من كتاب الوسطية في القرآن الكريم:
(التفريط والإفراط في العبادة)
الحلقة: الثانية والخمسون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1442 ه/ ديسمبر 2020
وقبل أن ألج في بيان منهج القرآن في العبادة، وبيان ملامح الوسطيَّة في ذلك أرى من المناسب ذكر المناهج السائدة فيما يتعلق بالعبادة تفريطاً، وإفراطاً، فأقول وبالله التوفيق:
المنهج الأول: ويمثله اليهود في تفريطهم وجفائهم، فلو تأملنا في التوراة ـ بعد تحريفها ـ لوجدنا تقديس المادة غلب على بنودها، فلا تقرأ في أسفار التوراة ذكراً للآخرة، حتى ما ورد فيها من وعد، ووعيد فإنما هو متعلق بالدنيا فقط، فلا يعمل الشخص إلا لتحقيق كسب عاجل، أو خوفاً من عقوبة عاجلة، بل بلغوا، وطبقوا ماديتهم حتى في معرفة الله، فقالوا: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً } [النساء: 153] وقالوا: { وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ *}[البقرة:55].
ووفقاً لهذا التصور المادي الدنيوي أغرق هؤلاء في تقديس المحسوسات، واتخذوها للرقي، وأصبحت القيم المادية محور الحياة، وتحوَّل الإنسان في نظر هؤلاء إلى الة تتحرك، ومعدة تهضم، وكائن يلهو، وقد وصفهم القرآن الكريم، وبيَّن مدى تعلقهم بالحياة الدنيا، وحرصهم عليها، فقال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96] أيَّ حياة ، حتى لو كانت حياة البهائم ونحوها ؛ وذلك لأنهم يخشون الموت {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 95] ؛ لأنهم ربطوا غايتهم بالدنيا . فعلمهم للدنيا، وعبادتهم لمارب دنيوية! فإذا انتهت الدنيا؛ فقد فاتهم كل شيء ؛ فلهذا أغرقوا في الشهوات، وعبَّدوا أنفسهم للماديات، فهم كمشركي قريش الذين قالوا: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] وهذا المنهج يمثل التفريط في أسوأ صوره وحالاته، ولذلك أمرنا الله أن نستعيذ منه في كل صلاة، ونسأله أن يجنبنا إياه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ *}[الفاتحة: 6 ـ 7].
أما المنهج الثاني: وهو المنهج القائم على الروحانيات، وذلك بإعلائها، وتمجيدها، والإغراق في مفهوم العبادة والرهبنة، ويمثل هذا المنهج النصارى، وهو منهج الإفراط، والغلو، وابتدع النصارى رهبانية قاسية على النفس، تحرم الزواج، وتكبت الغرائز، وتمنع كل أنواع الزينة، وطيبات الرزق، وترى ذلك رجساً من عمل الشيطان وبالغوا في العبادة، وأخرجوها عن كيفيتها، وعن المراد منها، وأصبحت رهبانية غالية مشوهة، مغذية للأجساد، ابتدعوها من أنفسهم، بلا حجَّةٍ ولا برهان، {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27].
ولذلك كانت حالهم ومالهم: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ *وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ *عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ *تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً *}[الغاشية: 1 ـ 4] وهذا المنهج يمثل الإفراط، والغلو، وهو الوجه الثاني من وجوه الانحراف عن الصراط المستقيم ؛ ولذلك أمرنا بأن نسأل الله أن يجنبنا إياه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ *}[الفاتحة: 6 ـ 7]
يمكنكم تحميل كتاب :الوسطية في القرآن الكريم
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: