(زعامة مروان لمعارضي أهل الشام ونتائج معركة مرج الرهط)
الحلقة: 59
بقلم: د. علي محمد الصلابي
جمادى الآخرة 1443 ه/ يناير 2022م
قامت زعامة مروان لمعارضي ابن الزبير على أساس الشورى، إذ انتخب بالاختيار الحر من الذين شهدوا المؤتمر، وهم أهل الحل والعقد والشوكة والقوة في الشام، وبويع بإجماع الحاضرين، فكانت طريقة توليته شورية دستورية، اتخذتها المعارضة لتقوية صفها، وبذلك صار في العالم الإسلامي إذ ذاك خليفتان: عبد الله بن الزبير الخليفة الشرعي والمنتخب من قبل الأغلبية الساحقة للأمة، والزعيم المعارض لابن الزبير، والمنتخب من أهل الشوكة والقوة في عاصمة الخلافة. ولما كان لا بد من توحيد الدولة الإسلامية، فقد كان على أحدهما أن يتغلب على الاخر، ويتم التوحيد، ويجمع كلمة الأمة، فكانت الحروب والمعارك الطاحنة فيما بعد؛ حتى استقر الأمر لعبد الملك بن مروان بعد مقتل الخليفة الشرعي عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.
ويبدو أن أهل الشام الذين عارضوا ابن الزبير، واجتمعوا بالجابية، قد ذهبوا إلى أن بيعة أهل الشوكة والقوة في عاصمة الخلافة ملزم لبقية الأقطار والأمصار كلها، وعلى الاخرين أن يسلموا لمن بايعوه لئلا ينتشر الأمر باختلاف الاراء، وتباين الأهواء.
وقد نسب ابن حزم هذا الرأي لأهل الشام قائلاً: كانوا قد ادعوا ذلك لأنفسهم حتى حملهم ذلك على بيعة مروان وابنه عبد الملك، واستحلوا بذلك دماء أهل الإسلام.
والصحيح بالنسبة لعهد ابن الزبير هو الأخذ بمبدأ الأكثرية أو الأغلبية، وإن كان حجية إقرار بيعة أهل عاصمة الخلافة أخذ في بيعة الصديق والفاروق وذي النورين والحسن بن علي، إلا أن الأمور قد تغيرت كثيراً، فالأخذ بمبدأ الأكثرية للترجيح بينهم بتقديم من انعقدت له البيعة من الأكثر، والمخالف للأكثر باغ يجب رده إلى الانقياد إلى الحق.
وذلك هو الرأي الذي نؤيده؛ لأن حسم النزاع بترجيح أكثرهم حوزاً لرضا المسلمين، وهو ما يقضي به مبدأ حق الأمة الإسلامية في اختيار الخليفة.
فضلاً عن الأدلة الشرعية المؤكدة لترجيح رأي الأكثرية أو الأغلبية، نذكر منها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخذ بما انعقد عليه رأي أغلبية المسلمين وإن بدا مخالفاً لرأيه، وذلك حين علم بتحرُّك قوات المشركين في اتجاه المدينة لحربهم، فاستشار المسلمين فرأى فريق منهم ـ وكان أكثرهم ـ الخروج إليهم، وفريق اخر رأى ما راه الرسول نفسه وهو أن يظلوا بالمدينة، فلما رأى الرسول أن رأي الأغلبية مع الخارجين أخذ برأيهم، ووافق على الخروج للمشركين في أحد، وغير ذلك من الأدلة.
وقد أخذ مشروع الدستور الإسلامي الذي أعده مجمع البحوث الإسلامية والأزهر بفكرة الإلزام برأي الأغلبية، حيث نصت المادة ((46)) منه على أن تكون البيعة بالأغلبية المطلوبة لأصوات المشتركين في البيعة.
معركة مرج راهط:
تمخض مؤتمر الجابية عن انتقال الخلافة الأموية من البيت السفياني إلى البيت المرواني، وانعقدت البيعة لمروان، وحلّ مؤتمر الجابية مشكلة الخلافة بين بني أمية، وكانت هذه خطوة حاسمة، ولكن لم يكن تثبيت هذا الأمر سهلاً، فلا زالت تعترضه صعوبات كبيرة، فالضحاك بن قيس زعيم القيسيين المناصر لابن الزبير قد ذهب إلى مرج راهط، وانضم إليه النعمان بن بشير الأنصاري والي حمص، وزفر بن الحارث الكلابي أمير قنسرين، وكان واضحاً أنهم يستعدون لمواجهة الأمويين، فكان على مروان أن يثبت أنه أهل للمسؤولية، وحمل أعباء الخلافة، والدفاع عنها، وقد حقق أنصار مروان أول نجاح لهم بالاستيلاء على دمشق، وطرد عامل الضحاك عنها، وكان أول فتح على بني أمية على حد تعبير ابن الأثير، ولم يضيع مروان وقتاً، فقد عبأ أنصاره من قبائل اليمن في الشام كلب وغسان والسكاسك والسكون، وجعل على ميمنته عمرو بن سعيد، وعلى ميسرته عبيد الله بن زياد، واتجه إلى مرج راهط فدارت المعركة الشهيرة التي حسمت الموقف في الشام لبني أمية ومروان، حيث هزم القيسيون أنصار ابن الزبير، وقتل الضحاك بن قيس، وعدد كبير من أشراف قيس في الشام، واستمرت المعركة حوالي عشرين يوماً، وكانت في نهاية (64هـ)، وقيل: في المحرم سنة (65هـ).
نتائج مرج راهط:
-أعادت هذه المعركة الملك لبني أمية بعد أن كان مهدداً بالزوال، وحوّلت السلطة من الفرع السفياني إلى الفرع المرواني.
-تخلص الأمويون من الضحاك بن قيس الذي كان يعتبر معارضاً قوياً للأمويين، وتابعاً مخلصاً لابن الزبير.
-سقطت قنسرين في يد الأمويين، وهرب واليها زفر بن الحارث، فتوجه إلى قرقيسية، وكان عليها عياض الحارثي حسب قول ابن الأثير.
-سقطت فلسطين، وهرب ناتل بن قيس الجذامي إلى ابن الزبير.
-سقطت حمص، وقتل واليها النعمان بن بشير.
-اندلع الصراع بين اليمنية والقيسية، ودخلت العصبية القبلية مسرح السياسة العليا للدولة، وإذا كان يوم مرج راهط قد انتصر فيه الكلبيُّون، فقد كان نصراً مؤقتاً، وكان الصراع بين العصبتين القيسية واليمنية من أسباب انهيار الدولة الأموية.
أسباب هزيمة القيسيين:
*لم يرم ابن الزبير بثقله في تلك المعركة، وكان عليه أن يجيش الجيوش، ويمدّ أتباعه بالرجال والأموال والسلاح ليقضي على المعارضين بالشام ؛ عندما كانت المعارضة لم توحد صفوفها بعد.
اعتماد مروان على رجال دهاة خبراء في الحرب من أمثال: حصين بن نمير، وعمرو بن سعيد.
عدم اشتراك أتباع ابن الزبير في الشام كلهم، فقد شارك ولاة الشام التابعين لابن الزبير بأعداد من الجنود فقط.
ترك الضحاك مدينة دمشق بدون قوة تستطيع المحافظة عليها على الرغم من أهميتها، وهذا سهل للأمويين الاستيلاء عليها، وعلى ما فيها من أموال؛ مكنت الأمويين من الاستفادة من هذا الخطأ.
بكاء مروان بن الحكم في مرج راهط:
روي أن مروان بن الحكم لما جيء برأس الضحاك إليه ساءه ذلك، وقال: الان حين كبرت سني ودق عظمي، وصرت في مثل ظمء الحمار ؛ أقبلت بالكتائب أضرب بعضها ببعض.
وروي: أنه بكى على نفسه يوم مرج راهط، وقال: أبعدما كبرت صرت أقاتل بالسيوف على الملك؟.
وفي رواية عن مالك، قال: قال مروان: قرأت كتاب الله منذ أربعين سنة، ثم أصبحت فيما أنا فيه من إهراق الدماء وهذا الشأن.
لقد شعر مروان بن الحكم بوخز الضمير، وخاف على نفسه من سوء الخاتمة بعد أن ولغت يده في دماء المسلمين من أجل الحطام الزائل.
يمكنكم تحميل كتاب التداول على السلطة التنفيذية من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي