وإلى ملوك العالم المعاصر خارج الجزيرة العربيَّة.

وتُعَدُّ هذه الخُطوة نقطة تحوُّلٍ مهمَّةٍ في تاريخ العرب، والإسلام، ليس لأنَّ الرَّسول (ﷺ) سوف يوحِّد عرب الجزيرة العربيَّة تحت راية الإسلام، فحسب، ولكن لأنَّ هؤلاء العرب بعد أن اعتنقوا الإسلام، وتمثَّلوا رسالة السَّماء أنيط بهم حمل الدَّعوة الإسلاميَّة إلى البشريَّة كافَّةً (العقيلي، 1986، ص 15).

ويشير المنهج النَّبويُّ في دعوة الزُّعماء والملوك إلى ما يجب أن تكون عليه وسائل الدَّعوة، فإلى جانب دعوة الأمراء، والشُّعوب اختار الرَّسول (ﷺ) أسلوباً جديداً من أساليب الدَّعوة، وهو مراسلة الملوك، ورؤساء القبائل، وكان لأسلوب إرسال الرَّسائل إلى الملوك، والأمراء أثرٌ بارزٌ في دخول بعضهم الإسلام، وإظهار الودِّ من البعض الآخر، كما كشفت هذه الرَّسائل مواقف بعض الملوك، والأمراء من الدَّعوة الإسلامية، ودولتها في المدينة، وبذلك حقَّقت هذه الرَّسائل نتائج كثيرةً، واستطاعت الدَّولة الإسلاميَّة من خلال ردود الفعل المختلفة تجاه الرَّسائل أن تنـتهج نهجـاً سياسيّـاً، وعسكريّـاً واضحـاً، ومتميِّزاً (المهيري، 1995، ص 112).

كان في رسائل رسول الله (ﷺ) للملوك فوارقُ دقيقةٌ مؤسَّسةٌ على حكمة الدَّعوة، روعي فيها ما يمتاز به هؤلاء الملوك في العقائد الَّتي يدينون بها، و(الخلفيَّات) الَّتي يمتازون بها، فلمّا كان هرقل، والمقوقس يدينان بألوهيَّة المسيح كلِّيّاً، أو جزئيّاً، وكونه ابنُ الله، جاءت في الكتابَيْن اللَّذين وُجِّها إليهما كلمة (عبد الله) مع اسم النَّبيِّ (ﷺ) صاحب هاتين الرِّسالتين، فيبتدئ الكتابان بعد التَّسمية بقوله: «من محمَّدٍ عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الرُّوم» وبقوله: «من محمَّد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القِبْط» بخلاف ما جاء في كتابه (ﷺ) إلى كسرى أبرويز، فاكتفى بقوله: «من محمَّد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس» وجاءت كذلك آية: ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64] في هذين الكتابين، وما جاءت في كتابه إلى كسرى أبرويز؛ لأنَّ الآية تخاطب أهل الكتاب؛ الَّذين دانوا بألوهيَّة المسيح، واتَّخذوا أحبارهم، ورهبانهم أرباباً من دون الله، والمسيح ابن مريم، وقد كان هرقل إمبراطور الدَّولة البيزنطيَّة، والمقوقس حاكم مصر قائدين سياسيَّين، وزعيمين دينيَّين كبيرين للعالم المسيحي، مع اختلافٍ يسيرٍ في الاعتقاد في المسيح: «هل له طبيعةٌ أم طبيعتان؟» (الندوي، 1988، ص 38-39).

أظهر الرَّسول (ﷺ) في سياسته الخارجيَّة درايةً سياسيَّةً فاقت التَّصوُّر، وأصبحت مثالاً لمن جاء بعده من الخلفاء، كما أظهر (ﷺ) قوَّةً، وشجاعةً فائقتين، فلو كان غير رسول الله (ﷺ)؛ لخشي عاقبة ذلك الأمر، لا سيَّما وأنَّ بعض هذه الكتب قد أرسلت إلى ملوكٍ أقوياء على تخوم بلاده؛ كهرقل، وكسرى، والمقوقس، ولكنَّ حرص رسول الله (ﷺ)، وعزيمته على إبلاغ دعوة الله، وإيمانه المطلق بتأييد الله - سبحانه وتعالى -، كلُّ ذلك دفعه لأن يُقْدِم على ما أقدم عليه، وقد حقَّقت هذه السِّياسة النتائج الآتية:

أ - وطَّد الرَّسول (ﷺ) بهذه السِّياسة أسلوباً جديداً في التَّعامل الدَّوليِّ لم تكن تعرفه البشريَّة من قبلُ.

ب - أصبحت الدَّولة الإسلاميَّة لها مكانَتُها، وقوَّتُها، وفرضت وجودها على الخريطة الدَّوليَّة لذلك الزَّمان.

ج - كشفت للرَّسول (ﷺ) نوايا الملوك، والأمراء، وسياستهم نحوه، وحكمهم على دعوته.

د - كانت مكاتبة الملوك خارج جزيرة العرب تعبيراً عمليّاً على عالمية الدَّعوة الإسلاميَّة، تلك العالميَّة الَّتي أوضحتْها آيات نزلت في العهد المكِّي، مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].

وهكذا، فإنَّ رسائل النَّبيِّ (ﷺ) إلى أمراء العرب والملوك المجاورين لبلاده تُعَدُّ نقطة تحوُّلٍ في سياسة دولة الرَّسول الخارجيَّة، فعظم شأنُها، وأصبحت لها مكانةٌ دينيَّةٌ، وسياسيَّةٌ بين الدُّول، وذلك قبل فتح مكة، كما أنَّ هذه السياسة مهَّدت لتوحيد الرَّسول (ﷺ) لسائر أنحاء بلاد العرب في عام الوفود (معطي، 1998، ص 351).

المراجع:

1. المهيري، سعيد عبدالله حارب، (1995)، العلاقات الخارجية للدَّولة الإسلاميَّة، مؤسَّسة الرِّسالة، الطَّبعة الأولى، 1416هـ 1995م.

2. معطي، علي، (1998)، التَّاريخ السِّياسيُّ والعسكريُّ لدولة المدينة في عهد الرَّسول (ﷺ)، استراتيجيَّة الرسول السِّياسيَّة والعسكريَّة، مؤسَّسة المعارف - بيروت، الطَّبعة الأولى، 1419 هـ، 1998 م.

3. الندوي، أبو الحسن علي الحسني، (1988)، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، الطَّبعة السابعة، 1408 هـ 1988 م، دار المعارف.

4. العقيلي، محمد، (1986)، السَّفارات النَّبويَّة، دار إحياء العلوم - بيروت، الطَّبعة الأولى، 1406هـ 1986م.

5. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ج 2، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 313-316.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022