وضع العالم الإسلامي المعاصر
الحلقة: التاسعة والأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو الحجة 1441 ه/ أغسطس 2020
لم يحدث في تاريخ الأمة الإسلامية أن تكالبَ عليها أعداؤها بمثل الضراوة التي يتكالبون بها عليها في الوقت الحاضر: يذبَّحون ويقتَّلون في كل مكان غلب عليهم أعداؤهم ، ويشرَّدون من أرضهم وأموالهم ، ويسلَّط عليهم أعداء من داخلهم أو من خارجهم ، يحكمونهم بغير ما أنزل الله ، لحساب أعدائهم الذين لا يؤمنون بلا إله إلا الله ، وينتقص الوطن الإسلامي مرةً بعد مرةً بإقامة دول غير إسلامية في أرضه ، وتفتت وحدته ، ثم تقسّم الدول منه إلا دويلات. والفقر والجهل والمرض يتفشّى في العالم الإسلامي على الرغم من أنّ تربته تحتوي على أكبر ثروات العالم على الإطلاق.
لقد وعد الله هذه الأمة بالاستخلاف والتمكين: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور : 55].
لقد اشترط الله عليهم شروطاً للتمكين ، مقابل الاستخلاف والتمكين والتأمين: {يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}، فأين هم اليوم من هذا الشرط؟! أين هم من الالتزام بأمر ربهم وتحكيم شريعته؟!
لقد أعرضوا عن القران الكريم إعراضاً ، ـ إلا ما رحم ربي ـ فلا هو الذي يستمدّون منه الشريعة التي تحكمهم ، ولا هو الذي يستمدون منه منهجَ تربيتهم ، ولا هو الذي يستمدّون منه أخلاقهم وأفكارهم ومشاعرهم وأنماط سلوكهم ، وإنما وجهتهم في ذلك كله هي أوربة ، شرقها أو غربها سواء ، فكيف يطمعون أن ينصرهم ربّهم وهم معرضون عن كتابه؟! وأن يمكّن لهم في الأرض وهم مخالفون لشرطه؟!.
لقد ابتلى اللهُ إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام ذلك الابتلاء الضخم الذي أبلى فيه بلاءً حسناً ، فكافأه الله على طاعته فقال: {اني جاعلك للناس اماما} وعندئذٍ أدركته رغبته الفطرية في أن يكون هذا العهد لذريته من بعده فيكونون أئمة للناس: {قال ومن ذريتي} فماذا قال له الله سبحانه وتعالى لحظة التقريب والتكريم والإعزاز؟ { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ *} [البقرة : 124].
فهذه سنةٌ من سنن الله الجارية ، التي لا تتبدّل ولا تحابي أحداً ، إنّ الله لا يعطي الناس التمكين في الأرض لأنهم من ذرية قوم مؤمنين ، بل لأنهم هم أنفسهم مؤمنون ، فإذا تخلّوا عن شرطِ الإيمان الصحيح ، فلا يمنعهم يومئذٍ أن يكونوا ذرية لقوم مؤمنين.
ولقد عرض القران علينا سيرة بني إسرائيل بتفصيل كامل ، لكي لا نقعَ فيما وقعوا فيه ، وحذّرنا من ذلك تحذيراً {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ *} [البقرة : 211].
فماذا كان من بني إسرائيل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ *} [الاعراف : 169].
والأمة الإسلامية اليوم تقف في الموقف الذي حذرنا الله منه ، يتركون كتابهم من أجل عرض من أعراض الحياة الدنيا ، ويمنّون أنفسهم بالأماني الفارغة ويقولون سيُغفر لنا! لا جرمَ إذن أن يكونوا على حالهم الذي هم فيه. «ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل».
قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا *وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا *} [النساء : 123 ـ 124].
يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:
الإيمان بالرسل والرسالات
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي