الجمعة

1446-06-26

|

2024-12-27

الرسالة المحمدية رسالة موافقة للفطرة

الحلقة: الثانية والأربعون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ذو الحجة 1441 ه/ يوليو 2020


من الخصائص التي تمتازُ بها الرسالة المحمدية أنّ الإسلامَ دينُ الفطرةِ ، فهو بنُظُمه ومبادئه وأساليبه في التربية والتهذيب يمثّل أسلمَ سبيل للوصول إلى الإنسان المهذّب السليم ، ذلك بأنّه قبل كلِّ شيءٍ يعترفُ بهذه الفطرة كحقيقةٍ ماثلةٍ في تركيب الإنسان ، ويضعُ لها من التشريع والصيانة والاهتمام ما يجعلها تسيرُ في مسارها الصحيح بغير عوج أو التواء ، فالإنسانُ بفطرته يبغضُ عدوّه ، ويرغب في صدّه ودفع أذاه ، وضربه في معقله إن تجاوزَ واعتسفَ أو اعتدى على العقيدة أو النفس أو المال أو العرض ، وفي صدّ العدوان ما يرضي الفطرة ، يقول القران: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة : 194].
ويقول تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ *} [الشورى : 40].
وفي ذلك إرضاء للنفس كي لا تعاني من الكبت والضغينة إلاّ إذا عفا المرءُ ، وأسقط حقّه عن طيبِ خاطرٍ ، والقرانُ يمدحُ القصاصَ ، لأنّه سبيلٌ لصدِّ الشرّ وصون الأرواح ، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة : 179].
والإنسانُ بفطرته يحبُّ التملك ، وينزع إلى الاستقلال الشخصي ، فأباح له الإسلامُ الملكية بالوسائل المشروعة، ليتيح للحوافز الفردية أن تعملَ ، ولا يكبتها كما تصنع الشيوعية ، ولكنّه يضع الضوابطَ التي تمنعُ الظلم ، وتمنع الفسادَ ، فيحرّم الربا والاحتكار ، والغصب والسلب والنهب والسرقة والغش كطرق للتملك أو لتنمية المال ، ثم يفرضُ الزكاةَ التي تحدّ من التضخم ، وتشركُ الفقراءَ في أموال الأغنياء ، ويوجِبُ الإنفاق في سبيل الله ، ويحرّم الكنز ، ويحرّم الترفَ والمخيلةَ بالمال ، وهذه كلُّها ضوابط تمنع ما يحدثُ في الغرب الرأسمالي من فسادٍ خلقي ، وظلم اجتماعي ، وسياسي ، واقتصادي ، وهكذا لو تتبعت جميع مجالات الحياة تجد التوافق الكامل ، بين هذا الدِّين وبين الفطرة البشرية ، كما تجدُ التوجيهات التي تمنع الانحراف أو تعالجه عند حدوثه ، فتظلّ الفِطَرُ أقربَ ما يكونُ إلى السلامة والحياة ، وأقربَ إلى الاستقرار، قال تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم : 30].
إنّ في الفطرة البشرية كما خلقها الله مجموعةً من الدوافع، أودعها الله في الفطرةِ لتعينَ الإنسانَ على القيام بما كُلّف به من أمر الخلافة في الأرض ، كدافع الطعام، والشراب ، والملبس ، والمسكن ، والجنس ، والتملك ، وإثبات الذات.. إلخ، ولكنّ هذه الدوافع مع ضرورتها لعمارة الأرض خطيرةٌ على الكيان البشري إذا تُركت بلا ضابط يضبطها، فعندئذٍ تتحوّل إلى شهواتٍ جامحةٍ لا يملكُ الإنسانُ نفسَه من سلطانها ، والنظام الأمثل هو الذي يسمحُ لهذه الدوافع بالقدر المعقول من الحركة ، فلا يعطّلها ولا يكبتها ، وفي الوقت ذاته يضبطها ، فلا تتحوّل إلى شهوات ، فيأخذ الإنسان نصيبه من المتاع الطيب ، وينضبط سلوكُه في الوقت ذاته في الحدود التي تعود عليه بالعطب والدمار ، وذلك بالضبط هو ما صنعه الإسلام، فيتيحُ للدوافع كلها أن تعمل، لا يستقذر شيئاً منها ولا يستنكره، وفي الوقت ذاته يعمل على تهذيب هذه الدوافع ، والارتفاع بها إلى أقصى ما يملك الإنسان من رفعةٍ في حدود كيانه البشري ، فلا تصبحُ شهواتٍ جامحةً ، وإنّما رغبات منضبطة بالحدود التي شرعها الله بعلمه وحكمته ، وقال عنها: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [البقرة : 187]. وقال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة : 229] ، لذلك لا يقرّ الإسلامُ الرهبانية ، لأنّها تعطل دوافعَ الفطرة وتكبِتُها.
ذهب ثلاثةُ رهطٍ إلى بيتٍ من بيوتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألوا عن عبادته صلى الله عليه وسلم ، ولمّا أُخبروا كأنّهم تقالّوها ، فقال أحدُهم: أمّا أنا فأصومُ الدهرَ ولا أفطرُ ، وقال الاخر ، وأمّا أنا فأقومُ الليلَ ولا أنام ، وقال الثالث: أمّا أنا فلا أتزوجُ النساءَ ، فلمّا سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «أمّا واللهِ إنّي لأخشاكم للهِ ، وأتقاكم له ، ولكنِّي أصومُ وأفطِرُ ، وأصلِّي وأرقدُ ، وأتزوّجُ النساء ، فمن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي».
كذلك لا يقرّ الإسلامُ الانفلاتَ من الشهواتِ الجامحةِ كما تصنعُ الجاهليةُ المعاصرة بصفة خاصة ، فتفسد الفطرةَ ، وتفسد الأخلاقَ ، وتنحطُّ بالإنسانِ إلى دركِ الحيوان

يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:
الإيمان بالرسل والرسالات
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي

http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book94(1).pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022