"اتباع الحق مُوجَبُ معرفته والإقرار به"
د. علي محمد الصلابي
إن أول ما أنعم الله به على عباده هو خلقهم وإخراجهم من العدم إلى الوجود، فكانت نعمة الإيجاد أولى النعم وأعظم البدايات، قال جل وعلا: ﴿أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا﴾ "مريم: 67". ومنذ تلك اللحظة الأولى، والنعم الإلهية تتوالى على الناس من كل صوب، فتحيط بنا وتغمرنا في كل حين، من غير أن نحصيها أو نوفيها قدرها، فضلاً عن تأدية حق شكرها، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ "إبراهيم: 34".
وما من نعمة أجل وأسمى من نعمة الإسلام، التي خصّنا الله بها وهدانا إليها، فأبعدنا بها عن ضلال الجاهلية، وميزنا بها عن سائر الأمم. إنها النعمة التي لا تعادلها نعمة، والتي تسمو فوق كل عطاء دنيوي من مال أو صحة أو ولد. ذلك أن من اهتدى إلى الحق فقد حاز الفضل من مجامعه، وهو عن غير ذلك لغني، أما من ضل عن الحق فقد خسر الدنيا والآخرة، وما نعمه في حياته إلا متاع الغرور واستدراجٌ إلى الخسران العظيم يوم المعاد.
وقد قال الله تعالى: ﴿اليومَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ علَيْكُم نِعْمَتي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلَامَ دِينًا﴾ "المائدة: 3"، فدلّ ذلك على أن الهداية إلى هذا الدين هي تمام النعمة وكمال الفضل. ولكن الهداية لا تكتمل إلا بالثبات عليها، والعمل بما توجبه، وملازمة الصراط المستقيم دون انحراف، ولهذا كان الدعاء بالهداية والثبات من أوجب ما يتقرب به العبد إلى ربه. وقد فرض الله هذا الدعاء على عباده وجعله جزءاً لا يُستغنى عنه في كل صلاة، بل لا تصح الصلاة إلا به، وهو قولنا في كل ركعة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ "الفاتحة: 6". وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب".
وقد كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم يدركون أنه لا قيمة لمعرفة الحق والإقرار به إن لم يتبع ذلك ويرافقه هذا اتباع الحق والعمل بمقتضاه، فكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثير التضرع إلى الله بهذا الدعاء ذي العميق المعنى: "اللهم أرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه"، وهو دعاء جامع، يُظهر أن اتباع الحق والبعد عن الباطل ليسا مجرد اختيار، بل هما فرض على المسلم وواجب لا يتم الإيمان إلا به، وهما أيضاً من أعظم أبواب الرزق التي يهبها الله لمن يشاء. فالحق يُعرف، والعمل به توفيق رباني، والباطل يُبصر، ومجانبته نعمةٌ وفضل من الله تعالى.
فالإيمان في الإسلام ليس معرفة عقلية مجردة، ولا إقراراً لفظياً خالياً من الأثر، بل هو تصديق بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، وهذا ما أجمع عليه علماء أهل السنّة والجماعة منذ عصر صدر الإسلام. وقد نقل عن الحسن البصري رحمه الله قوله: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل"، فلابد من عمل يعكس الإيمان ويبرهن عليه، كالصلاة والزكاة والصيام، والحج لمن استطاع إليه سبيلاً، والتحلي بأخلاق الإسلام وتبني قيمه وفضائله في المعاملة مع الخلق.
وقد قرر علماء السلف أن الإيمان يتكون من قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، بخلاف قول المرجئة الذين ضلوا في هذا الأصل، فزعموا أن الإيمان محله القلب فقط، ولا يزيد ولا ينقص، بل ذهب بعضهم إلى أن العمل لا أثر له، وأن المعاصي لا تضر مع وجود الإيمان، وهو قول باطل، يخالف نصوص الوحي جملة وتفصيلاً.
وهذا ضلال بعيد ومخالفة صريحة لظاهر القرآن الكريم والسنّة النبوية، فالله سبحانه وتعالى ربط بين الإيمان والعمل الصالح مراراً وتكراراً وبصيغة العطف فيساوي بينهما لغوياً بالقيمة والأهمية، وذلك في عبارة: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ التي وردت وتكررت في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، في دلالة واضحة على التلازم الدائم والاقتران القطعي بين الإيمان والعمل المصدق له. بل إن العمل الصالح ورد في موضع الشرط للنجاة والفوز في الآخرة بعد الإيمان، في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى﴾ "طه: 75".
وفي مقام الحساب والجزاء، لم يقتصر الخطاب الإلهي على الإيمان المجرد، بل أكّد على أهمية العمل بوصفه معيار الثواب، قال تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ "الحجر: 92-93"، وقال أيضاً: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ "سبأ: 37". ومن ذلك أن المؤمنين لما دعوا ربهم بعد أن أقروا بإيمانهم قائلين: ﴿رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ " آل عمران: 193"، جاء بعدها قوله تعالى بالرد عليهم: ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ﴾ " آل عمران: 195"، فخص الإجابة بالعمل، مع أن الإقرار كان بالإيمان.
وإذاً، فمعرفة الحق واتباعه هو النعمة الحقيقية وهو الفضل العظيم، وما دونه سراب، فإنه لو ملك أحدهم ذهب الأرض وقصور الدنيا وترفع في المناصب والرتب، وحاز الملك والجاه بأسمى صوره، لكنه بعد أن عرف ورأى الحق رفض اتباعه ظلماً وعلواً، وأبى واستكبر فلم يعمل بمقتضاه عامداً قاصداً، لكان من شر الخاسرين في الدنيا والآخرة، ولخرج من دنياه صفر اليدين، ولحشر في جهنم مذموماً مدحوراً. وإنه لو كان أحدهم عبداً فقيراً لا يملك قوت يومه، ولا يؤبه به بين الناس، ولا يعرفونه، ثم تواضع للحق وقبله بعد أن علمه، واعترف به بعد أن عرفه، فاتبعه واجتهد بالعمل بمقتضاه، لكن من خير الفائزين في الدارين، ولحاز الفضل من مجامعه، ولكان أسعد من ملوك الأرض الضالين الفاسقين. ولذلك فإن شر نقمة يمكن أن تحل بالإنسان هو سخط الله عليه لتكبره عن قبول الحق، فيصرفه الله تعالى عن الهدى، وييسر له سبل الضلالة أكثر فأكثر، قال سبحانه: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ "الأعراف: 146". وإنها والله لشر عقوبة وأخطر نازلة تحل بالإنسان – نعوذ بالله منها -، قال سبحانه: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ﴾ "الجاثية: 23".
فنسأله تعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.