أهم أعمال علي رضي الله عنه ما بين الأحزاب إلى وفاة النبي ﷺ (٢)
الحلقة الرابعة عشر
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1441 ه/ يناير 2020 م
سادساً: علي رضي الله عنه في فتح مكة وغزوة حنين 8 هـ:
نقضت قريش صلحها مع رسول الله ﷺ بمساندتها بني بكر على خزاعة حليفة المسلمين ، ودعمتهم بالخيل والسلاح والرجال. فقال رسول الله ﷺ «نصرت يا عمرو بن سالم ، لا نصرني الله إن لم أنصر بني كعب» ولما عرض السحاب من السماء قال: «إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب».
وقد جاء عمرو بن سالم إلى المدينة وأنشد قصيدة بين يدي رسول الله ﷺ جاء فيها:
يا ربِّ إني ناشدٌ محمدا
حلفَ أبينا وأبيهِ الأتلاد
قد كنتُم وُلداً ، وكنّا والدا
ثُمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصرْ هداك اللهُ نصراً أعتدا
وادعُ عبادَ الله يأتوا مَدَدا
فيهم رسولُ اللهِ قد تَجَرَّدا
إن سيم خسفاً وجهه تربدا
إلى أن قال:
وزعموا أنْ لستُ أدعو أحدا
وهم أذلُّ وأقلُّ عددا
هم بيَّتُونا بالوتيرِ هجّدا
وقتلونا ركَّعاً وسجدا
وبعثت قريش أبا سفيان إلى المدينة لتمكين الصلح وإطالة أمده ، وعندما وصل إلى المدينة ودخل على رسول الله ﷺ يعرض حاجته ، أعرض عنه النبي ﷺ ولم يجبه ، فاستعان بكبار الصحابة أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي حتى يتوسطوا بينه وبين رسول الله ﷺ ، فأبوا جميعاً ، فعاد أبو سفيان إلى مكة من غير أن يحظى بأي اتفاق أو عهد.
وكانت لعلي رضي الله عنه في فتح مكة مواقف متعددة ، منها:
1- إحباط محاولة تجسس لصالح قريش:
عن حسن بن محمد بن علي عن عبيد الله بن أبي رافع: أنه سمع علياً يقول: بعثني رسول الله ﷺ - يقول -: أنا والزبير والمقداد ، فقال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخٍ ، فإنَّ بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها». فانطلقنا تَعَادى بنا خيْلُنا حتى أتينا الروضة ، فإذا نحن بالظعينة ، قلنا: أخرجي الكتاب ، قالت: ما معي من كتاب. قلنا: لتُخرجنَّ الكتاب أو لنُلقينَّ الثياب ، قال: فأخرجتِ الكتاب من عِقاصِها ، فأخذنا الكتاب ، فأتينا به رسول الله ﷺ ، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة ، يخبرهم ببعض أمر رسول الله ﷺ ، فقال رسول الله: «يا حاطب ما هذا؟» قال: لا تعجل عليّ ، إني كنت امرأً مُلْصَقاً في قريش ، ولم أكن من أنفُسها ، وكان من كان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النَّسب فيهم أن أتَّخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي ، وما فعلت ذلك كفراً ، ولا ارتداداً عن ديني ، ولا رِضاً بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله ﷺ : «إنه قد صدقكم». فقال عمر: دَعْني أضرب عُنُق هذا المنافق. فقال: «إنه قد شهد بدراً ، وما يدريك لعلَّ الله قد اطَّلَعَ إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم».
2- أجرنا من أجرت يا أم هانئ:
قالت أم هانئ بنت أبي طالب أخت علي رضي الله عنهما: لما نزل رسول الله ﷺ بأعلى مكة فر إليَّ رجلان من أحمائي ، من بني مخزوم ، وكانت عنده هبيرة بن أبي وهب المخزومي، قالت: فدخل عليَّ علي بن أبي طالب أخي، فقال: والله لاقتلنهما ، فأغلقت عليهما باب بيتي ، ثم جئت رسول الله ﷺ وهو بأعلى مكة ، فوجدته يغتسل من جفنة إن فيها لأثر العجين ، وفاطمة ابنته تستره بثوبه ، فلما اغتسل أخذ ثوبه ، فتوشح به ، ثم صلى ثماني ركعات من الضحى، ثم انصرف إليَّ فقال: «مرحباً وأهلاً يا أم هانئ ما جاء بك؟» فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي ، فقال: «قد أجرنا من أجرتِ وأمنا من أمنت ، فلا يقتلهما»، وبناء على ما تقدم ، فإنَّ تأمين المسلم للكافر من أهل الحرب يجعله في أمان ، ومن ثمّ ، فلا يجوز للمسلمين أن يتعرَّضوا له بشيء.. وحتى يُصَانَ حقُّ التأمين هذا من أي ضرر يمكن أن يلحق بالمسلمين من جرَّائه؛ فقد شرط الفقهاء لصحَّته أن يتجرَّد مُعطْي الأمان من التُّهمَة ، ويَخْلُو ذلك الأمان الممنوح من أيَّة مَفْسَدَة, أو يرفع الأمر إلى ولي الأمر ليرى رأيه فيه.
3- مقتل الحويرث بن نقيذ بن وهب:
في هذا الفتح العظيم ، كان النبي ﷺ قد عهد إلى أمرائه ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم ، غير أنه أهدر دمَ نفر سمَّاهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة ، منهم الحويرث بن نقيذ بن وهب ، كان ممن يؤذي النبي ﷺ بمكة ، ولما تحمل العباس بفاطمة وأم كلثوم ، نخس بهما الحويرث الجَمل الذي هما عليه فسقطتا على الأرض ، فلما أهدر دمُه وظفر به عليٌّ قتله.
4- علي رضي الله عنه في مهمة إصلاحية:
أرسله الرسول ﷺ إلى بني جذيمة ، ليتلافى خطأ خالد بن الوليد في قتل بعضهم ، وذلك أن الرسول ﷺ بعث خالداً في السنة الثامنة للهجرة عقب فتح مكة ، إلى بني جذيمة يدعوهم إلى الإسلام ، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا ، وقالوا: صبأنا ، فأخذ خالد يقتل منهم ويأسر... فلما بلغ رسول الله ﷺ ما صنع خالد ، رفع يديه فقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع» ، مرتين، فبعث الرسول ﷺ علياً إليهم ، لينظر في أمرهم ، وبعث معه بمال ، فقام علي بمهمته خير قيام ، فودَى لهم وعوضهم عما أصيب في الدماء والأموال ، حتى إنه ليدي ميلغة الكلب ، ولما انتهى من ذلك كله ، سألهم: هل بقي لكم بقية من دم أو مال لم يؤدَّ إليكم؟ قالوا: لا ، قال: فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال ، احتياطياً لرسول الله ﷺ مما لا يعلم ولا تعلمون، ففعل ، ولما رجع إلى رسول الله ﷺ وأخبره بالخبر قال: «أصبت وأحسنت»وبهذه المهمة الجليلة الموفقة، أزال عليّ رضي الله عنه هما وحملاً أثقل الرسول ﷺ ، وبهذا الهدي النبوي الحكيم واسى النبي ﷺ بني جذيمة ، وأزال ما في نفوسهم من أسى وحزن، وكان قتل خالد لبني جذيمة تأوّلاً منه واجتهاداً خاطئاً، وذلك بدليل: أن الرسول ﷺ لم يعاقبه على فعله، ولم يعزله.
5- علي رضي الله عنه في غزوة حنين:
من أعماله الجهادية التي تتسم بالشجاعة وتدل على الخبرة في القتال؛ ما كان في غزوة حنين في العام الثامن من الهجرة، فقد ثبت مع الرسول ﷺ ، ومع من ثبت معه من المهاجرين والأنصار ، وكان في جيش هوازن رجل على جمل أحمر بيده راية سوداء ، إذا أدرك طعن برمحه ، وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه ، فأدرك علي بعبقريته الحربية ، وتجربته الطويلة ، أن لهذا الرجل عاملاً مؤثراً في حماس هوازن وشدتها ، فاتجه علي بن أبي طالب رضي الله عنه ورجل من الأنصار نحوه واستطاعا إسقاطه من على جمله وقتله ، فما كانت إلا ساعة حتى انهزموا وولوا الأدبار وانتصر المسلمون.
6- سرية علي رضي الله عنه لهدم الصنم الفلس في بلاط طيِّئ:
بعد أن طهَّر النبي ﷺ البيت الحرام من الأوثان التي كانت فيه ، كان لابد من هدم البيوت التي كانت معالم للجاهلية ردحاً طويلاً من الزمن، فكانت سرايا رسول الله ﷺ تترى لتطهير الجزيرة منها ، فكانت من نصيب علي رضي الله عنه صنم الفلس في بلاد طيء ، ففي ربيع الاخر خرجت سرية علي بن أبي طالب إلى الفلس صنم لطيئ ليهدمه ، وكان تعدادها خمسين ومئة رجل من الأنصار ، على مئة بعير وخمسين فرساً ، ومعه راية سوداء ولواء أبيض ، فشنوا الغارة على محلة آل حاتم - حاتم الطائي الذي ضرب المثل بجوده - مع الفجر فهدموا الفلس وخربوه ، وملؤوا أيديهم من السبي والنعم والشاء ، وفي السبي أخت عدي بن حاتم ، وهرب عدي إلى الشام.
سابعاً: استخلاف النبي ﷺ لعلي على المدينة في غزوة تبوك 9 هـ:
كان في رجب سنة تسع من الهجرة غزوة تبوك ، وكانت لها أهمية كبيرة في السيرة النبوية ، وتحققت منها غايات كانت بعيدة الأثر في نفوس المسلمين والعرب ، ومجرى الحوادث في تاريخ الإسلام، واستعمل رسول الله ﷺ على المدينة علياً، فوجد المنافقون فرصة للتنفيس عما بداخلهم من حقد ونفاق ، فأخذوا يتكلمون في علي رضي الله عنه بما يسيئ إليه ، فمن ذلك قولهم: ما تركه إلا لثقله عليه ، وهذا العمل والقول السيئ منهم في حقه ، علامة بارزة واضحة على نفاقهم ، ففي الحديث الصحيح: أن علياً رضي الله عنه قال: والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، إنه لعهد النبي الأمي ﷺ أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق. عند ذلك أدرك علي الجيش، وأراد الغزو معهم قائلاً: يا رسول الله ! أتخلفني في الصبيان والنساء ، فقال رسول الله ﷺ : «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، غير أنه لا نبي بعدي».
ثامناً: علي رضي الله عنه ودوره الإعلامي في حجة أبي بكر بالناس 9 هـ:
كانت تربية المجتمع وبناء الدولة في عهد النبي ﷺ مستمرة على كل الأصعدة والمجالات العقائدية ، والاقتصادية ، والاجتماعية ، والسياسية ، والعسكرية ، والتعبدية ، وكانت فريضة الحج لم تمارس في السنوات الماضية.
فحجة عام 8 هـ بعد الفتح كلف بها عتاب بن أسيد ، ولم تكن قد تميزت حجة المسلمين عن حجة المشركين، فلما حلَّ موسم الحج أراد ﷺ الحج ، ولكنه قال: «إنه يحضر البيت عراة مشركون يطوفون بالبيت ، فلا أحب أن أحج» وكان ذلك سنة 9 هـ ، فخرج أبو بكر ومعه عدد كبير من الصحابة، وساقوا معهم الهدي، فلما خرج الصديق بركب الحجيج نزلت سورة براءة ، فدعا النبي ﷺ علياً رضي الله عنه وأمره أن يلحق بأبي بكر الصديق ، فخرج على ناقة رسول الله ﷺ العضباء حتى أدرك الصديق أبا بكر بـذي الحليفة ، فلما راه الصديق قال له: أمير أم مأمور ؟ فقال: بل مأمور ، ثم سـارا ، فأقام أبو بكر للناس الحج على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية ، وكان الحج في هذا العام في ذي الحجة كما دلت على ذلك الروايات الصحيحة ، لا في شهر ذي القعدة كما قيل.
وقد خطب الصديق قبل التروية ، ويوم عرفة ، ويوم النحر ، ويوم النفر الأول، فكان يعرف الناس مناسكهم: في وقوفهم ، وإفاضتهم ، ونحرهم ، ونفرهم ، ورميهم للجمرات... إلخ ، وعلي يخلفه في كل موقف من هذه المواقف ، فيقرأ على الناس صدر سورة براءة ، ثم ينادي في الناس بهذه الأمور الأربعة: لا يدخل في الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين النبي ﷺ عهد فعهده إلى مدته ، ولا يحج المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا، وقد أمر الصديق رهطاً اخر من الصحابة لمساعدة علي بن أبي طالب في إنجاز مهمته.
إن نزول صدر سورة براءة يمثل مفاصلة نهائية مع الوثنية ، واتباعها ، حيث منعت حجهم وأعلنت الحرب عليهم.
قال تعالى: ﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [التوبة: 1 - 3].
وقد أمهل المعاهدون لأجل معلوم منهم إلى انتهاء مدتهم ، قال تعالى: ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 4].
كما أمهل من لا عهد له من المشركين إلى انسلاخ الأشهر الحرم ، حيث يصبحون بعدها في حالة حرب مع المسلمين، قال تعالى: ﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 5].
وقد كلف النبي ﷺ علياً بإعلان نقض العهود على مسامع المشركين في موسم الحج ، مراعاة لما تعارف عليه العرب فيما بينهم في عقد العهود ونقضها. أن لا يتولى ذلك إلا سيد القبيلة أو رجل من رهطه ، وهذا العرف ليس فيه منافاة للإسلام ، فلذلك تدارك النبي ﷺ الأمر وأرسل علياً بذلك ، فهذا هو السبب في تكليف علي بتبليغ صدر سورة براءة ، لا ما زعمته الرافضة من أن ذلك للإشارة إلى أن علياً أحق بالخلافة من أبي بكر.
وقد علق الدكتور محمد أبو شهبة فقال: ولا أدري كيف غفلوا عن قول الصديق: أمير أم مأمور؟ وكيف يكون المأمور أحق بالخلافة من الأمير.
وقد كانت هذه الحجة بمثابة التوطئة للحجة الكبرى وهي حجة الوداع ، لقد أعلن في حجة أبي بكر أن عهد الأصنام قد انقضى ، وأن مرحلة جديدة قد بدأت ، وما على الناس إلا أن يستجيبوا لشرع الله تعالى ، فبعد هذا الإعلان الذي انتشر بين قبائل العرب في الجزيرة ، أيقنت تلك القبائل أن الأمر جد ، وأن عهد الوثنية قد انقضى فعلاً ، فأخذت ترسل وفودها معلنة إسلامها ودخولها في التوحيد.
تاسعاً: علي رضي الله عنه ووفد نصارى نجران ، واية المباهلة 9 هـ:
كتب رسول الله ﷺ إلى نجران كتاباً قال فيه: «أما بعد ، فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد ، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد ، فإن أبيتم فالجزية. فإن أبيتم آذنتكم بحرب. والسلام» فلما أتى الأسقف الكتاب ، جمع الناس وقرأه عليهم ، وسألهم عن الرأي فيه؟ فقرروا أن يرسلوا إليه وفداً يتكون من أربعة عشر من أشرافهم ، وقيلَ: ستين راكباً ، منهم ثلاثة نفر يؤول إليهم أمرهم: العاقب ، وهو أميرهم وصاحب مشورتهم والذي يصدرون عن رأيه ، والسيد ، وهو صاحب رحلتهم ، وأبو الحارث ، أسقفهم وحبرهم وصاحب مدارسهم.
ولما جاء وفد نصارى نجران إلى رسول الله ﷺ بالمدينة ، وضعوا ثياب السفر عنهم ، ولبسوا حللاً لهم يجرونها من الحبرة، وخواتيم الذهب ، ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله ﷺ ، فسلموا عليه ، فلم يرد عليهم السلام ، وتصدوا لكلامه طويلاً ، فلم يكلمهم ، وعليهم تلك الحلل والخواتيم الذهب ، فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف «رضي الله عنهما» وكانا معرفة لهم ، كانا يخرجان العير في الجاهلية إلى نجران ، فيشتري لهما من برها وثمرها وذرتها ، فوجدوهما في ناس من الأنصار في مجلس، فقالوا: يا عثمان، ويا عبد الرحمن ! إن نبيكم كتب إلينا بكتاب ، فأقبلنا مجيبين له ، فأتيناه فسلمنا عليه ، فلم يرد علينا سلامنا ، وتصدينا لكلامه نهاراً طويلاً ، فأعيانا أن يكلمنا ، فما الرأي منكما ، أنعود؟.
فقالا لعلي بن أبي طالب وهو في القوم: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟ قال: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ، ويلبسوا ثياب سفرهم ، ثم يأتوا إليه، ففعل الوفد ذلك ، فوضعوا حللهم وخواتيمهم ، ثم عادوا إلى رسول الله ﷺ فسلموا عليه ، فرد سلامهم ، ثم سألهم وسألوه فلم تزل بهم وبه المسألة، وقالوا لرسول الله ﷺ : كنا مسلمين قبلكم ، فقال النبي ﷺ : «يمنعكم من الإسلام ثلاث: عبادتكم الصليب ، وأكلكم الخنزير ، وزعمكم أن لله ولداً».
وكثر الجدال والحجاج بينه وبينهم ، والنبي ﷺ يتلو عليهم القرآن ويقرع باطلهم بالحجة ، وكان مما قالوه لرسول الله ﷺ : ما لك تشتم صاحبنا وتقول: إنه عبد الله ، فقال: «أجل ! إنه عبدالله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول» ، فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنساناً قط من غير أب ، فإن كنت صادقاً فأرِ مثله؟ فأنزل الله في الرد عليهم قوله سبحانه: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ [آل عمران: 59 - 60].
فكانت حجة دامغة شبَّه فيها الغريب بما هو أغرب منه، فلما لم تُجدِ معهم المجادلةَ بالحكمة والموعظة الحسنة ، دعاهم إلى المباهلة، امتثالاً لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾ [آل عمران: 61]. وخرج النبي ﷺ ومعه علي والحسن والحسين وفاطمة وقال: «وإذا أنا دعوت فأمِّنوا» ، فائتمروا فيما بينهم ، فخافوا الهلاك لعلمهم أنه نبي حقاً ، وأنه ما باهل قوم نبياً إلا هلكوا ، فأبوا أن يلاعنوه وقالوا: احكم علينا بما أحببت ، فصالحهم على ألفي حلة ، ألف في رجب ، وألف في صفر.
يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf