الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

"قصة يوسف عليه السلام: دروس وعبر"
من كتاب العدالة والمصالحة الوطنية: ضرورة دينية وإنسانية
الحلقة: التاسعة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رجب 1442 ه/ فبراير 2021
 
 
بدأت قصة يوسف عليه السلام بالحقد الذي ثار في نفوس اخوته لما رأوا من حب أبيه، فاجتمعوا عن النيل منه وتآمروا على المباعدة بينه وبين أبيه واقترحوا قتله أو الإبعاد، قال تعالى: "اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ" (يوسف ، آية : 9).
وهكذا سرى الحسد البغيض إلى نفوس إخوة يوسف، وقعد الشيطان اللعين يثيرهم ويدفعهم للشر حتى أعلنوا عن خطتهم البشعة قائلين: " اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا".
1ـ من فيض نور الآية الكريمة:
أ ـ الجريمة دائماً لا تفيد، وإنما تؤدي إلى ردود عكسياً فبعد تنفيذ الأخوة لمؤامراتهم ضد أخيهم يوسف وضد أبيهم يعقوب لم يجدوا منه إلا التولي والإعراض عنهم.
ب ـ الحسد البغيض يثير الحقد في النفس ويحجب نور الحق حتى يرتكب صاحبه ما حرم الله.
ج ـ صلاح الحال والمآل وسعادة الدارين لا يكون إلا بالعمل الصالح وليس بإرتكاب الجرائم.
س ـ طلب محبة الغير تكون بفعل ما يحب لا بفعل ما يضره ويحزنه ويبكيه.
ش ـ الحب الخالص لله في القلب لا يحجبه بعد مكان ولا طول زمان.
ك ـ التوبة في الإسلام العظيم باب واسع من رحمة الله تعالى جعلها رب العزة لمن يستحق قبولها.
2 ـ إخوة يوسف كانوا خاطئين:
قال تعالى:" قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ" (يوسف، آية : 91).
لما ذكر يوسف ـ عليه السلام ـ لإخوته أن الله تعالى من عليه، وأن من يتقى ويصبر فإن الله لا يضيعه صدقوه فيه واعترفوا له بالفضل والمزية فقالوا:" تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا" فقد اقسموا بين يديه معلنين ذلك ومعترفين بالخطأ الذي ارتكبوه فـي حقه وفـي حـق أخيه وفـي حـق أبيه ـ عليه السلام ـ وبهذا رجعوا إلى الحق وانقادوا له وندموا على ما فعلوا وتابوا وتمنوا لو يصفح عنهم أخوهم يوسف ويعفو عنهم.
3 ـ العوامل التي ساهمت في توبه إخوة يوسف:
أ ـ العامل الأول:
فأما العامل الأول من عوامل التغيير والتطوير فهو فشلهم في تحقيق مآربهم والوصول إلى غايتهم، وهم قوم إنما يسعوا إلى ارتكاب جريمتهم من أجل الحصول على قلب أبيهم، ومن أجل أن يخلو لهم وجهه، وإذ بهم بعد ارتكاب جريمتهم لا يزدادون منه إلا بعداً ولا يزيد لهم إلا مقتاً ومنهم إلا نفوراً، وكيف يحظون بقلبه الذي فجعوه بأعز عزيز وأحب حبيب؟ وهل أكافئ من يطعن قلبي في العميم بأن أمنحه هذا القلب؟ إنه لأمر عجيب. المهم أن يعقوب لم يزد من جهتهم إلا وحشة وهانوا عليه أضعاف ما كانوا ومن هنا جاء عتابه لهم رقيقاً مريراً قصيراً مفعماً مشحونا يظهر الألم من كل كلمة فيه.
قال تعالى:"سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ".
وأما العامل الثاني:
وأما العامل الثاني فيمكن في عنصر الزمن، ولا ريب أن كر السنين على من عنده خميرة من الإيمان ينضج في نفسه الإحساس بالالم على خطيئته، ولا يتصور من إخوة يوسف أبناء النبي وإحفاد النبي ومن يمتون لابراهيم بأوثق الصلات ومن تربوا في حجر من يتلقى تعليمات السماء لا نتصور إلا أنهم كانوا على شيء من الإيمان يمكن أن يستيقظ فيهم إذا مرت عليهم السنون، وأبوهم لم يتغير قيد شعرة، فلم يسلُ يوسف ولم يخل قلبه منه ولم يتوجه وجهه إليهم، وعامل الزمن كذلك يذهب نزف الشباب وحدّته وطيشه ورعونته وخفته وتفكيراته الهوجاء اللجوجة، وحلوله الصبيانية ، ويعلي من النظرة إلى الأشياء ويصوب من الموازين ، ويعدل في كثير من الأوضاع المقلوبة، فمن لم يكن منهم تزوج فقد تزوج وأنجب البنين وأحب صغيرهم أكثر من كبيرهم تماماً كما كانوا يجدون من أبيهم، كل هذا لعب دوره في تصفية كدورات نفوسهم وقلوبهم وأذهب عنهم الحمية الفارغة.
وأما العامل الثالث:
يمكن فيما أصابهم من قحط وجدب فأهلك زرعهم وأذاب شحمهم وأجاع ولدهم وابكى صبيانهم وأطلق أحزانهم وهمومهم ومن منطلق إيمانهم يعلمون أن ما أصابهم من مصائب انما هو بما كسبت أيديهم وبما صنعوا لأخيهم، فلا ريب يعود لهم الرشد المفقود والوعي الغائب.
تأمل ما لا قوه من معاناة وقد فقد أبوهم بصره وهم يشعرون أنهم السبب في ذلك واستمع إليهم يعودون من عند أبيهم إلى العزيز وهم يقولون:" يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ"
وهكذا تألقت نفوس الإخوة وصفت نحو أبيهم وأنفسهم وأخيهم يوسف وانتقلوا من منتهى التكبر عليه إلى منتهى التواضع له.
قال تعالى:" وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ".
ومن الفوائد من توبة إخوة يوسف عليه السلام:
ـ الاعتراف بالحق والاقرار به فضيلة عظيمة من فضائل الإيمان.
ـ موقف الندم والحسرة والتأسف من اخوة يوسف على ما فعلوه.
ـ ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، فهل من معتبر؟
ـ الاعتراف بالذنب والخطأ سبيل الحظوة بالصفح والعفو.
ـ رجاء الاخوة العظيم في أن يعفو أخوهم يوسف عما فعلوا.
4 ـ مصدر قوة يوسف عليه السلام:
نشأ يوسف عليه السلام على عبادة ربه وأنزعت جوانب قلبه بحبه، ونطقت جوارحه ولهج لسانه بذكره وشكره، عشقت نفسه الزكية صفاة الكمال، ودلت ملامحه وأقواله وأعماله على أنه سيكون له شأن عظيم، فحبب إليه الصبر والحلم والعفة والأمانة، والعلم والحكم والعدل، والعفو والإحسان، وحسده اخوته فألقوه في غيابة الجب وأخرجته السيارة فباعوه بيع العبيد، وكادت له امرأة العزيز فزج في ضيق السجن، وصبر على أذى الاخوة، وكيد امرأة العزيز ومكر النسوة، على ما في الفاحشة من المفاسد، وما في العدول عنها من المصالح، فآثر الأعلى عن الأدنى، واختار عقوبة الدنيا بالسجن على ارتكاب الحرام، فكانت العاقبة أن نجاه الله تعالى منهم، ورفعه فوق اخوته وأذل له العزيز وامرأته، وأقرت المرأة والنسوة ببراءته، ومكن له تعالى في الأرض وجعل له العاقبة والنصر والملك والحكم، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
قال تعالى: " وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ" (القصص ، آية : 5).
وقال تعالى: " وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ " (يوسف ، آية : 56 ـ 57).
5 ـ عفو وصفح ودعاء بالمغفرة:
قال تعالى: " لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" (يوسف ، آية : 92).
ولما احترفوا بتفضيل الله عليهم وأقروا بخطئهم وقدم لهم المعذرة، أجابهم ـ عليه السلام ـ بالصفح، وقال: " لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ" أنه ـ عليه السلام ـ مع قدرته وتمكنه مع ما سلف من اساءتهم، لم يقل لهم إلا قول الكرام، اقتداء باخوانه من الأنبياء والرسل "لاَ تَثْرَيبَ" أي: لا لوم ولا تعنيف ولا هلاك، "عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ" وإن كان هذا الوقت مظنة للوم والتأنيب، فإذا انتفى ذلك فما الظن بما بعده.
إن احساس الاخوة العميق بعظم الذنب، جعلهم يقفون عند حد الاعتراف، ولا يتعدونه إلى طلب العفو، وربما كانوا مهيئين هذا الطلب لعرضه في اللحظة المناسبة أثناء الحديث الذي اعتقدوا أنه سيطول مع أخيهم، ولكن يوسف عليه السلام وفر عليهم مشقة هذا الطلب، ولم يحوجهم للخوض في المسألة التي لا تخص سواه لأكثر من الاعتراف الذي أدلوا به بمحض إرادتهم، إنه ـ عليه السلام ـ يتنازل عن كل حق له ويأبى خلقه الكريم في ذلك اليوم الذي قدر فيه فعفا، حتى عن مجرد توجيه اللوم إلى الذين ألقوه في غيابة الجب، إن اليوم في نظره ـ عليه السلام ـ أولى أن تبدأ به صفحة جديدة، من الصفا والمودة، وبمجرد توجيه اللوم، وعودة إلى الماضي البعيد، وهذا يتعارض مع الصفحة البيضاء النقية التي يريد أن يبدأ بها هذا اليوم. لقد مرت تلك الأيام المتعبة بخيرها وشرها، فيجب أن نسدل الستار على حلوها ومرها، ولم يبق إلا أن نطرد أشباحها المروعة عن مسرح الخيال ونتحاشى المطالعة في ذلك التاريخ المظلم، لكأنه ـ عليه السلام ـ يقول لهم ما قاله الشاعر:
يا من عدى ثم اعتدى ثم اغترف
ثم انتهى ثم أرعوى ثم اعترف
أبشر بقول الله في آياته
إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
فحيث حملوا شهادة التوبة بأيديهم وأقروا بخطئهم وذنبهم وشفيع المذنب إقراره، فلا تثريب عليهم اليوم، الإنسان يصيب ويخطئ، ويسرع ويبطئ، فتقبل يوسف ـ عليه السلام ـ الاعتذار، وآثر العفو عن إخوته، والعدول عن الانتقام إلى العفو والغفران عن فضيلة عالية، وهو خلق الأنبياء ـ عليهم السلام ـ جميعاً وخلق المؤمنين.
إن يوسف عليه السلام، قد طوى سريعاً هذه الصفحة السوداء مما كان بينه وبين اخوته، ويغطي على آثارها بالصفح الجميل.
إنه لا بد أن نعرف أن العفو مقصور على الذين يستحقونه، فانه بالنسبة لمن عفا أبلغ وأنفع من أية وسيلة أخرى، وإن هناك نفوساً أخرى لا يجدى معها إلا استئصال الشأفة.
ولما أعفاهم ـ عليه السلام ـ من التثريب كانوا في مظنة السؤال عن كمال العفو المزيل للعقاب من الله تعالى، فأتبعه الجواب عن ذلك بالدعاء لهم، فقال: "يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ"، أي: إذا رحمتكم أنا وعفوت عنكم، فهو يغفر لكم بالأولى، فأنه أرحم مني، لأنه أرحم الراحمين كلهم، وهو يغفر الصغائر والكبائر، ويتفضل على التائب.
قد سمح لهم ـ عليه السلام ـ سماحاً تاماً من غير تعبير لهم على ذكر الذنب السابق، ودعا لهم بالمغفرة، وهذا نهاية الاحسان الذي لا يتأتى إلا من خواص.
6 ـ من فيض نور الآية الكريمة:
ـ كان يوسف ـ عليه السلام ـ مثلاً رائعاً في العفو الصفح، فقد عفا عنهم وصفح الصفح الجميل ثم دعا لهم بالمغفرة والرحمة من الله الرحمن الرحيم.
ـ العفو مع القدرة يورث العزة والرفعة.
ـ إن يوم تصفية النفوس والبغضاء والشحناء، والعودة بها إلى نور الصفاء والاخاء والمحبة هو يوم عيد عظيم.
ـ على كل مسلم أن يتأسى باخلاق الانبياء في العفو و الصفح والمغفرة، فهذا هو خلق القرآن الكريم وخلق سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم.
ـ تمثل الرسول صلى الله عليه وسلم لما فتح باخيه يوسف عليه السلام فعفا عن أهل مكة العفو العظيم وهم الذين آذوه وقاتلوه وأخرجوه من مكة، وكان ذلك العفو سبباً في دخول الناس في دين الله أفواجا.
 
يمكنكم تحميل كتاب العدالة والمصالحة الوطنية: ضرورة دينية وإنسانية من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022