من خصائص الرسالة المحمدية
الحلقة: الثامنة والأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو الحجة 1441 ه/ أغسطس 2020
1ـ دعوتها إلى الإيمان بما جاء به الأنبياء من قبل:
الرسالة المحمّدية هي الرسالةُ الوحيدةُ التي يؤمِنُ أتباعُها بالرسل جميعاً ، وبما أنزل إليهم ، فقد كفر اليهودُ بعيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وكفر النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم وامنوا بعيسى ، ولكن لا على أنّه رسول ، بل على أنه إلهٌ وابنُ إله ، أمّا المسلمون فهم وحدهم الذين يؤمنون بالرسل جميعاً من لدن ادم ونوح إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم ، قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ} {إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيْسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ *}[البقرة: 136].
2 ـ حفظ الله تعالى للرسالة المحمدية:
لمّا كانت الرسالات السابقة مرهونةً بوقت معين ، وزمان محدود ، لم يتكفل الله تعالى بحفظها ، بل وكل حفظَها إلى علماء تلك الأمم ، التي أنزلت إليها ، فأوكل حفظ التوراة إلى الربانيين: {وَالرَبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة : 44]. ولم يستطع الربانيون والأحبارُ حفظ كتابهم ، وخان بعضُهم الأمانةَ ، فغيروا وبدّلوا وحرّفوا ، أمّا هذه الرسالة الخاتمة فقد تكفّل الله
بحفظها ، ولم يكل حفظها إلى البشر ، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ *} [الحجر : 9] ، وحفظ كتابها من التحريف والتبديل: {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ *} [فصلت : 42].
3 ـ شهادة أمة الإسلام على الأمم:
إن المؤمنين بهذه الرسالة يشهدون يوم القيامة على سائر الأمم من أصحاب الرسالات السابقة ، يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة : 143].
وقال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج : 78].
روى البخاري في (صحيحه) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يُجاءُ بنوحٍ فيقال له: هل بلّغتَ؟ فيقول: نعم يا ربِّ ، فتسأله أمته هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير ، فيقول: مَنْ شهودك؟ فيقول: محمد وأمته ، فيجاء بكم فتشهدون» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة : 143].
أنزل الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم منزلة العدول من الحكّام ، فإنّ الله تعالى إذا حكم بين العباد فجحدت الأممُ تبليغَ الرسالة أحضر أمّةَ محمّد صلى الله عليه وسلم فيشهدون على الناسِ بأنّ رسلهم أبلغتهم ، وهذه الخصيصةُ لم تثبتْ لأحدٍ من الأنبياء.
12 ـ السيرة المحمدية:
هي السيرة القطعية الثبوت في التاريخ ، فمن قدر الله بالنسبة للإسلام أن تبقى أصوله كاملة ومن غير تحريف ، لأنّه الدين الباقي إلى أن تقوم الساعة ، والذي قدر الله سبحانه وتعالى أن يحفظه ويُظهره على الدين كله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الصف : 9].
وكما حفظ الله القران بقدرته حيث قال جلَّت قدرته: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ *} [الحجر : 9]. فقد حفظ كذلك السنة المطهرة ، وحفظ السيرة النبوية الكريمة ، فلم تضعِ كما ضاعت سيرُ كثيرٍ من الأنبياء من قبلُ ، ولم تدخل عليها التشويهات والتحريفات التي دخلت على سير أنبياء بني إسرائيل من موسى إلى عيسى عليهما الصلاة والسلام ، فيما يُسمَّى الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد (المقابلين للتوراة والإنجيل).
إنّ من يقرأ العهدَ القديم بصفة خاصة يتقزّز من بشاعةِ ما أُلصق بالأنبياء في سيرهم المزيفة. من تهمٍ فاحشةٍ لا تليقُ بشخص عادي ، فضلاً عن نبيٍّ مرسلٍ ، فما من جريمة في الأرض ـ على بشاعتها ـ إلا وأُلصِقَتْ زوراً وبهتاناً بأولئك الأنبياء ، من قتلٍ وسرقةٍ ، وغصبٍ ، ونهبٍ ، وغشٍ ، وكذبٍ ، وفسقٍ خُلقي ، وهذا كله مكتوب بأيدي المؤمنين بأولئك الرسل ، وصدق الله العظيم: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *} [البقرة : 93]. قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيدِيهِمْ وَوَيلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ *} [البقرة : 79].
لقد حرَّفوا سير أنبيائهم لا عن جهل ، ولكن ليبرروا لأنفسهم شناعة سلوكهم في الأرض ، فإذا كان أنبياؤهم يصنعون ما ينسبونه إليهم من أفاعيل ، أفلا يكونون هم في حلٍّ مما يفعلون؟ فأمّا العهد الجديد في تزويره لسيرة عيسى عليه السلام فلا تقِلُّ نكراً من تأليه عيسى ، وادِّعاه بنوته لله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا *لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا *تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا *أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَدًا *} [مريم : 88 ـ 91]. ذلك ما أصاب سير الأنبياء من قبلُ من نسيان أو تحريف.
فأما سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد صانها الله عن العبث وعن النسيان ، ووكلها ـ بقدر منه ـ إلى أمة ذات قدرة غير عادية على حفظ الروايات والنصوص ، ومن ثَمَّ بقيت محفوظة على مدار التاريخ ، وبذلك فهي السيرة القطعية في التاريخ كله التي يمكن الوثوق بوقائعها وأحداثها ونسبتها إلى صاحبها صلى الله عليه وسلم.
ومن خلال هذه السيرة ـ ومن خلال القران كذلك ـ حفظت اللمحات الصادقة من سير الأنبياء من قبلُ ، فلا حقَّ يوثق به في سير أولئك الأنبياء إلا ما ورد في القران أو الحديث ، وفضلاً عن ذلك ، فإننا نستطيع أن نقرأ في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم سيرَ الأنبياء جميعاً ، فقد تجمَّع في حياته صلى الله عليه وسلم ما تفرق في حياة الأنبياء من قبل.
.
يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:
الإيمان بالرسل والرسالات
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي