الأربعاء

1446-07-08

|

2025-1-8

أهم أعمال علي رضي الله عنه ما بين الأحزاب إلى وفاة النبي ﷺ (٣)

الحلقة الخامسة عشر

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الأولى 1441 ه/ يناير 2020 م

عاشراً: علي رضي الله عنه داعياً وقاضياً في اليمن 10 هـ:
بعد فتح مكة استجابت القبائل العربية بالجزيرة إلى الإسلام ، وكان رسول الله ﷺ يرسل الدعاة إلى القبائل التي لم تستجب بعد ، فأرسل علياً رضي الله عنه إلى همدان باليمن ، وهذا البراء بن عازب رضي الله عنه يحدثنا عمّا حدث في ذهابه مع علي رضي الله عنه لليمن فيقول: .. فلما انتهينا إلى أوائل اليمن بلغ القوم الخبر ، فجمعوا له ، فصلى علي بنا الفجر ، فلما فرغ ، صفنا صفاً واحداً ثم تقدم بين أيدينا ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قرأ عليهم كتاب رسول الله ﷺ ، فأسلمت همدان كلها في يوم واحد ، وكتب بذلك إلى رسول الله ﷺ ، فلما قرأ كتابه خرَّ ساجداً ، وقال: «السلام على همدان ، السلام على همدان».
لقد كان رسول الله ﷺ حريصاً على الجبهة الجنوبية للدولة ، وأن تدخل قبائل اليمن في الإسلام ، وظهر هذا الاهتمام في النتائج الباهرة التي حققتها الدعوة في كثرة عدد الوفود التي كانت تنساب من كل أطراف اليمن متجهة إلى المدينة، مما يدل على أن نشاط المبعوثين إلى اليمن كان متصلاً وبعيد المدى ، وكانت سرايا رسول الله ﷺ تساند هذا النشاط الدعوي السلمي ، حيث بعث خالد بن الوليد ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ، فقد كان ﷺ يركز على مفاصل القوى ، ومراكز التأثير في المجتمعات وبناء الدول ومارس هذا الفقه العظيم في حياته.
هذا وقد أمر رسول الله ﷺ علياً بأن يقضي بين الناس في اليمن ، وهذا علي رضي الله يحدثنا بنفسه حيث قال: بعثني رسول الله ﷺ إلى اليمن ، فقلت له: يا رسول الله ! تبعثني إلى قوم أسن مني ، وأنا حدث لا أبصر القضاء ، قال: فوضع يده على صدري ، وقال: «اللهم ثبّت لسانه وَاهد قلبه ، يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقضي بينهما حتى تسمع من الاخر ، ما سمعت من الأول ، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء» ، قال: فما اختلف علي قضاء بعد، أو ما أشكل علي قضاء بعد.
لقد احتاج اليمنيون بعد انتشار الإسلام في بلادهم من يفقههم في أمور دينهم ، ويعلمهم ويقضي بينهم بحكم الله عز وجل ، فبعث رسول الله ﷺ عدداً من الصحابة إلى أرجاء اليمن؛ منهم: معاذ وأبو موسى الأشعري ، وكان من أفضلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقد حفظت لنا كتب التاريخ والحديث والفقه مجموعة من القضايا التي حكم فيها علي رضي الله عنه وهو باليمن، منها:
1- قضاؤه في الأربعة الذين تدافعوا عند زبية للأسد:
عـن حنـش ، عن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله ﷺ إلى اليمن ، فانتهينا إلى قوم قد بنوا زُبْيَة للأسد ، فبينما هم كذلك يتدافعون إذ سقط رجل فتعلق باخر ، ثم تعلق رجل باخر ، حتى صاروا فيه أربعة ، فَدَرجَهم الأسد ، فانتدب له رجل بِحَرْبة فقتله ، وماتوا من جراحتهم كلهم ، فقام أولياء الأول إلى أولياء الاخر ، فأخرجوا السلاح ليقتتلوا ، فأتاهم علي على تفيئة ذلك ، فقال: تريدون أن تقاتلوا ورسول الله ﷺ حي ؟! إني أقضي بينكم قضاء إن رضيتم فهو القضاء ، وإلا حجز بعضكم عن بعض ، حتى تأتوا النبي ﷺ فيكون هو الذي يقضي بينكم ، فمن عَدا بعد ذلك فلا حق له ، اجمعوا من قبائل الذين حفروا البئر ربع الدية وثلث الدية ونصف الدية والدية كاملة ، فللأول الربع لأنه أهلك من فوقه، وللثاني ثلث الدية، وللثالث نصف الدية. فأبوا أن يرضوا ، فأتوا النبي ﷺ وهو عند مقام إبراهيم ، فقصُّوا عليه القصة ، فقال: «أنا أقضي بينكم» واحتبى فقال رجل من القوم: إن علياً قضى فينا ، فقصُّوا عليه ، فأجازه رسول الله ﷺ .
2- ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر:
عن زيد بن أرقم أنه قال: أتي علي بثلاثة وهو باليمن وقعوا على امرأة في طهر واحد، فسأل اثنين: أتقران لهذا بالولد؟ قالا: لا ؛ حتى سألهم جميعاً، فجعل كلما سأل اثنين ، قالا: لا ، فأقرع بينهم ، فألحق الولد بالذي صارت عليه القرعة، وجعل عليه ثلثي الدية، قال: فذكر ذلك لنبي الله ﷺ فضحك حتى بدت نواجذه. وكان ضحك رسول الله ﷺ فرحاً ومسروراً بتوفيق الله تعالى علياً للصواب؛ ولذلك أقرّه على ذلك ، ويحتمل أن ما حصل من أولئك النفر إنما كان قبل إسلامهم ، لأن فعلهم محرم في دين الله تعالى.
الحادي عشر: علي رضي الله عنه في حجة الوداع:
أدرك عليٌّ رضي الله عنه رسول الله ﷺ في حجة الوداع ، ونحر رسول الله ﷺ ثلاثاً وستين بدنة بيده ، وكان عدد هذا الذي نحره عدد سنيِّ عمره ، ثم أمسك ، وأمر علياً أن ينحر ما بقي من المئة ، ففعل وأكمل العدد.
وقد وصف لنا علي رضي الله عنه بعض المناسك في حجته مع رسول الله ﷺ ، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن النبي ﷺ وقف بعرفة وهو مُرْدِف أسامة بن زيد ، فقال: «هذا الموقف وكل عرفة موقف» ، ثم دفع يسير العَنَقَ ، وجعل الناس يضربون يميناً وشمالاً ، وهو يلتفت ويقول: «السكينة أيها الناس ، السكينة أيها الناس» حتى جاء المزدلفة ، وجمع بين الصلاتين ، ثم وقف بالمزدلفة ، فوقف على قُزَحَ ، وأردف الفضل بن عبّاس ، وقال: «هذا الموقف، وكل المزدلفة موقف» ، ثم دفع وجعل يسير العَنَقَ ، والناس يضربون يميناً وشمالاً ، وهو يلتفت ويقول: «السّكينة ، السَّكينة ، أيُّها الناس» حتى جاء مُحسِّراً، فقرع راحلته فخبَّت ، حتى خرج ، ثم عاد لسَيْره الأول ، حتى رمى الجمرة ، ثم جاء المَنْحَر فقال: هذا المَنْحَر ، وكلُّ مِنى مَنْحَر.
ثم جاءت امرأة شابة من خَثْعَمَ ، فقالت: إنْ أبي شيخ كبير ، وقد أفنَد ، وأدركته فريضة الله في الحَجِّ ، ولا يستطيع أداءها ، فيُجزأ عنه أن أؤديها عنه؟ قال رسول الله ﷺ : «نعم» ، وجعل يصرف وجه الفضل بن العباس عنها.
ثم أتاه رجل فقال: إني رميت الجمرة ، وأفضت ، ولبست ولم أحْلِقْ . قال: «فلا حرج ، فاحْلِق». ثم أتاه رجل اخر ، فقال: إني رميت وحلقت ولبست ولم أنحر. فقال: «لا حرج فانحر».
ثم أفاض رسول الله ﷺ ، فدعا بسَجْلٍ من ماء زمزم ، فشربَ منه وتوضأ ، ثم قال: «انزعوا يا بني عبد المطلب ، فلولا أن تُغْلَبوُا عليها لنَزَعْتُ». قال العباس: يا رسول الله ، إني رأيتك تصرف وجه ابن أخيك؟ قال: «إني رأيتُ غلاماً شاباً ، وجارية شابة ، فخشيت عليهما الشيطان».
وقد كان علي رضي الله عنه يعلن على الناس ما أمره به النبي ﷺ ، فعن عمرو بن سُليم عن أمه قالت: بينما نحن بمنى إذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إن رسول الله ﷺ قال: «إن هذه أيام أكل وشرب ، فلا يصومها أحد» واتَّبعَ الناس على جمله يصرخ بذلك.
الثاني عشر: تشرفه بغسل النبي ﷺ ودفنه:
لما توفي النبي ﷺ كان علي ممن باشر غسله مع الفضل بن العباس وأسامة بن زيد، وقال علي رضي الله عنه: غسلت رسول الله ﷺ ، فذهبت أنظر ما يكون من الميت فلم أر شيئاً ، وكان طيباً حياً وميتاً، وقال: بأبي الطيب ، طبت حياً وطبت ميتاً.
وكان علي رضي الله عنه من ضمن من نزل في قبر رسول الله ﷺ وباشروا دفنه هو والفضل بن عباس ، وقثم بن عباس ، وشقران مولى رسول الله ﷺ .
لقد كان نبأ وفاة رسول الله على الصحابة الكرام كالصاعقة لشدة حبهم له وما تعوّدوه من العيش في كنفه ، عيش الأبناء في حجر الآباء ، بل أكثر من ذلك ، وكان حظ أهل البيت والأسرة الهاشمية - وعلى رأسها فاطمة بنت رسول الله ﷺ وعلي بن أبي طالب - أوفر وأكثر بطبيعة الحال ، وبحكم الفطرة السليمة والقرابة القريبة ، وما يمتازون به من رقة الشعور ، وقوة العاطفة ، وشدة الحب، ولكن احتملوه بقوة إيمانهم والرضا بقضاء الله والاستسلام لأمره.
الثالث عشر: قصة الكتاب الذي همّ النبي ﷺ بكتابته في مرض موته:
ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قال: لما حُضر رسول الله ﷺ وفي البيت رجال ، فقال النبي ﷺ : «هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده» ، فقال بعضهم: إن رسول الله ﷺ قد غلبه الوجع ، وعندكم القران ، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده ، ومنهم من يقول غير ذلك ، فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله ﷺ : «قوموا».
قال عبد الله: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ﷺ وبين أن يكتب الكتاب لاختلافهم ولغطهم.
وفي رواية أخرى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: يوم الخميس وما يوم الخميس ، اشتد برسول الله ﷺ وجعه فقال: «ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً» فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبي نزاع ، فقالوا: ما شأنه؟ أهجر ، اسْتَفْهمُوه ، فذهبوا يردون عليه فقال: دعوني ، فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه ، وأوصاهم بثلاث ، قال: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفود بنحو ما كنت أجيزهم» ، وسكت عن الثالث ، أو قال: فنسيها. وليس فيما ثبت في هذا الحديث ورواياته الصحيحة أي مطعن على أصحاب رسول الله ﷺ ورضي الله عنهم ، وأما ما ذكره الروافض من مطاعن فباطلة معلومة الفساد.
وقد أجاب العلماء قديماً عن بعضها؛ ومن هذه الردود:
1- إن اختلاف الصحابة ثابت، وكان سبب اختلافهم في فهم قول الرسول ﷺ ومراده لا عصيانه ، قال القرطبي صاحب المفهم: وسبب ذلك أن ذلك كله إنما حمل عليه الاجتهاد المسوغ ، والقصد الصالح ، وكل مجتهد مصيب ، أو أحدهما مصيب ، والاخر غير مأثوم بل مأجور كما قررناه في الأصول. ثم ذكر أن النبي ﷺ لم يعنفهم ولا ذمهم بل قال للجميع: «دعوني فالذي أنا فيه خير».
وهذا نحو ما جرى لهم يوم الأحزاب حيث قال لهم الرسول ﷺ : «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة»، فتخوف ناس فوات الوقت ، فصلوا دون بني قريظة ، وقال اخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله ﷺ ؛ فما عنَّف أحد الفريقين.
2- وأما ما ادعاه الروافض من أن اختلاف الصحابة وما ترتب عليه من عدم كتابة النبي ﷺ لهم ذلك الكتاب هو الذي حرم الأمة من العصمة ، فهذا باطل لأنه يعني أن الرسول ﷺ قد ترك تبليغ أمته ما فيه عصمتها من الضلال ، ولم يبلغ شرع ربه لمجرد اختلاف أصحابه عنده حتى مات على ذلك ، وأنه بهذا مخالف لأمر ربه في قوله: ﴿ يأيها الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: 67].
وإذا كان الرسول ﷺ مبرأ من ذلك ومنزهاً بتزكية ربه له في قوله: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128] ، فوصفه بالحرص على أمته ، أي: على هدايتهم ، ووصول النفع الدنيوي والأخروي لهم، ذكره ابن كثير في تفسيره، وإذا كان هذا الأمر معلوماً بالاضطرار من دين الإسلام عند الخاص والعام ، لا يشك فيه من في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان ، أن هذا الرسول الكريم قد بلغ كل ما أمر به ، وكان أحرص ما يكون على أمته ، بما هو متواتر من جهاده وتضحيته ، وأخباره الدالة على ذلك ، علمنا علماً يقيناً لا يشوبه أدنى شك ، أنه لو كان الأمر كما يذكر الروافض من الوصف لهذا الكتاب من أن به عصمة الأمة من الضلال في دينها ، ورفع الفرقة والاختلاف فيما بينها ، إلى أن تقوم الساعة ، لما ساغ في دين ولا عقل أن يؤخر رسول الله ﷺ كتابه إلى ذلك الوقت الضيِّق ، ولو أخَّره ما كان ليتركه لمجرد اختلاف أصحابه عنده.
ولا يتصـور أن النبي ﷺ يترك أمر ربه ، ولو قدر أنه تركه في ذلك الوقت لتنازعهم عنده لمصلحة راها فما الذي يمنعه من أن يكتب بعد ذلك ، وقد ثبت أنه عاش بعد ذلك عدة أيام ، فقد كانت وفاته - عليه الصلاة والسلام - يوم الإثنين على ما جاء مصرحاً به في رواية أنس في الصحيحين، وحادثة الكتاب يوم الخميس بالاتفاق، وقد ثبت باتفاق السنة والرافضة ، أن رسول الله لم يكتب ذلك الكتاب حتى مات ، علمنا أنه ليس من الدين الذي أمر بتبليغه لما دلَّ عليه القران من أن الله قد أكمل له ولأمته الدين ، فأنزل عليه قبل ذلك في حجة الوداع: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾ [المائدة: 3].
قال ابن تيمية: ولم تكن كتابة الكتاب مما أوجبه الله عليه أن يكتبه أو يبلغه في ذلك الوقت ، إذ لو كان كذلك لما ترك ﷺ ما أمره الله به ، لكن ذلك مما راه مصلحة لدفع النزاع في خلافة أبي بكر ، ورأى أن الخلاف لابد أن يقع.
وقال في موضوع اخر: وأما قصة الكتاب الذي كان رسول الله ﷺ يريد أن يكتبه ، فقد جاء مبيناً كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ، قالت: قال رسول الله ﷺ في مرضه: «ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ ويقول ، قائلاً: أنا أولى ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر».
إلى أن قال بعد ذكر روايات الحديث: والنبي ﷺ قد عزم على أن يكتب الكتاب الذي ذكره لعائشة ، فلما رأى أن الشك قد وقع ، علم أن الكتاب لا يرفع الشك ، فلم يبق فيه فائدة ، وعلم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه كما قال: ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر.
وأما قوله في الحديث: «لن تضلوا بعدي» فيقول الدهلوي في توجيهه: فإن قيل لو لم يكن ما يكتب أمراً دينياً فلم قال: «لن تضلوا بعدي؟» قلنا: للضلال معانٍ ، والمراد به هنا عدم الخطأ في تدبير الملك ، وهو إخراج المشركين من جزيرة العرب، وإجازة الوفد بنحو ما كان يجيزه ، وتجهيز جيش أسامة منه ، لا الضلالة والغواية عن الدين وهو ما فعله أبو بكر والصحابة من بعده.
3- وأما معنى قول ابن عباس: إن الرزية ما حال بين رسول الله ﷺ وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب ، فكما قال ابن تيمية في معناه: يقتضي أن الحائل كان رزية ، وهو رزية في حق من شك في خلافة الصديق ، واشتبه عليه الأمر، فإنه لو كان هناك كتاب لزال الشك ، فأما من علم أن خلافته حق فلا رزية في حقه ولله الحمد.
ويوضِّح ذلك أن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ما قال ذلك إلا بعد ظهور أهل الأهواء والبدع ، من الخوارج والروافض، نص على هذا ابن تيمية، وابن حجر.
4- وأما ادعاؤهم أن النبي ﷺ أراد بذلك الكتاب أن ينص على خلافة علي ـ رضي الله عنه ـ ، وزعم بعض الروافض أنه ليس هناك تفسير معقول غيره ، وهذا الادعاء باطل؛ قال ابن تيمية: ومن توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة علي فهو ضالٌّ باتفاق عامة الناس ، من علماء السنة والشيعة ، أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه ، وأما الشيعة القائلون بأن علي كان مستحقاً للإمامة فيقولون: إنه قد نص على إمامته قبل ذلك نصاً جلياً ظاهراً معروفاً ، وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى الكتاب.
5- وأما طعن الروافض على عمر رضي الله عنه ، وزعمهم بأنه قد اتهم رسول الله ﷺ بأنه لا يعي ما يقول ، وقال: «إنه يهجر» ولم يمتثل قوله ، وقال: «عندكم كتاب الله» ، «حسبنا كتاب الله»؛ فجوابه: أن ما ادعاه أولاً بأن عمر اتهم رسول الله ﷺ بالهجر وأنه لا يعي ما يقول فهذا باطل ، وذلك أن هذه اللفظة (أهجر) لا تثبت عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أصلاً ، وإنما قالها بعض من حضر الحادثة من غير أن تعين الروايات الواردة في الصحيحين قائلها ، وإنما الثابت فيها: «فقالوا: ما شأنه ؟ أهجر» هكذا بصيغة الجمع دون الإفراد، ولهذا أنكر بعض العلماء أن تكون هذه اللفظة من كلام عمر ، قال ابن حجر: ويظهر لي ترجيح ثالث الاحتمالات التي ذكرها القرطبي ، ويكون قائل ذلك بعض من قرب دخوله في الإسلام ، وكان يعهد أن من اشتد عليه الوجع ، قد يشتغل به عن تحرير ما يريد.
وقال الدهلوي: من أين يثبت أن قائل هذا القول هو عمر مع أنه وقع في أكثر الروايات: (قالوا) بصيغة الجمع.
إن الثابت الصحيح من هذه اللفظة أنها وردت بصيغة الاستفهام هكذا (أهجر؟)، وهذا بخلاف ما جاء في بعض الروايات بلفظ: (هجر ، ويهجر)؛ فإنه مرجوح على ما حقق ذلك المحدثون وشراح الحديث ، منهم القاضي عياض ، والقرطبي، والنووي، وابن حجر ، فقد نصوا أن الاستفهام جاء على سبيل الإنكار ـ على من قال: لا تكتبوا ، قال القرطبي بعد أن ذكر الأدلة على عصمة النبي ﷺ من الخطأ في التبليغ في كل أحواله ، وتقرر ذلك عند الصحابة: وعلى هذا يستحيل أن يكون قولهم: (أهجر) ، لشك عرض لهم في صحة قوله ، زمن مرضه ، وإنما كان ذلك من بعضهم على وجه الإنكار على من توقف في إحضار الكتاب والدواة ، وتلكأ عنه، فكأنه يقول لمن توقف: كيف تتوقف ؟ أتظن أنه قال: هذياناً ، فدع التوقف وقرب الكتاب ، فإنه يقول الحق لا الهجر ، وهذا أحسن ما يحمل عليه.
وهذا يدل على اتفاق الصحابة على استحالة الهجر على الرسول ﷺ ، حيث إن قائليها أوردوها على سبيل الإنكار الملزم ، الذي لا يشك فيه المخالف ، وبه تبطل دعوى الروافض من أصلها.
6- أما ادعاؤهم من معارضة عمر لرسول الله ﷺ بقوله: عندكم كتاب الله ، حسبنا كتاب الله ، وأنه لم يتمثل أمر رسول الله ﷺ فيما أراد من كتابة الكتاب، فالرّدّ على هذه الشبهة الواهية: أن عمر - رضي الله عنه - ومن كان على رأيه من الصحابة ، ظهر لهم ، أن أمر الرسول بكتابة الكتاب ليس على الوجوب ، وأنه من باب الإرشاد إلى الأصلح ، وقد نبه على هذا القاضي عياض، والقرطبي، والنووي، وابن حجر.
ثم إنه قد ثبت بعد هذا صحة اجتهاد عمر - رضي الله عنه - وذلك بترك الرسول ﷺ كتابة الكتاب ، ولو كان واجباً لم يتركه لاختلافهم ، لأنه لم يترك التبليغ لمخالفة من خالف ، ولهذا عدّ هذا من موافقات عمر ، كما أن قول عمر - رضي الله عنه -: حسبنا كتاب الله ، رد على من نازعه لا على أمر النبي ﷺ ، وهذا ظاهر من قوله: عندكم كتاب الله ، فإن المخاطب جمع؛ وهم المخالفون لعمر ـ رضي الله عنه ـ في رأيه ، كما أن عمر ـ رضي الله عنه ـ كان بعيد النظر ، ثاقب البصيرة ، سديد الرأي ، وقد رأى أن الأولى ترك كتابة الكتاب ـ بعد أن تقرر عنده أن الأمر به ليس على الوجوب ـ وذلك لمصلحة شرعية راجحة للعلماء في توجيهها أقوال؛ منها: شفقته على رسول الله ﷺ مما يلحقه من كتابة الكتاب مع شدة المرض ، ويشهد لهذا قوله: إن رسول الله ﷺ قد غلبة الوجع ، فكره أن يتكلف رسول الله ﷺ ما يشق ويثقل عليه ، مع استحضار قوله تعالى: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38] ، وقوله تعالى: ﴿ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النحل: 89].
قال النووي: وأما كلام عمر ـ رضي الله عنه ـ فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث ، على أنه من دلائل فقه عمر ، وفضائله ودقيق نظره.
كما أن عمر رضي الله عنه كان مجتهداً ًفي موقفه من كتابة الكتاب ، والمجتهد في الدين معذور على كل حال ، بل مأجور لقول النبي ﷺ : «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أ صاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» ، فكيف وقد كان اجتهاد عمر بحضور رسول الله ﷺ فلم يؤثمه ولم يذمه به ، بل وافقه على ما أراد من ترك الكتاب ؟!.
وبهذا يظهر بطلان طعن الروافض على الصحابة في هذه الحادثة ، وينكشف زيف ما قالوه في حقهم.

يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022