(فتح مكة وتفاصيل العفو الشامل)
من كتاب العدالة والمصالحة الوطنية: ضرورة دينية وإنسانية
الحلقة: الحادية عشر
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رجب 1442 ه/ فبراير 2021
ما ذكرناه بعض صور البلاء التي كانت تصر عليها قريش تجاه النبي صلى الله عليه وسلم، واستمر العداء للرسالة، والرسول والمؤمنين وكتب السيرة تصور لنا ذلك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة المكرمة موطن قريش التي استمر جحودها وإنكارها للحق بعد إبرام المسلمين عهداً معها هو صلح الحديبية بنقض صلح الحديبية، فقريش استمرت في العدوان، ونكثت العهد وخالفت شروط الصلح وأعانت حلفاءها بني بكر على خزاعة حليفة المسلمين بالخيل والسلاح والرجال وهاجم بنو بكر، حلفاؤهم قبيلة خزاعة عند ماء يقال له الوتير، وقتلوا أكثر من عشرين من رجالها، ولما لجأت خزاعة إلى الحرم الآمن، ولم تكن مجهزة للقتال، لتمنع بني بكر منه، قالت لقائدهم، يا نوفل، إنا قد دخلنا حرم إلهك، فقال نوفل: لا إله اليوم، يا بني بكر أصيبوا ثأركم عندئذ خرج عمرو بن سالم الخزاعي، في أربعين من خزاعة، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة وأخبروه بما كان من بني بكر وبمن أصيب منهم وبمناصرة قريش بني بكر عليهم ووقف عمرو بن سالم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن سمع وتأكد من الخبر أرسل إلى قريش فقال لهم: أما بعد، فإنكم إن تبرؤوا من حلف بني بكر، أتُدوا خزاعة، وإلا أوذنكم بحرب، فقال قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف صهر معاوية: إن بني بكر قوم مشائيم، فلا ندري ما قتلوا لنا سيد ولا لبد، ولا نبرأ من حلفهم، فلم يبق على ديننا أحد غيرهم ولكن نؤذنه بحرب.
وبهذا الكتاب أكد النبي صلى الله عليه وسلم عدم الغدر بقريش، بل أبلغهم بموقفه بوضوح تام كان أبو سفيان ممن خالفوا رأي قريش في خيار حرب المسلمين، ولذا حاول بقدومه المدينة أن يعيد للصلح مكانه ويطيل أمده، إلا أنه لم يجد استجابة للمسلمين.
1ـ ميزان القوى يرجح كفة المسلمين:
أ ـ اقتصادياً: إن قريش لم تكن مستعدة للحرب لا على المستوى الاقتصادي حيث لم يعادل اقتصادها اقتصاد دولة المسلمين التي اتسعت رقعتها بإسلام أغلب القبائل العربية الأمر الذي زاد من موارد الدولة.
ب ـ سياسياً: لم تكن قريش سياسياً في حالة تسمح لها بمواجهة الوحدة السياسية للمسلمين بعد أن تخلصوا من يهود المدينة بعد محاولتهم الغدر واغتيال النبي الكريم، في المقابل كانت قريش منقسمة في مواقفها تجاه المسلمين، فأبوا سفيان والعديد معه لم يكونوا مع خيار الحرب.
ج ـ عسكرياً: كما أن الميزان العسكري لم يكن كذلك متساوياً، فالمسلمين أعدوا بسهولة جيشاً من عشرة الآف مقاتل ولم يكن لقريش ثلث هذا العدد وهكذا كانت كل الظروف لصالح المسلمين وكان من الممكن أن يقضوا على قريش دون أي مقاومة تذكر.
ومع هذا تجاوز سلوك النبي الكريم والمسلمين كل ما يمكن أن يتوقعه الإنسان، فالعفو أمام هذا التراكم من الإيذاء والنكران لابد أن يصدر عن صاحب رسالة تعلو بالإنسان فوق نفسه وحظوظها لأجل غاية تستحق هذا الترفع الممدوح.
2ـ بوادر العفو والغفران:
خرج أبو سفيان بن الحارث، وعبد الله بن أمية بن المغيرة من مكة، فلقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثنية العقاب فيما بين مكة والمدينة، فالتمسا الدخول عليه، فكلمته أم سلمة، فقالت: يا رسول الله، ابن عمك وابن عمتك وصهرك، فقال: لا حاجة لي فيهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال فلما خرج الخبر إليهما بذلك، ومع أبي سفيان بن الحارث ابن له، فقال والله ليأذنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لأخذن بيد ابني هذا ثم لتذهبن في الارض حتى نموت عطشا، أو جوعاً فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لهما، فدخل عليه، فأنشده أبو سفيان قوله في إسلامه واعتذاره مما كان مضى فيه وجاء في الأبيات:
هداني هاد غير نفسي ودلني على الله من طرّدت كل مطرّد
فلما أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم: على الله من طردت كل مطرّد، ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره، فقال: أنت طرّدتني كل مطرّد.
كان أبو سفيان بن الحارث يهجو بشعره رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً، وأما عبد الله بن أمية، فقد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فوالله لا أؤمن بك حتى تتخذ إلى السماء سلماً، ثم ترتقي فيه، وأنا أنظر إليك حتى تأتيها، ثم تأتي بصك معه أربعة من الملائكة يشهدون لك، كما تقول، ثم وايم الله، لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك.
ومع فداحة جرمهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنهما، وقبل عذرهما، وهذا مثال عال في الرحمة والعفو، والتسامح ، ولقد كفرّ أبو سفيان بن الحارث عن أشعاره السابقة بالقصيدة البليغة التي قالهــــا في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وبيان اهتدائه به، ولقد حسن إسلامه، وكان له موقف مشرف في الجهاد مع رسول الله في معركة حنين.
إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقف عند فداحة جرمهم بل عفا عنهما وقبل عذرهما، ولم يتعلل بعظم الاساءة سواء لشخصه صلى الله عليه وسلم أو للإسلام والمسلمين بل تجاوز ذلك بأن صفح عنهما صفحاً جميلاً، وكان له أثراً ايجابياً بعد أن انتشر خبر العفو بين أهل مكة.
3ـ العفو يتواصل مع سيد قريش:
جاء أبو سفيان الذي خرج يلتقط الأخبار، إلى النبي صلى الله عليه وسلم صحبة عمه العباس رضي الله عنه فلم ينشغل النبي صلى الله عليه وسلم في محاسبة أبي سفيان ولم يصرف في مقاضاته وهو كالأسير داخل معسكر المسلمين، بل توجه ليحدثه عن هدف سام عاش النبي صلى الله عليه وسلم لأجله هو الدعوة إلى الله فوجه كلامه لأبي سفيان: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأت لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله، قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك. والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد اغنى عني بعد قال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه والله في النفس منها حتى الآن شيئاً، فقال له العباس: ويحك أسلم قبل أن تضرب عنقك، قال: فشهد شهادة الحق فأسلم قال العباس: قلت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فأجعل له شيئاً، قال: نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.
لقد كان لتلك الطريقة المحمدية أثرها في أبي سفيان الذي تغير إلى الولاء الكامل للدعوة الجديدة وكانت له موقف كبيرة في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة حنين، كما كان هذا الأسلوب النبوي الكريم عاملاً في امتصاص الحقد من قلب أبي سفيان زعيم قريش وبرهن له بأن المكانة التي كانت عند قومه لن تنتقص شيئاً في الإسلام، إن هو أخلص له وبذل في سبيله.
ونحن إذ نعيش ظروفاً في وطننا فإننا ندعو أبناء هذا الوطن إلى التفاوض، طبعاً بعد التعويض الكامل لكل من مسه الأذى ولقيه العنت ووقع عليه الظلم، وإقامة العدل والقسط على القتلة ومن تورط في الاغتصاب، لنمضي تجاه المستقبل فليس فينا من هو خير من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قابل عظيم الجرم والإساءة بعظيم الرحمة والعفو والتسامح، لقد فعل هذا مع قوم إلى جانب الإيذاء والاساءة الكبيرة، فإنهم لم يكونوا مسلمين وأما نحن وقومنا فالإسلام يجمعنا في منطقة وسط نلتقي فيها للتصالح.
4ـ تأمين الأجواء للعفو العام:
لقد أعلن في مكة قبيل دخول جيش المسلمين أسلوب منع التجوال، لكي يتمكنوا من دخول مكة بأقل قدر من الاشتباكات والاستفزازات، وإراقة الدماء واعطى الناس أماناً بالتزام أحد ثلاث
ـ من دخل المسجد فهو آمن.
ـ ومن أغلق بابه فهو آمن.
ـ ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
وجعل صلى الله عليه وسلم لدار أبي سفيان مكانة خاصة كي يكون أبو سفيان ساعده في اقناع المكيين بالسلم والهدوء، ويستخدمه كمفتاح أمان يفتتح أمامه الطريق إلى مكة دون إراقة دماء، ويشيع في نفسه عاطفة الفخر التي يحبها أبو سفيان حتى يتمكن الإيمان في قلبه.
لقد دخل أبو سفيان إلى مكة مسرعاً، ونادى بأعلى صوته: يا معشر قريش هذا محمد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقامت إليه هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه، فقالت: أقتلوا الحَمِيْث الدّسِم الاحْمسَ ـ تشبّهه بالزق لسمنه ـ قُبّح من طليعة قوم، قال: ويلكم، لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا: قاتلك الله وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، وتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.
ولقد دخلت قوات المسلمين مكة دون مقاومة تذكر إلا ما كان من جهة خالد بن الوليد الذي قابل عكرمة بن أبي جهل في نفر ممن خافوا الانتقام، فهزمهم خالد فهربوا خارج مكة، ثم عاد عكرمة ليأخذ أماناً وعفواً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسلم ويشارك في الجهاد في فتوحات الشام ويقتل في اليرموك شهيداً.
5ـ دخول خاشع متواضع:
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام وهو واضع رأسه تواضعاً لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرجل ودخل وهو يقرأ سورة الفتح مستشعراً نعمة الفتح وغفران الذنوب وإفاضة النصر العزيز.
وعندما دخل مكة فاتحاً ـ وهي قلب جزيرة العرب ومركزها الروحي والسياسي، رفع كل شعار من شعائر العدل والمساواة والتواضع والخضوع، فأردف أسامة بن زيد وهو ابن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يردف أحداً من أبناء بني هاشم، وأبناء أشراف قريش، وهم كثير وكان ذلك يوم الجمعة لعشرين ليلة خلت من رمضان سنة ثمان من الهجرة.
يقول محمد الغزالي في وصف دخول النبي صلى الله عليه وسلم لمكة:
على حين كان الجيش الزاحف يتقدم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته تتوج هامته عمامة سوداء، ورأسه خفيض من شدة التخشع لله، لقد انحنى على رحله، وبدأ عليه التواضع الجم، إن الموكب الضخم المهيب الذي ينساب به حثيثاً إلى جوف الحرم، والفيلق الدّارع الذي يحفُّ به ينتظر إشارة منه فلا يبقى بمكة شيء آمن، إن هذا الفتح المبين ليذكره بماض طويل منصوراً مؤيداً وأي كرامة عظمى حقه الله بها هذا الصباح الميمون، وكلما استشعر هذه النعماء ازداد لله على راحلته خشوعاً وانحناء.
6ـ هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة:
حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تأمين الجبهة الداخلية في مكة عند دخوله يوم الفتح، ولذلك عندما بلغه مقولة سعد بن عبادة لأبي سفيان: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، قال صلى الله عليه وسلم: هذا يوم يُعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة.
وأخذ الراية من سعد بن عبادة، وسلمها لأبنه قيس بن سعد، وبهذا التصرف الحكيم حال دون أي احتمال لمعركة جانبية هم في غنى عنها، وفي نفس الوقت لم يُثره ولا آثار الانصار، فهو لم يأخذ الراية من انصاري ويسلمها لمهاجر، بل أخذها من أنصاري وسلمها لابنه، ومن طبيعة البشر ألا يرضى الإنسان بأن يكون أحد أفضل منه إلا ابنه.
ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، واطمأن خرج حتى جاء البيت، فطاف به، وفي يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل يطعنها بالقوس ويقول :" وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا" (الإسراء، آية : 81). وقال تعالى:" قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ" (سبأ، آية : 49).
والأصنام تتساقط على وجوهها، وإنه لمنظر رائع لنصر الله، وعظيم تأييده لرسوله صلى الله عليه وسلم، إذ كان يطعن تلك الآلهة الزائفة المنثورة حول الكعبة بعصا معه، فما يكاد يطعن الواحد منها بعصاه حتى ينكفئ على وجهه، أو ينقلب على ظهره جذاذ، ورأى في الكعبة الصور، والتماثيل، فأمر بالصور وبالتماثيل فكسرت، وأبى أن يدخل جوف الكعبة حتى أخرجت الصور، وكان فيها صورة يزعمون أنها صورة إبراهيم وإسماعيل وفي أيديهما من الازلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قاتلهم الله، لقد علموا ما استقسما بها قط.
ثم دخل البيت وكبّر في نواحيه ثم صلى، فقد روى ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة، فأغلقها عليه، ثم مكث فيها، قال ابن عمر: فسألت بلالاً حين خرج: ما صنع رسول الله؟ قال: جعل عمودين عن يساره، وعموداً عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ثم صلى.
7ـ يوم بر ووفاء:
كان مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة قبل أن يسلم فأراد علي رضي الله عنه أن يكون المفتاح له مع السقاية لكن النبي صلى الله عليه وسلم دفعه إلى عثمان بعد أن خرج من الكعبة، ورده إليه قائلاً: اليوم يوم بر ووفاء، وكان صلى الله عليه وسلم قد طلب من عثمان بن طلحة المفتاح قبل أن يهاجر إلى المدينة، فأغلظ له القول، ونال منه، فحلم عنه، وقال: يا عثمان، لعلك ترى هذا المفتاح يوماً بيدي، أضعه حيث شئت. فقال: لقد هلكت قريش يومئذ، وذلّت، فقال: بل عمرت وعزت يومئذ ووقعت كلمته من عثمان بن طلحة موقعاً، وظن أن الأمر سيصير إلى ما قال، ولقد أعطى له رسول الله صلى الله عليه وسلم مفاتيح الكعبة قائلاً له: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء، خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم.
وهكذا لم يشأ النبي صلى الله عليه وسلم أن يستبد بمفتاح الكعبة، بل لم يشأ أن يضعه في أحد من بني هاشم، لما في ذلك من الإثارة أولاً، ولما به من مظاهر السيطرة، وبسيط النفوذ، وليست هذه من مهام النبوة بإطلاق هذا هو مفهوم الفتح الأعظم في شرعة رسول الله صلى الله عليه وسلم البر والوفاء حتى للذين غدروا، ومكروا وتطاولوا.
إذاً لن يعيبنا اليوم أن نلتزم هذا النهج الكريم وأن نبثه بيننا نحن أبناء الوطن الواحد، مهما تعاظمت الاختلافات، ومهما توالت الاساءات والمظالم، فالعفو والصفح والتغافر هو الأفضل للمتخاصمين، وللوطن وللاجيال القادمة وهذا بالطبع ما سطره لنا التاريخ في فتح مكة.
إن الاقتداء بهذه الخبرة التاريخية شرف لنا قبل أن تكون حلاً ناجحاً لمشاكلنا واختلافاتنا.
8ـ إعلان العفو العام:
نال أهل مكة عفواً عاماً برغم أنواع الأذى التي ألحقوها بالرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته، ورغم قدرة الجيش الإسلامي على إبادتهم، وقد جاء إعلان العفو عنهم، وهم مجتمعون قرب الكعبة، ينتظرون حكم الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم، فقال: ما تظنون أني فاعل بكم، فقالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال:" لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ": أذهبوا فأنتم الطلقاء.
وقد ترتب على هذا العفو العام حفظ الأنفس من القتال أو السبي، وإيفاء الأموال المنقولة، والأراضي بيد أصحابها، وعدم فرض الخراج عليها.
9ـ إهدار النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الدماء:
إلى جانب ذلك الصفح الجميل كان هناك الحزم الاصيل الذي لابد أن تتصف به القيادة الحكيمة الرشيدة، ولذلك استثنى قرار العفو الشامل بضعة عشر رجلاً أمر بقتلهم ـ وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة ـ لأنه عظمت جرائمهم في حق الله ورسوله وحق الإسلام، ولما كان يخشاه منهم من إثارة الفتنة بين الناس بعد الفتح. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وقد جمعت اسماءهم من متفرقات الأخبار، وهم عبد العزى بن خطل، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، وعكرمة بن أبي جهل، والحويرث بن نُقيد ـ مصغراً ومقيس بن صبابة، وهبار بن الاسود، وقينتان لابن الأخطل "فَرْتَنَي، وقُريبة" كانتا تغنيان بهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وسارة موالاة بني عبد المطلب، وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طُلاطل الخزاعي، وذكر الحاكم: أن فيمن أهدر دمه كعب بن زهير، ووحشي بن حرب، وهند بنت عتبة.
ومن هؤلاء من قتل، ومنهم من جاء مسلماً تائباً فعفا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وحسن إسلامه.
10ـ خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وإسلام أهل مكة:
وفي غداة الفتح بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن خزاعة حلفاءه عدت على رجل من هذيل، فقتلوه وهو مشرك برجل قتل في الجاهلية، فغضب وقام بين الناس خطيباً، فقال: يا أيها الناس، إن الله قد حرم مكة يوم خلق السموات والارض فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً، ولا يعضد ـ يقطع ـ فيها شجراً، لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد يكون بعدي ولم تحل لي إلا هذه الساعة غضباً على أهلها ثم قد رجعت كجرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاتل فيها، فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يُحلها لكم.
يا معشر خزاعة، أرفعوا أيديكم عن القتل فلقد كثر القتل إن نفع، لقد قتلتم قتيلاً لأدينه فمن قتل بعد مقامي هذا، فأهله بخير النظرين، إن شاءوا فدم قاتله، وإن شاءوا فعقله.
كان من أثر عفو النبي صلى الله عليه وسلم الشامل عن أهل مكة، والعفو عن بعض من أهدر دماءهم أن دخل أهل مكة رجالاً ونساء وأحراراً وموالي في دين الله طواعية واختياراً، وبدخول مكة تحت راية الإسلام دخل الناس في دين الله أفواجاً، وتمت النعمة ووجب الشكر، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس جميعاً، الرجال والنساءن والكبار والصغار، وبدأ بمبايعة الرجال فقد جلس لهم على الصفا، فأخذ عليهم البيعة على الإسلام والسمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا.
11ـ العفو عن هند بنت عتبة وإسلامها:
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيعة الرجال بايع النساء، وفيهن هند بنت عتبة متنكرة، خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها، لما صنعت بحمزة ـ على الا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن، وأرجلهن ولا يعصين في معروف، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ولا يسرقن قالت هند: يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني ويكفي بني، فهل عليّ من حرج إذا أخذت من ماله بغير علمه ؟ فقال لها صلى الله عليه وسلم : خذي من ماله ما يكفيك وبنيك بالمعروف. ولما قال: "ولا يزنين" قالت هند: وهل تزني الحرة؟ ولما عرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: وإنك هند بنت عتبة؟ قالت: نعم، فأعف عما سلف عفا الله عنك.
يمكنكم تحميل كتاب العدالة والمصالحة الوطنية: ضرورة دينية وإنسانية من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book159.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: