(ظروف بيعة عبد الملك بن مروان بالخلافة)
الحلقة: 62
بقلم: د. علي محمد الصلابي
جمادى الآخرة 1443 ه/ يناير 2022م
اجتمعت الأمة بعد مقتل عبد الله بن الزبير على عبد الملك بن مروان، وأصبح الخليفة الشرعي، وهو أول خليفة ينتزع الخلافة بقوة السيف والقتال، مما أثر على الفقه السياسي بعد ذلك أكبر الأثر، فإذا كان معاوية قد أصبح خليفة بعد الصلح مع الحسن بن علي، واجتماع الأمة عليه طواعية عام الجماعة، وإذا كان ابنه يزيد قد بويع من الأمصار في حياة أبيه ثم بعد وفاته، وإذا كان ابن الزبير قد بويع بعد وفاة يزيد وهو بمكة من عامة الأمصار عن رضا واختيار، فإن عبد الملك أول خليفة انتزع الخلافة انتزاعاً، وبايعه كثير من الناس بعد أن قتل عبد الله بن الزبير ليبدأ عصر الخليفة المتغلب، وهو ما لم يكن للأمة به عهد من قبل.
لقد أجمع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على أن الإمامة إنما تكون بعقد البيعة بعد الشورى والرضا من الأمة، كما أجازوا الاستخلاف بشرط الشورى ورضا الأمة بمن اختاره الإمام، وعقد الأمة البيعة له بعد وفاة من اختاره دون إكراه، كما أجمعوا على أنه لا يسوغ فيه التوارث، ولا الأخذ لها بالقوة والقهر، وأن ذلك من الظلم المحرم شرعاً.
قال ابن حزم: لا خلاف بين أحد من أهل الإسلام أنه لا يجوز التوارث فيها.
غير أن الأمر الواقع بدأ يفرض نفسه، وصار بعض الفقهاء ــ بحكم الضرورة ــ يتأولون النصوص، لإضفاء الشرعية على توريثها وأخذها بالقوة، لتصبح هاتان الصورتان بعد مرور الزمن هما الأصل الذي يمارس على أرض الواقع، وما عداهما نظريات لاحظ لها من الواقع التطبيقي العملي، إلا في حالات نادرة، وأصبحت سنة هرقل وقيصر بديلاً عن سنة أبي بكر وعمر.
وقد أجاز كثير من الفقهاء طريق الاستيلاء بالقوة من باب الضرورة، مع إجماعهم على حرمتها، مراعاة لمصالح الأمة، وحفاظاً على وحدتها، وأصبح الواقع يفرض مفاهيمه على الفقه والفقهاء، وصارت الضرورة والمصلحة العامة تقتضي تسويغ مثل هذه الطرق.
إن الاستبداد والاستيلاء على حق الأمة بالقوة، وإن كان يحقق مصلحة انية؛ إلا أنه يفضي إلى ضعف الأمة مستقبلاً، وتدمير قوتها، وتمزيق وحدتها، كما هو شأن الاستبداد في جميع الأعصار والأمصار، وإن ما خشي من افتراق المسلمين بالشورى خير من وحدتهم بالاستبداد على المدى البعيد، وإن الاستمرارية في ممارسة الشورى مع ما يعتريها من عوائق ومصاعب تثري الأمة في الفقه السياسي، وتقطع بها مسافات كبيرة في هذا المجال، ولهذا تعثَّر الفقه السياسي في مسيرته التاريخية، ولم ينطلق الانطلاقة المطلوبة منه بسبب النظام الوراثي والاستبدادي.
إن عبد الملك بن مروان شق طريقه نحو الملك بسفك الدماء، وقتل الأبرياء، والخروج على الخليفة الشرعي عبد الله بن الزبير، فلم يراع حرمته كصحابي جليل، ولم يلتمس عذراً لابن عمه عمرو بن الأشدق، ويحرص على الوفاء لعهده، ولم يحترم الزمالة والصداقة مع مصعب بن الزبير، ولا ننكر أن عبد الملك بن مروان كان من عقلاء الرجال ودهاتهم، ومن أكثرهم حزماً وشجاعة وإقداماً.
وقد أثبت عبد الملك كفاءة عالية في إدارة الدولة وسياستها، وكان غير هيَّاب، يمضي إلى هدفه بعزيمة ثابتة، ولا يعرف اليأس إلى نفسه سبيلاً، ولا يتردد عن قيادة المعارك بنفسه، ولقد استطاع بعد جهود جبارة أن يعيد الوحدة، ويجمع شمل الأمة، وأن يصفي خصومه الواحد بعد الاخر، بالصبر والجلد والمثابرة، وعمل على توطيد دعائم دولته، ونجح في ذلك نجاحاً فائقاً، ولم تكن تأخذه هوادة أو رحمة بكل من يحاول أن يعكر صفو الدولة، أو يخرج عليها.
وقد استحق عبد الملك عن جدارة لقب المؤسس الثاني للدولة الأموية بعد معاوية مؤسسها الأول، وقد عمل على توطيد الأمن في البلاد، وتفرغ للخوارج وقمع الثورات، ومن أشهر الحركات التي خرجت في عهده: حركة الأزارقة والصفرية وابن الأشعث، واستطاع أن ينتصر عليها جميعاً.
إن عبد الملك بن مروان أصبح أمير المؤمنين بعد مقتل ابن الزبير وبيعة المسلمين له، ومذهب عامة أهل السنة والجماعة: أن الإمامة يصح أن تنعقد لمن غلب الناس، وقعد بالقوة في موضع الحكم، إلا أنه يجب أن يفهم أن هذه حالة ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات، فهذا حال إلجاء واضطرار كأكل الميتة ولحم الخنزير، وقبولها خير من الفوضى التي تعم الناس، وعلى هذا فإنه يجب ألا توطن الأمة نفسها على دوام هذا الوضع، بل يجب عليها أن تعمل على تغيير الإمامة الناقصة بإمامة كاملة مستوفاة الشروط المطلوبة في الإمام الحق بالوسائل التي لا يكون فيها فتنة بين الناس، ويجب السعي دائماً لأن يكون الإمام اتياً عن الطريق الصحيح من خلال إرادة الأمة واعتبارها الحر، سواء عن طريق أهل الحل والعقد، أو الاختيار المباشر للحاكم.
ومع أن إمامة المتغلب تنعقد نظراً إلى حالة الضرورة كما قلنا، إلا أن الغالبية العظمى من علماء الأمة لم يجيزوا أن يكون القهر طريقاً لانعقاد إمامة الكافر للمسلمين.
وإن حال القهر يمكن أن يتسامح فيها في بعض شروط الإمامة كالعلم أو العدالة، إلا أن شرط الإسلام لا يمكن أبداً إسقاطه عن الإمام ـ وعلى هذا فلو تغلب كافر على هذا المنصب فلا يجوز شرعاً ـ كما يرى ذلك الجمهور ـ السكوت على هذا الوضع. ويجب خلع هذا المتغلب بقوة السلاح، لأن الله سبحانه يقول: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً *}[النساء: 141].
يمكنكم تحميل كتاب التداول على السلطة التنفيذية من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي