(مقدمات فتح مكة والعفو الشامل)
من كتاب العدالة والمصالحة الوطنية: ضرورة دينية وإنسانية
الحلقة: العاشرة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رجب 1442 ه/ فبراير 2021
كان القرشيون قد حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بضراوة لا مثيل لها استمرت عقدين من العداء المستحكم توجه قريش إلى الإسلام كرسالة وإلى النبي صلى الله عليه وسلم كإنسان مرسل، وإلى المسلمين كجماعة مؤمنة وتنوعت مظاهر العداء ومست كل ما يتعلق بالأسلام فكان العداء منصباً على مبادئ الإسلام والرسول الكريم، وأصحابه من المسلمين ونعرض هنا أمثلة ترسم صورة لهذا العداء؟
أولاً: العداء لمبادئ الإسلام :
كان عداء قريش الدعوة الجديدة التي أرسل بها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم واضحاً ومستعراً من وجوه ذلك:
1ـ اعتراضهم على مبدأ الوحدانية:
لم يكن كفار مكة ينكرون بأن الله خلقهم وخلق كل شئ، قال تعالى: " وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" (لقمان ، آية : 25).
لكنهم كانوا يعبدون الاصنام ويزعمون أنها تقربهم إلى الله قال تعالى: "أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ" (الزمر ، آية : 3).
2ـ كفرهم بالآخرة:
أما دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان باليوم الآخر، فقد قابلها المشركون بالسخرية والتكذيب، قال تعالى:" وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ" (سبأ، آية : 7 ـ 8).
3ـ اعتراضهم على الرسول صلى الله عليه وسلم:
اعترضوا على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يتصوّرون: أن لا يكون بشراً مثلهم، وأنه ينبغي أن يكون ملكاً أو مصحوباً بالملائكة وقال تعالى: " وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً"(الإسراء ، آية : 94).
وقال تعالى : "وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ" (الأنعام ، آية : 8 ، 9).
4 ـ موقفهم من القرآن الكريم:
كذلك لم يصدقوا أن القرآن الكريم منزل من عند الله، واعتبروه ضرباً من الشَّعر، الذي كان ينظمه الشعراء، مع أن كل من قارن بين القرآن، وأشعار العرب يعلم أنه مختلف عنها قال تعالى: " وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ * لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ" (يس ، آية : 69 ـ 70).
ثانياً: ايذاؤهم الجسدي للرسول الكريم:
لم يفتر المشركون من أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن صدع بدعوته إلى أن خرج من بين أطهرهم، وأظهره الله عليهم، ويدل على ذلك ـ مبلغ الأذى ـ تلك الآيات الكثيرة التي كانت تتنزل عليه في هذه الفترة تأمر بالصبر وتدله على وسائله وتنهاه عن الحزن، وتضرب له أمثلة من واقع اخوانه المرسلين، مثل قوله تعالى: " وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا" (المزمل ، آية : 10).
وقال تعالى: " فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا" (الإنسان ، آية : 24).
ومن الأمثلة التي تدل ما تعرَّض له النبي صلى الله عليه وسلم من الإيذاء، عن ابن مسعود رضي الله عنه: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة فجمع قريش في مجالسهم، إذ قال قائل منهم ألا تنظرون إلى هذا المرائي؟ أيكم يقوم إلى جزور آل فلان فيعمد إلى فرثها، ودمها، وسلاها فيجيء به، ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً، فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة عليها السلام ـ وهي جويرية ـ فأقبلت تسعى، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم، فلمَّا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، ثم سمَّى اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، قال ابن مسعود: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القَلِيب ـ قليب بدر ـ ثم قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : وأتبع أصحاب القليب لعنة، وقد بينت الروايات الصحيحة الأخرى: أن الذي رمى الروث عليه هو عقبة بن أبي معيط وأن الذي حرَّضه هو أبو جهل، وأن المشركين تأثَّروا بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وشق عليهم الأمر، لأنهم يرون أن الدعوة بمكة مستجابة.
ـ إجتماع الملأ من قريش وضربهم الرسول صلى الله عليه وسلم: اجتمع إشراف قريش يوماً في الحجر فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط، سفه أحلامنا، وسب آلهتنا، لقد صرنا منه على أمر عظيم، فبينما هم في ذلك، إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا وثبة رجل واحد، وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا ـ لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم ـ فيقول ـ نعم، أنا الذي أقول ذلك، ثمَّ أخذ رجل منهم بمجمع ردائه، فقام أبو بكر رضي الله عنه دونه، وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله.
هذا بعض ما لاقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذيَّة المشركين، وقد ختم المشركون أذاهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمحاولة قتله في أواخر المرحلة المكية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ما لاقاه من أذى قريش قبل أن ينال الأذى من أحد من أتباعه، يقول: "لقد أُخِفت في الله عز وجل وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذي أحد، ولقد أتت عليَّ ثلاثون من بين يوم وليلة، وما لي ولا لبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه، ومع ماله صلى الله عليه وسلم من عظيم القدر، ومنتهى الشرف إلا أنه قد حظي من البلاء بالحمل الثقيل، والعناء الطويل منذ أول يوم صدع فيه بالدعوة، ولقي النبي صلى الله عليه وسلم من سفهاء قريش أذى كثيراً، فكان إذا مرَّ على مجالسهم بمكة استهزؤوا به، وقالوا ساخرين: هذا ابن أبي كبشة، يكلم من السماء، وكان أحدهم يمرُّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول له ساخراً: أما كُلِّمت اليوم من السَّماء؟
ولم يقتصر الأمر على مجرَّد السخرية، والاستهزاء، والإيذاء النفسي، بل تعدَّاه إلى الإيذاء البدني، بل قد وصل الأمر إلى أن يبصق عدوَّ الله أمية بن خلف في وجه النبي صلى الله عليه وسلم.
وحتى بعد هجرته ـ عليه السلام ـ إلى المدينة، لم تتوقف حدَّة الابتلاء، والأذى، بل أخذت خطاً جديداً، بظهور أعداء جدد، فبعد أن كانت العداوة تكاد تكون مقصورة على قريش بمكة صار له صلى الله عليه وسلم أعداء من المنافقين المجاورين بالمدينة، ومن اليهود، والفرس والروم، وأحلافهم، وبعد أن كان الأذى بمكة شتماً وسخرية، وحصاراً، وضرباً، صار مواجهة عسكرية مسلحة، حامية الوطيس، فيها فر وكر وضرب، وطعن، فكان ذلك بلاء في الأموال والأنفس على السَّواء.
وهكذا كانت فترة رسالته صلى الله عليه وسلم وحياته، سلسلة متصلة من المحن والابتلاء، فما وهن لما أصابه في سبيل الله، بل صبر، واحتسب حتى لقي ربه، لقد واجه الرسول صلى الله عليه وسلم من الفتن والأذى، والمحن ما لا يخطر على بال، في مواقف متعددة، وكان ذلك على قدر الرسالة التي حُمِّلها، ولذلك استحق المقام المحمود والمنزلة الرفيعة عند ربه، وقد صبر على ما أصابه، إشفاقاً على قومه أن يصيبهم مثل ما أصاب الأمم الماضية من العذاب، وليكون قدوة للدعاة والمصلحين، فإذا كان الاعتداء الأثيم قد نال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعد هناك أحد أكبر من الابتلاء والمحنة، وتلك سنة الله في الدّعوات، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قلت: يا رسول الله، أي الناس أشدُّ بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبْتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً، اشتد بلاؤه، وإن كان دينه رقة ابتلى حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة.
يمكنكم تحميل كتاب العدالة والمصالحة الوطنية: ضرورة دينية وإنسانية من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: