الأربعاء

1446-07-08

|

2025-1-8

علي بن أبي طالب رضي الله عنه في عهد الصديق

الحلقة السادسة عشر

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الأولى 1441 ه/ يناير 2020 م

أولاً: مبايعة علي لأبي بكر بالخلافة رضي الله عنهما:
وردت أخبار كثيرة في شأن تأخُّر علي عن مبايعة الصديق ، وكذا تأخُّر الزبير بن العوام ، وجُلّ هذه الأخبار ليست بصحيحة ، وقد جاءت روايات صحيحة السند تفيد بأن علياً والزبير رضي الله عنهما بايعا الصديق في أول الأمر ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله ﷺ قام خطباء الأنصار.. فذكر بيعة السقيفة، ثم قال: ثم انطلقوا فلما قعد أبو بكر على المنبر نظر في وجوه القوم فلم ير علي ، فسأل عنه، فقام أناس من الأنصار ، فأتوا به. فقال أبو بكر: ابن عم رسول الله ﷺ وختنه أردت أن تشق عصا المسلمين ، فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله ﷺ ، فبايعه ثم لم ير الزبير بن العوام ، فسأل عنه حتى جاؤوا به ، فقال: ابن عمّة رسول الله ﷺ وحواريه ، أردت أن تشق عصا المسلمين ، فقال مثل قوله: لا تثريب يا خليفة رسول الله فبايعاه.
ومما يدل على أهمية حديث أبي سعيد الخدري الصحيح: أن الإمام مسلم بن الحجاج صاحب الجامع الصحيح الذي هو أصح الكتب الحديثية بعد صحيح البخاري ذهب إلى شيخه الحافظ محمد بن إسحاق بن خزيمة صاحب صحيح ابن خزيمة ، فسأله عن هذا الحديث ، فكتب له ابن خزيمة الحديث ، وقرأه عليه ، فقال مسلم لشيخه ابن خزيمة: هذا الحديث يساوي بدنة ، فقال ابن خزيمة: هذا الحديث لا يساوي بدنة فقط ، إنه يساوي بدرة مال.
وعلق على هذا الحديث ابن كثير رحمه الله فقال: هذا إسناد صحيح محفوظ، وفيه فائدة جليلة ، وهي مبايعة علي بن أبي طالب إما في أول يوم أو في اليوم الثاني من الوفاة ، وهذا حق ، فإن علي بن أبي طالب لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات ، ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه.
وفي رواية حبيب بن أبي ثابت ، حيث قال: كان علي بن أبي طالب في بيته ، فأتاه رجل ، فقال له: قد جلس أبو بكر للبيعة ، فخرج علي إلى المسجد في قميص له ، ما عليه إزار ولا رداء ، وهو متعجِّل ، كراهة أن يبطئ عن البيعة ، فبايع أبا بكر ، ثم جلس ، وبعث إلى ردائه فجاؤوه به ، فلبسه فوق قميصه.
وقد سأل عمرو بن حريث سعيد بن زيد رضي الله عنه ، فقال له: أشهِدْتَ وفاة رسول الله ﷺ ؟ قال: نعم ، قال له: متى بويع أبو بكر؟ قال سعيد: يوم مات رسول الله ﷺ ، كره المسلمون أن يبقوا بعض يوم ، وليسوا في جماعة.
قال: هل خالف أحد أبا بكر؟
قال سعيد: لا. لم يخالف إلا مرتد، أو كاد أن يرتد ، وقد أنقذ الله الأنصار ، فجمعهم عليه وبايعوه. قال: هل قعد أحد من المهاجرين عن بيعته؟ قال سعيد: لا، لقد تتابع المهاجرون على بيعته.
وكان مما قال علي رضي الله عنه لابن الكواء وقيس بن عباد ، حينما قدم البصرة وسألاه عن مسيره قال: «لو كان عندي من النبي ﷺ عهد في ذلك ما تركت أخا بني تيم بن مرة وعمر بن الخطاب يقومان على منبره ، ولقاتلتهما ولو لم أجد إلا بردي هذا ، ولكن رسول الله ﷺ لم يقتل قتلاً ولم يمت فجأة ، مكث في مرضه أياماً وليالي يأتيه المؤذن فيؤذنه بالصلاة ، فيأمر أبا بكر فيصلي بالناس ، وهو يرى مكاني ، ولقد أرادت امرأة من نسائه أن تصرفه عن أبي بكر فأبى وغضب ، وقال: «أنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر يصلِّ بالناس» فلما قبض الله نبيه ونظرنا في أمورنا ، فاخترنا لدنيانا من رضيه نبي الله لديننا ، وكانت الصلاة أصل الإسلام ، وهي أعظم الأمور وقوام الدين ، فبايعنا أبا بكر، وكان لذلك أهلاً ، ولم يختلف عليه منا اثنان ، ولم يشهد بعضنا على بعض ، ولم نقطع منه البراءة ، فأديت إلى أبي بكر حقه ، وعرفت له طاعته ، وغزوت معه في جنوده ، وكنت اخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأضرب بين يديه الحدود بسوطي.
وكان مما قال في خطبته على منبر الكوفة في ثنائه على أبي بكر وعمر: فأعطى المسلمون البيعة طائعين ، فكان أول من سبق في ذلك من ولد عبد المطلب أنا.
وجاءت روايات أشارت الى مبايعة علي لأبي بكر رضي الله عنهما في أول الأمر وإن لم تصرح بذلك ، فعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: إن عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. ثم قام أبو بكر فخطب الناس ، واعتذر إليهم ، وقال: والله ما كنت حريصاً على الإمارة يوماً ولا ليلة قط ، ولا كنت فيها راغباً ، ولا سألتها الله عز وجل في سر ولا علانية، ولكني أشفقت من الفتنة ، ومالي في الإمارة من راحة ، ولكن قلدت أمراً عظيماً ما لي به من طاقة ، ولا يد إلا بتقوية الله عز وجل ، ولوددت أن أقوى الناس عليها مكاني اليوم. فقبل المهاجرون منه ما قال وما اعتذر به ، قال علي رضي الله عنه والزبير: ما غضبنا إلا لأنا قد أخرنا عن المشاورة ، وأنّا نرى أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله ﷺ ؛ إنه لصاحب الغار ، وثاني اثنين ، وإنّا لنعلم بشرفه ، وكبره ، ولقد أمره رسول الله ﷺ بالصلاة بالناس وهو حي.
وعن قيس العبدي قال: شهدت خطبة علي يوم البصرة ، قال: فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر النبي ﷺ وما عالج من الناس ، ثم قبضه الله عز وجل إليه ، ثم رأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه ، فبايعوا وعاهدوا وسلموا ، وبايعت وعاهدت وسلمت ، ورضوا ورضيت ، وفعل من الخير وجاهد حتى قبضه الله عز وجل رحمة الله عليه.
إن علياً رضي الله عنه لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات ، ولم ينقطع عنه في جماعة من الجماعات ، وكان يشاركه في المشورة ، وفي تدبير أمور المسلمين. ويرى ابن كثير ومجموعة من أهل العلم أن علياً جدد بيعته بعد ستة أشهر من البيعة الأولى؛ أي: بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها ، وجاءت في هذه البيعة روايات صحيحة. ولكن لما وقعت البيعة الثانية اعتقد بعض الرواة أن علياً لم يبايع قبلها ، فنفى ذلك ، والمثبت مقدم على النافي.
وهناك كتاب اسمه (الإمام علي جدل الحقيقة والمسلمين ، الوصية والشورى) لمحمود محمد العلي ، زعم صاحبه بأنه يبحث ويناشد الحقيقة ، ولكن صاحبه لم يتخلص من المنهج الشيعي الرافضي في الطرح ، ووضع السم في العسل ، ولذلك وجب التنبيه ، وقد تعرض لبيعة علي رضي الله عنه ، وزعم بأن أحقية علي رضي الله عنه بالخلافة قائمة على الوصية.
ثانياً: علي رضي الله عنه ومساندته لأبي بكر في حروب الردة:
كان علي رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه عيبة نصح له ، مرجحاً لما فيه مصلحة للإسلام والمسلمين على أي شيء اخر ، ومن الدلائل الساطعة على إخلاصه لأبي بكر ونصحه للإسلام والمسلمين ، وحرصه على الاحتفاظ ببقاء الخلافة ، واجتماع شمل المسلمين؛ ما جاء من موقفه من توجه أبي بكر رضي الله عنه بنفسه الى ذي القصة ، وعزمه على محاربة المرتدين ، وقيادته للتحركات العسكرية ضدهم بنفسه ، وما كان في ذلك من مخاطرة وخطر على الوجود الإسلامي.
فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: لما برز أبو بكر الى ذي القصة ، واستوى على راحلته؛ أخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه بزمامها ، وقال: إلى أين يا خليفة رسول الله ﷺ ؟ أقول لك ما قال رسول الله ﷺ يوم أحد: «لم سيفك ولا تفجعنا بنفسك ، وارجع الى المدينة ، فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبداً» فرجع. فلو كان علي رضي الله عنه - أعاذه الله من ذلك - لم ينشرح صدره لأبي بكر وقد بايعه على رغم من نفسه ، فقد كانت هذه فرصة ذهبية ينتهزها علي ، فيترك أبا بكر وشأنه ، لعله يحدث به حدث فيستريح منه ويصفو الجوُّ له ، وإذا كان فوق ذلك حاشاه الله من كراهته له ، وحرصه على التخلص منه ، أغرى به أحداً يغتاله ، كما يفعل الرجال السياسيون بمنافسيهم وأعدائهم ، وقد كان رأي علي رضي الله عنه مقاتلة المرتدين ، وقال لأبي بكر لما قال لعلي: ما تقول يا أبا الحسن؟ قال أقول: إنك إن تركت شيئاً مما كان أخذه منهم رسول الله؛ فأنت على خلاف سنة الرسول ﷺ ، فقال: أما لئن قلت ذاك لأقاتلنهم ، وإن منعوني عقالاً.

ثالثاً: تقديم علي رضي الله عنه لأبي بكر:
تواترت الأخبار عن علي رضي الله عنه في تفضيله وتقديمه لأبي بكر رضي الله عنه ، فمن ذلك:
1- عن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله ﷺ ؟ قال: أبو بكر ، قلت: ثم من؟ قال: عمر. وخشيت أن يقول: عثمان ، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.
2- عن علي رضي الله عنه قال: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها ؟ أبو بكر. ثم قال: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد أبي بكر ؟ عمر.
3- عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا تستخلف علينا؟ قال: ما استخلف رسول الله ﷺ فأستخلف ، ولكن إن يرد الله بالناس خيراً فسيجمعهم بعدي على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم.
4- وقال علي رضي الله عنه: لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري.
5- وقال علي لأبي سفيان رضي الله عنهما: إنا وجدنا أبا بكر لها أهلاً.
وهناك اثار يستأنس بها في إيضاح العلاقة الطيبة بين علي وأبي بكر؛ منها:
(أ) عن عقبة بن الحارث قال: خرجت مع أبي بكر الصديق من صلاة العصر بعد وفاة النبي ﷺ بليال ، وعلي يمشي الى جنبه ، فمر بحسن بن علي يلعب مع غلمان ، فاحتمله على رقبته وهو يقول:
بأبي يشبه النبي
ليس شبيهاً بعلي

قال: وعلي يضحك.
(ب) وعن علي رضي الله عنه قال: من فارق الجماعة شبراً ، فقد نزع ربقة الإسلام من عنقه، فهل كان علي يفعل ذلك؟ كان رضي الله عنه يكره الاختلاف ويحرص على الجماعة.
قال القرطبي: من تأمل ما دار بين أبي بكر وعلي من المعاتبة ومن الاعتذار ، وما تضمن ذلك من الاتفاق؛ عرف أن بعضهم كان يعترف بفضل الاخر ، وأن قلوبهم كانت متفقة على الاحترام والمحبة ، وإن كان الطبع البشري قد يغلب أحياناً، لكن الديانة ترد ذلك ، والله الموفق.
وأما ما قيل من تخلف الزبير بن العوام عن البيعة لأبي بكر ، فإنه لم يرد من طريق صحيح ، بل ورد ما ينفي هذا القول، ويثبت مبايعته في أول الأمر ، وذلك في أثر أبي سعيد السابق الصحيح وغيره من الاثار.
(ج) قال ابن تيمية: وقد تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: خير الأمة بعد نبيها أبو بكر ، ثم عمر. وقد روي هذا عنه من طرق كثيرة قيل: أنها تبلغ ثمانين طريقاً. وعنه أنه كان يقول: لا أوتي بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري. وقال أيضاً: ولم يقل أحد قط أني أحق بهذا ـ أي الخلافة ـ من أبي بكر ، ولا قاله أحد في أحد بعينه أن فلاناً أحق بهذا الأمر من أبي بكر. وإنما قال من فيه أثر الجاهلية عربية أو فارسية: إن بيت الرسول أحق بالولاية؛ لأن العرب في جاهليتها كانت تقدم أهل الرؤساء ، وكذلك الفرس يقدمون أهل بيت الملك ، فنقل عمن نقل عنه كلام يشير به الى هذا.
(د) تسمية أبي بكر بالصديق وشهادة علي له بالسباق والشجاعة: عن يحيى حكيم بن سعد قال: سمعت علياً رضي الله عنه يحلف بالله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق. وعن صلة بن زفر العبسي قال: كان أبو بكر إذا ذكر عند علي قال: السباق تذكرون ، والذي نفسي بيده ما استبقنا إلى خير قط إلا سبقنا إليه أبو بكر.
وعن محمد بن عقيل بن أبي طالب قال: خطبنا علي فقال: أيها الناس ! من أشجع الناس؟ قلنا: أنت يا أمير المؤمنين. قال: ذاك أبو بكر الصديق ، إنه لما كان في يوم بدر وضعنا لرسول الله ﷺ العريش، فقلنا: من يقيم عنده لا يدنو إليه أحد من المشركين؟ فما قام عليه إلا أبو بكر ، وإنه كان شاهراً السيف على رأسه كلما دنا إليه أحد هوى إليه أبو بكر بالسيف ، ولقد رأيت رسول الله وأخذته قريش عند الكعبة؛ فجعلوا يتعتعونه ويترترونه، ويقول: أنت الذي جعلت الالهة إلهاً واحداً ، فوالله ما دنا إليه إلا أبو بكر ، ولأبي بكر يومئذ ضفرتان، فأقبل يجأ هذا ويدفع هذا ويقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله ، وقد جاءكم بالبينات من ربكم.. وقطعت إحدى ضفيرتي أبي بكر ، فقال علي لأصحابه: ناشدتكم الله أي الرجلين خير ، مؤمن ال فرعون أو أبو بكر؟ فأمسك القوم ، فقال علي: والله ليوم من أبي بكر خير من مؤمن ال فرعون ، ذلك رجل كتم إيمانه فأثنى الله عليه ، وهذا أبو بكر بذل نفسه ودمه لله.

يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022