بعض مواقف أمير المؤمنين علي وغزواته
الحلقة الثانية عشر
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1441 ه/ يناير 2020 م
علي رضي الله عنه في غزوة أحد:
في غزوة أحد بدأ القتال بمبارزة بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وطلحة بن عثمان ، وكان بيده لواء المشركين ، وطلب المبارزة مراراً ، فخرج إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقال له علي: والذي نفسي بيده لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة ، فضربه علي ، فقطع رجله فوقع على الأرض فانكشفت عورته، فقال: يا بن عمي أنشدك الله والرحم ، فرجع عنه ولم يجهز عليه ، فكبر رسول الله ﷺ ، وقال لعلي بعض أصحابه: أفلا أجهزت عليه؟ قال: إن ابن عمي ناشدني الرحم حين انكشفت عورته فاستحييت منه.
وكان رضي الله عنه بعد الالتحام في ميمنة الجيش ، وأخذ الراية بعد مقتل مصعب بن عمير رضي الله عنه ، وفي هذه المعركة قتل من المشركين خلقاً كثيراً ، رغم ما أصاب المسلمين من الشدة في هذه الغزوة ، إضافة إلى بلائه في الدفاع عن رسول الله ﷺ ، وكان علي رضي الله عنه هو الذي أخذ بيد رسول الله ﷺ حينما وقع في الحفرة يوم أحد، لقد استشهد في تلك الغزوة عدد كبير من خيرة المهاجرين والأنصار ، وتركت حزناً عميقاً في نفس الرسول ﷺ ، كما أصاب العدو من الرسول الكريم ، فأدموا وجهه الشريف ، فقامت ابنته فاطمة وزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنهما بمداواة جراحه ، وإيقاف الدم الذي كان ينزف على وجهه ولحيته عليه الصلاة والسلام.
وظهرت شجاعة علي رضي الله عنه في تلك المعركة ، فعندما أشيع أن الرسول ﷺ قتل ، وافتقده علي ، رأى أن الحياة لا خير فيها بعده ، فكسر جفن سيفه ، وحمل على القوم حتى أفرجوا له ، فإذا برسول الله ﷺ ، فثبت معه ودافع عنه دفاع الأبطال ، وقد أصابته ستة عشر ضربة في ذلك اليوم.
وبعد انسحاب جيش المشركين من أرض المعركة أرسل رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد الغزوة مباشرة ، وذلك لمعرفة اتجاه العدو ، فقال له: «اخرج في آثار القوم وانظر ماذا يصنعون وما يريدون ، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة ، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة ، والذي نفسي بيده إن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم» ، قال علي: فخرجت في أثرهم ماذا يصنعون ، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة، فخرج علي رضي الله عنه ، وأخبر رسول الله ﷺ بخبر القوم.
وفي هذا الخبر عدة دروس وعبر منها:
1- شجاعة النبي ﷺ ، حيث كان داخل صفوف المشركين ولم يصل إليه سيدنا علي إلا بعد جهد جهيد ، فوجد رسول الله ﷺ في قلب العدو يقاتلهم حتى أصيب بعدة جروح.
2- يقظة الرسول ﷺ ، ومراقبته الدقيقة لتحركات العدو ، وقدرته ﷺ على تقدير الأمور. وتحليل تصرفات الخصم وفهم ما يترتب عليها من قرارات.
3- ظهور قوته المعنوية العالية ، ويظهر ذلك في استعداده لمقاتلة المشركين لو أرادوا المدينة.
4- وفيه ثقة النبي ﷺ بعلي رضي الله عنه ومعرفته بمعادن الرجال.
5- المروءة ومكارم الأخلاق عند علي عندما رجع عن خصمه بعدما انكشفت عورته ، وإقرار رسول الله ﷺ له ، وهذا العمل يعلمنا قيمة التعامل؛ كيف تكون الأخلاق حتى مع الخصم وحتى في ساحة المعركة.
6- وجوب التضحية في سبيل الله وأنه بهذه الروح ينتصر الإسلام في الحياة وينال الشهيد الجنة ، وهذا ما أثبته لنا بعض المهاجرين والأنصار في هذه المعركة وغيرها.
7- وجوب الأخذ بسنة الأسباب؛ وظهر هذا عندما وضع رسول الله ﷺ بعض الصحابة على جبل أحد ، فعصوه ونزلوا وكان هذا من أسباب الهزيمة.
8- وفيه شجاعة علي رضي الله عنه ، لأن هذا الجيش لو أبصره ما تورَّع في محاولة قتله.
تاسعاً: علي رضي الله عنه في غزوة بني النضير:
يرى المحقِّقون من المؤرخين: أن غزوة بني النضير كانت بعد أحد في ربيع الأول من السنة الرابعة من الهجرة ، وقد رد ابن القيم على من زعم أن غزوة بني النضير بعد بدر بستة أشهر بقوله: وزعم محمد بن شهاب الزهري: أن غزوة بني النضير كانت بعد بدر بستة أشهر ، وهذا وهم منه أو غلط عليه ، بل الذي لا شك فيه أنها بعد أحد ، والذي كانت بعد بدر بستة أشهر هي غزوة بني قينقاع ، وقريظة بعد الخندق ، وخيبر بعد الحديبية.
وقال ابن العربي: والصحيح أنها بعد أحد، وإلى هذا الرأي ذهب ابن كثير.
ففي هذه الغزوة فقد الصحابة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ذات ليلة ، فقال النبي ﷺ : «إنه في بعض شأنكم» ، فعن قليل جاء برأس عَزْوَكَ ، وقد كمن له حتى خرج في نفر من اليهود يطلب غرة من المسلمين ، وكان شجاعاً رامياً، فشد عليه علي رضي الله عنه فقتله ، وفرّ اليهود.
عاشراً: علي رضي الله في غزوة حمراء الأسد:
تعتبر هذه الغزوة مكملة لغزوة أحد ، فقد عاد المسلمون من أحد مساء السبت الخامس عشر من شوال من السنة الثالثة للهجرة ، وما إن أصبح الصباح وخرج الناس من صلاة الفجر إلا وأذَّن مؤذن رسول الله ﷺ بالتهيؤ على جناح السرعة لمطاردة العدو ، وألا يخرج مع الناس إلا من شهد أُحُد ، فاستجاب الناس لنداء رسول الله ﷺ مع ما بهم من جراحات وتعب ، وكان في مقدمتهم رسول الله ﷺ ، ولم يسمح لعبد الله بن أبي بالخروج معه ، ولا لأحد لم يشهد أحداً إلا جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الذي استشهد أبوه في أُحد ، وكان قد منعه من الاشتراك في بدر وأحد ليبقى عند أخواته البنات.
وخرج الجيش وفي مقدمتهم رسول الله ﷺ ، ويحمل اللواء لواء أحد نفسه علي بن أبي طالب ، ووصل المسلمون بقيادة رسولهم الكريم ﷺ إلى حمراء الأسد التي تبعد عن المدينة ثلاثة عشر ميلاً ، حيث حطُّوا الرحال فيها ، وقد أدهشت هذه الحركة اليهود والمنافقين لما فيها من جرأة وشجاعة ، وأيقنوا أن الروح المعنوية عالية ، وأنهم لو هزموا لما عملوا على مطاردة قريش.
كما أن في خروج النبي ﷺ إلى حمراء الأسد إشارة نبوية إلى أهمية استعمال الحرب النفسية للتأثير على معنويات الخصوم ، خرج ﷺ بجنوده إلى حمراء الأسد ، ومكث فيها ثلاثة أيام ، وأمر بإيقاد النيران ، فكانت تشاهد من مكان بعيد وملأت الأرجاء بأنوارها حتى خيل لقريش أن جيش المسلمين ذو عدد كبير لا طاقة لهم به ، فانصرفوا وقد ملأ الرعب أفئدتهم.
قال ابن سعد: ومضى رسول الله ﷺ بأصحابه حتى عسكروا بحمراء الأسد ، وكان المسلمون يوقدون تلك الليالي خمسمئة نار حتى ترى من المكان البعيد ، وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم في كل وجه ، فكبت الله تعالى بذلك عدوهم، وقد أشار القران الكريم إلى هذه الحرب الباردة ، وسجلها المولى عز وجل في كتابه في معرض الثناء على الصحابة: ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 172 - 175].
الحادي عشر: علي رضي الله عنه وموقفه من حادثة الإفك:
ورد في حديث الإفك الذي اتهم فيه المنافقون عائشة رضي الله عنها به ، أن رسول الله ﷺ استدعى علياً وأسامة واستشارهما في فراق أهله ، لما كثر القول وأقلق النبي ﷺ ، واستلبث الوحي ، فأما أسامة ، فأشار عليه بالذي يعلم من براءتها ، فقال: يا رسول الله أهلك ، ولا نعلم إلا خيراً. وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله ، لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير ، وإن تسأل الجارية تصدقك، قالت: فدعا رسول الله ﷺ بريرة فقال: «أي بَرِيرة هل رأيت من شيء يَريبك؟» قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق؛ إن رأيت عليها أمراً أغمصُه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها ، فتأتي الداجن، فتأكله ، فقام رسول الله ﷺ ، فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبي ابن سلول. قالت: فقال رسول الله ﷺ وهو على المنبر: «يا معشر المسلمين ، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؛ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً ، ولقد ذكروا رجلاً، ما علمت عليه إلا خيراً وما كان يدخل على أهلي إلا معي». إن الكلام الذي قاله علي إنما حمله عليه ترجيح جانب النبي ﷺ ، لما رأى عنده من القلق والغم بسبب القول الذي قيل.
وكان شديد الغيرة ، فرأى علي رضي الله عنه في بادئ الأمر أنه إذا فارقها سكن ما عنده من القلق بسببها إلى أن يتحقق براءتها ، فيمكن رجعتها ، ويستفاد منه ارتكاب أخف الضررين لذهاب أشدهما.
وقال النووي: رأى علي أن ذلك هو المصلحة في حق النبي ﷺ ، واعتقد ذلك لما رأى من انزعاجه ، فبذل جهده في النصيحة ، لإرادة راحة خاطره ﷺ ، كما أن علياً رضي الله عنه لم ينل عائشة رضي الله عنها بأدنى كلمة يفهم منها أنه عرَّض بأخلاقها ، أو تناولها بسوء، بل كان رأيه خيراً لها ، فهو يقول: إن أردت أن ترتاح من المشكلة فإن غيرها كثير، وإن أردت الوصول للحقيقة ، فاسأل الجارية توصلك إليها عن براءة عائشة ، ثم بعد ذلك خطب رسول الله ﷺ الناس وبين براءة عائشة ، وخطورة من يخوض في عرضه ظلماً وزوراً. وقد بدأت نصيحة علي وأسامة بن زيد معاً إيجابيتان ، وفي صالحِ عائشة رضي الله عنها ، فقد ازداد النبي ﷺ قناعة بما علم من خير في أهله.
وعلى القارئ الكريم أن يحذر من الروايات الباطلة ساقطة الاعتبار التي تزعم بإساءة علي إلى عائشة في أمر الإفك ، والتي بنى عليها بعض الباحثين بأن ذلك جعل عائشة تغضب من عليّ رضي الله عنه وتحقد عليه وتتهمه زوراً بقتل عثمان، وتخرج عليه مؤلبة عليه الأعداد الهائلة من المسلمين، ومن أمثال هؤلاء الباحثين ، علي إبراهيم حسن في التاريخ الإسلامي العام ، وطه حسين في كتابه: علي وبنوه وغيرهم ، وسوف نتحدث عن العلاقة المتينة بين أم المؤمنين عائشة وعلي بإذن الله عند حديثنا عن موقعة الجمل ، لقد كانت قصة الإفك حلقة من سلسلة فنون الإيذاء والمحن التي لقيها رسول الله ﷺ من أعداء الدين ، وكان من لطف الله تعالى بنبيه وبالمؤمنين أن كشف الله زيفها وبطلانها ، وسجل التاريخ بروايات صحيحة مواقف المؤمنين من هذه الفرية ، وهي مواقف يتأسى بها المؤمنون عندما تعرض لهم في حياتهم مثل هذه الفرية ، فقد انقطع الوحي ، وبقيت الدروس لتكون عبرة وعظة للأجيال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد تحدثت في كتابي (السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث) عن الدروس والعبر والأدب والأحكام التي تؤخذ من حادثة الإفك.
يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf