(القضاء على أنصار ابن الزبير بالشام وأهمية مؤتمر الجابية)
الحلقة: 58
بقلم: د. علي محمد الصلابي
جمادى الآخرة 1443 ه/ يناير 2022م
بدأ مروان بن الحكم ـ بعد أن تزعم المعارضة الأموية ـ بتوحيد صفوفه، والدخول في صراع ضد ابن الزبير، ولم يبدأ في مواجهة ابن الزبير في الحجاز، وإنما لجأ إلى انتزاع الأقاليم البعيدة، وذلك ليحسر نفوذه أولاً، ومن ثم يتيسر له القضاء عليه. وجاء مروان بن الحكم إلى الحكم بعد عقد مؤتمر الجابية لأهل الشام، ولأهمية مؤتمر الجابية إليك تفاصيل ما جرى فيه.
• مؤتمر الجابية:
ظلت الأردن ـ موطن الكلبيين ـ على ولائها للأسرة الأموية، وكان بعض زعماء الشام حريصين على الاحتفاظ بالخلافة في الشام دون غيرها، ومثال ذلك: الحصين بن نمير الذي عرض على ابن الزبير مبايعته بشرط الانتقال للشام، ويبدو أن تمسك بعض زعماء أهل الشام باستمرار دمشق مركزاً للخلافة لم يكن أمراً عاطفياً غير مبرر، بل كان يستند إلى قناعة أكيدة، أثبتت الأيام صدقها، بمقدرة أهل الشام على تحقيق الحسم التاريخي، وبعمق الالتحام بين بنائها القبلي اليماني، والوجود الأموي بها، على الرغم مما تعرضت له الوحدة القبلية لأبناء الشام من هزات عنيفة، وتشقق مريع، حيث أفرزت الأحداث السياسية السريعة انذاك صراعاً عنيفاً بين القبائل القيسية واليمانية ظل يرسل انعكاساته على الحياة السياسية بعد ذلك، فقد بايع القيسيون في شمال الشام ابن الزبير المرشح الوحيد الظاهر القوة والقبول في هذه المرحلة، وازدادت قوة القيسيين بانضمام الضحاك بن قيس الفهري إليهم، وهو الرجل الذي أمضى تاريخه كله في الشام، وفي خدمة معاوية وابنه يزيد، والذي كان يُشرف انذاك على شؤون دمشق منذ وفاة معاوية الثاني.
بينما تشبث الكلبيون ـ رغم الضعف الظاهري ـ بمواقفهم في ظل هذه البيعة الجماعية لابن الزبير حتى من إخوانهم الشماليين، والمصاهرة بينهم وبين الأمويين منذ تزوج معاوية منهم، وتربى فيهم يزيد.
ولكن الكلبيين فيما عدا ذلك يختلفون، فبينما يهوى بعضهم البيعة لخالد ابن يزيد بن معاوية، وهو غلام صغير السن، يستنكف بعضهم من البيعة لغلام، في الوقت الذي يدعو فيه الاخرون إلى شيخ قريش عبد الله بن الزبير، ويفضل هذا الفريق البيعة لمروان بن الحكم.
وبعد محاولات لرأب الصدع بين القيسية واليمنية اتفق الطرفان على الالتقاء في الجابية، للتشاور والاتفاق، فسار الكلبيون والأمويون إلى هناك، على حين غلب بعض أنصار ابن الزبير الضحاك بن قيس على رأيه، فأطاعهم، ومال نحو مرج راهط.
• الممارسة الشورية في مؤتمر الجابية:
في الجابية عقد الكلبيون مؤتمرهم، وتشاوروا في أمر البيعة والخلافة، وكان مؤتمر الجابية مؤتمراً تاريخياً يمكن أن يوصف بلغة السياسة بأنه كان مؤتمراً دستورياً، وقد حضره أصحاب الشوكة والقوة والرأي من أهل الشام، وتمت الدعوة إليه بالرضا من عناصر أهل الشام المؤثرة في القرار المصيري، ونستطيع أن نلاحظ صورة لهذه التجربة الشورية النادرة حين نتصور أن أسماء المرشحين الاخرين للخلافة غير بني أمية قد عرضت للبحث، ولكن رجحت كفة مروان لعوامل؛ كما يصور ذلك روح بن زنباع الجذامي ـ أحد زعماء الشام ـ حيث قال: أيها الناس إنكم تذكرون عبد الله بن عمر بن الخطاب وصحبته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدمه في الإسلام، وهو كما تذكرون، ولكن ابن عمر رجل ضعيف، وليس بصاحب أمر أمة محمد الضعيف، وأما ما يذكر الناس من عبد الله بن الزبير، ويدعون إليه من أمره، فهو والله كما يذكرون، إنه لابن الزبير، حواري رسول الله، وابن أسماء بنت الصديق، ذات النطاقين، وهو بعد كما تذكرون في قدمه وفضله، ولكن ابن الزبير منافق قد خلع خليفتين يزيد وابنه معاوية بن يزيد، وسفك الدماء، وشق عصا المسلمين، وليس بصاحب أمر أمة محمد منافق، وأما مروان بن الحكم فوالله ما كان في الإسلام صدع قط إلا كان مروان بن الحكم ممن يرأب ذلك الصدع، وهو الذي قاتل علي بن أبي طالب يوم الجمل، وإنا نرى للناس أن يبايعوا الكبير، ويعدوا الصغير. يعني بالكبير مروان بن الحكم، وبالصغير خالد بن يزيد بن معاوية.
فاجتمع رأي الناس على البيعة لمروان ومن بعده لخالد بن يزيد، ثم لعمرو ابن سعيد بعد خالد، فكانت تلك المعادلة قد جمعت بين مختلف الاراء، وأرضت جميع الاتجاهات، وقد دارت نقاشات كثيرة، وكان العديد من زعماء القبائل وقادة بني أمية قد حضروا، ومن هؤلاء الزعماء: حسان بن مالك ابن بحدل الكلبي، والحصين بن نمير السكوني، وروح بن زنباع الجذامي، ومالك بن هبيرة السكوني، وعبد الله بن مسعدة الفزاري، وعبد الله بن عضاة الأشعري، وغيرهم من الشخصيات المؤثرة، والمعارضة لابن الزبير، وقد قبلت اراء عديدة وكثيرة حتى استقر الرأي على مروان، ولم يمتنع مروان عن تقديم امتيازات لقبائل كلب وكندة لكي يستميلهم، وكانت له اتفاقات سرية وخاصة مع بعض الزعماء، مما كان له الأثر الكبير في كسب المؤيدين له، فمروان خطط واستطـاع بشتى الطرق الوصول إلى الحكم في بـلاد الشـام على الرغم من الظروف الصعبة.
• أهم قرارات مؤتمر الجابية:
كانت أهم قرارات مؤتمر الجابية:
عدم مبايعة ابن الزبير.
- استبعاد خالد بن يزيد من الخلافة لأنه غلام، والعرب لا تحب مبايعة الأطفال من ناحية، ومن الناحية الأخرى هم الان في أزمة، وهم أحوج إلى الرجل المجرب الخبير علَّه يقودهم إلى النصر، وينقذهم من وضعهم المتدهور.
- مبايعة مروان بن الحكم، وهو الشيخ المحنك، أن يتولى الخلافة بعد مروان على هذا الشرط شفوياً.
- الاستعداد لمجابهة وقتال المخالفين أتباع ابن الزبير في الشام بادأئ الأمر.
يمكنكم تحميل كتاب التداول على السلطة التنفيذية من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي