إلى العمل (3)
الحلقة الرابعة والثلاثون من كتاب
مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
ربيع الآخر 1443 هــ / نوفمبر 2021
- العمل بالأسباب:
إن العمل بالأسباب قضية مهمة جدًّا في الدين والدنيا، فأهل الجنة يقول لهم ربهم جل وعلا: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 32].
لم يدخلوا الجنة بعملهم المحض بل برحمة الله عز وجل، لكن أعمالهم أهلتهم لرحمة الله تعالى، كما يقول سبحانه: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56].
ولهذا من الواضح جدًّا أن مَن دخل الجنة دخلها بعمله الصالح، ومَن دخل النار دخلها بعمله الفاسد، ومَن نال رضا الله عز وجل ناله بطاعته، ومَن وصله سخط الله فإنما وصله بمعصيته، أما في أمر الدنيا فإن الإسلام يؤكد أهمية الأسباب، فيقول سبحانه: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴾ [النساء: 123-124].
أولئك الذين يتمنون على الله الأماني: ﴿يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ ﴾ [الأعراف: 169]. لا ينفعهم ذلك من الله تعالى شيئًا.
إن الأرض لا تقدِّس أحدًا، والنسب لا يقدس أحدًا، ولكن العبرة بالعمل:
﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ﴾ [النساء: 123-124].
مات وهو ساجد:
إن مجرد التمنِّي لا يصنع شيئًا، وكذلك أمر الحياة الدنيا، فإن المسلمين اليوم في مشارق الأرض ومغاربها يتحدثون كثيرًا، ويأملون كثيرًا، ويعتبون كثيرًا، ولو صدقوا لعتبوا على أنفسهم، ولو أنصفوا لكانوا هم أحق باللوم: ﴿ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [إبراهيم: 22]. هكذا يقول الشيطان لأتباعه يوم القيامة.
إن المسلم اليوم بحاجة إلى أن يعرف أن الانتماء للإسلام يعني الجدية والإتقان، ولا يمنع أبدًا أن يصبح المسلم تاجرًا أو عالمًا في شؤون الدنيا، فإن الذي أمر بالصلاة والعبادات هو الذي أمر بتحصيل شؤون الدنيا، ومن الخلل الكبير أن يتوقع المسلمون أن الدين جاء فقط لينظم علاقتهم بربهم من حيث أداء العبادات المحضة التي يتقربون بها إلى الله جل وتعالى.
كثيرًا ما يتمدح المسلمون بأن فلانًا مات وهو ساجد، ودون شك أن هذا معنًى جميل؛ فالسجود هو أقرب حالة العبد إلى ربه: «أقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وهُوَ سَاجِدٌ».
﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ [العلق: 19].
لكن.. لماذا لا يتمدح المسلمون أيضًا بذلك المسلم الذي مات وهو يدأب في عمله الدنيوي، أو يجتهد في وظيفته، أو يعكف في معمله أو مختبره؟ أليس هذا من الدين؟ أليست هذه الأشياء عبادة؟! أليس فيها نفع وإحسان إلى الناس؟ والله تعالى كتب الإحسان على كل شيء وأثاب عليه، بل يؤجر المحسن حتى لو كان بغير نية، أليست هذه المعاني من صميم الدين؟ أليس الذي علَّمنا الركوع والسجود هو الذي يقول بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ يُحِبُّ إذَا عَمِلَ أحَدُكُمْ عَمَلًا أنْ يُتْقِنَهُ»؟
وقوله صلى الله عليه وسلم: «عَمَلًا» نكرة يشمل أي عمل كبيرًا كان أم صغيرًا، عمل دين أو عمل دنيا، فكما هو مطلوب من العبد مثلًا أن يخشع في صلاته، كذلك مطلوب من العبد أن يجتهد في وظيفته ودراسته وتعليمه، وأن يجتهد في أي عمل يقوم به ما دام هذا العمل مباحًا ينفعه في دنياه.
وهو يفعل هذا لينجح أو يتفوق أو يحصل على ترقية، ولكنه يجد هنا حافزًا هائلًا ضخمًا تذهب من أجله الأرواح شعاعًا، إنه «محبة الله».
إن هذا الدين عظيم، ودائمًا وأبدًا يتأكد للإنسان أن مشكلة هذا الدين هي وراثة هذه الأمم التي ضعفت رابطتها بدينها، وأصبحت أحوج ما تكون إلى من يعيد إليها هذه الروح، ويبعثها من جديد، ويقوي صلتها بربها، ويحول إيمانها بهذا الدين إلى عمل وممارسة وإتقان.
فهذا الدين ليس فيه انفصال بين أمر الدنيا وأمر الآخرة، والطريق إلى الجنة يمر من خلال الإحسان إلى الأهل والجيران وأداء الأمانة والقيام بالوظيفة والتفوق في العمل، والإخلاص في التعامل مع الناس، وليس فقط من خلال الأعمال التعبدية المحضة.
إن النصارى يعبدون ربهم يومًا واحدًا في الأسبوع، ويعبدون البنك فيما سوى ذلك، لكن المسلم حياته كلها عبادة:﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ﴾ [الأنعام: 162-163]. فليستشعر المسلم معنى العبادة وهو يصلِّي ويسجد، ويركع ويسعى ويَحْفِد، وليستشعر المسلم معنى العبادة وهو يؤدي حق أهله أو يحضن طفله، أو يخلص في عمله، أو يجتهد في دراسته.
رابط تحميل كتاب مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
http://alsallabi.com/books/view/506
كما ويمكنكم تحميل جميع مؤلفات فضيلة الدكتور سلمان العودة من موقع الدكتور علي الصَّلابي الرسمي