الخميس

1446-07-09

|

2025-1-9

أهم أعمال علي بن أبي طالب رضي الله عنه
ما بين الهجرة والأحزاب

الحلقة التاسعة

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الأولى 1441 ه/ يناير 2020م

شرع رسول الله ﷺ بعد استقراره بالمدينة في تثبيت دعائم الدولة الإسلامية؛ فآخى بين المهاجرين والأنصار ، ثم أقام المسجد ، وأبرم المعاهدة مع اليهود ، وبدأت حركة السرايا ، واهتمَّ بالبناء الاقتصادي والتعليمي والتربوي في المجتمع الجديد، وكان علي رضي الله عنه ملازماً له في كل أحواله ، منفذاً لأوامره ، متتلمذاً على هديه.
أولاً: المؤاخاة في المدينة:
آخى رسول الله ﷺ بين علي بن أبي طالب وسهل بن حنيف ، وقد تحدّث بعض العلماء عن وجود مؤاخاة كانت في مكة بين المهاجرين ، فقد أشار البلاذُرِيُّ إلى أن النبي ﷺ آخى بين المسلمين في مكة ـ قبل الهجرة ـ على الحق والمواساة ، فآخى بين حمزة وزيد بن حارثة ، وبين أبي بكر وعمر ، وبين عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف ، وبين الزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود ، وبين عبيدة بن الحارث وبلال الحبشي ، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص ، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة ، وبين سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وطلحة بن عُبيد الله ، وبينه وبين علي بن أبي طالب.
ويعتبر البلاذري (ت 276 هـ) أقدم من أشار إلى المؤاخاة المكية ، وقد تابعه في ذلك ابن عبد البر (ت 463 هـ) دون أن يصرح بالنقل عنه ، كما تابعهما ابن سيد الناس دون التصريح بالنقل عن أحدهما.
وقد أنكر ابن تيمية المؤاخاة بين المهاجرين بعضهم مع بعض ، وكذب الأحاديث التي وردت في ذلك ، ومنها حديث المؤاخاة بين النبي ﷺ وعلي.
وذهب ابن القيم إلى عدم وقوع المؤاخاة بمكة ، فقال: وقد قيل: إنه ـ أي: النبي ﷺ ـ آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض ، مؤاخاة ثانية ، واتخذ فيها علياً أخاً لنفسه ، والثبت الأول، والمهاجرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام وأخوة الدار وقرابة النسب عن عقد مؤاخاة ، بخلاف المهاجرين مع الأنصار، ولم تشر كتب السيرة الأولى المختصة إلى وقوع المؤاخاة بمكة ، والبلاذري ساق الخبر ، بلفظ (قالوا) دون إسناد ، مما يضعف الرواية ، كما أن البلاذري نفسه ضعفه النقاد، وعلى فرض صحة هذه المؤاخاة بمكة؛ فإنها تقتصر على المؤازرة والنصيحة بين المتآخين دون أن تترتب عليها حقوق التوارث، الذي نسخ بقول الله تعالى: ﴿ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 75] ، فهذه الآية نسخت التوارث بموجب نظام المؤاخاة، وبقيت النصرة والرفادة والنصيحة بين المتآخين.
وقد ذكر ابن كثير أن بعض العلماء ينكر مؤاخاة النبي ﷺ لعلي ، ويمنع صحته ، وأن مستنده في ذلك أن هذه المؤاخاة إنما شرعت لأجل ارتفاق بعضهم من بعض ، وليتألف قلوب بعضهم على بعض ، فلا معنى لمؤاخاة النبي ﷺ لأحد منهم، ولا مهاجري لمهاجري آخر ، ولكنه أشار إلى أنه قد يكون النبي ﷺ أراد أن لا يجعل مصلحة علي إلى غيره ، وبخاصة أنه كان ينفق عليه من صغره في حياة أبيه.
ولكنه عاد في موضع اخر فأشار إلى معظم الأحاديث التي تحدثت عن مؤاخاة النبي ﷺ لعلي رضي الله عنه بأن أسانيدها كلها ضعيفة لا تقوم بها حجة، وهناك مصادر ذكرت المؤاخاة بين النبي ﷺ وعلي بدون إسناد؛ منها: محمد بن حبيب، وابن الجوزي، وابن الأثير.
إن التآخي الذي تم بين المهاجرين والأنصار في الفترة المدنية كان مسبوقاً بعقيدة تم اللقاء عليها ، والإيمان بها ، وكانت هي العمود الفقري للمؤاخاة التي حدثت، لأن تلك العقيدة تضع الناس كلهم في مصافِّ العبودية الخالصة لله ، دون الاعتبار لأي فارق إلا فارق التقوى والعمل الصالح ، إذ ليس من المتوقع أن يسود الإخاء والتعاون والإيثار بين أناس فرقتهم العقائد والأفكار المختلفة ، فأصبح كل منهم ملكاً لأنانيته وأثرته وأهوائه.
وتعتبر سياسة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ، نوع من السبق السياسي الذي اتبعه الرسول ﷺ في تأهيل المودة ، وتمكينها في مشاعر المهاجرين والأنصار الذين سهروا جميعاً على رعاية هذه المودة ، وذلك الإخاء ، بل كانوا يتسابقون في تنفيذ بنوده، ولا سيما الأنصار الذين لا يجد الكتّاب والباحثون مهما تساموا إلى ذروة البيان خيراً من حديث الله عنهم؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].
ثانياً: حركة السرايا:
بمجرد الاستقرار الذي حصل للمسلمين بقيادة الرسول ﷺ في المدينة بدأت حركة السرايا التي استهدفت بسط هيبة الدولة في الداخل والخارج ، وكسب بعض القبائل ، وتحجيم دور الأعراب ، وتربية الصحابة على الإعداد القتالي للغزوات الكبرى ، وحركة الفتوحات ، وميداناً لصناعة القادة عملياً ، وقد شارك في هذه السرايا أمير المؤمنين علي رضي الله عنه؛ في التي حدثت قبل بدر وما بعدها.

وأما التي شارك فيها قبل غزوة بدر الكبرى؛ فمنها:
1- غزوة العشيرة:
وفيها غزا ﷺ قريشاً ، واستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد ، وسميت هذه الغزوة بغزوة العشيرة ، فأقام بها جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة، وادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة ، ثم رجع إلى المدينة ، ولم يلق كيداً، وذلك أن العير التي خرج لها قد مضت قبل ذلك بأيام ذاهبة إلى الشام، فساحلت على البحر ، وبلغ قريشاً خبرها فخرجوا يمنعونها ، فلقوا رسول الله ﷺ ووقعت غزوة بدر الكبرى.
وقد حدثنا عمار بن ياسر عن مشاركته وعلي رضي الله عنهما في تلك الغزوة، فعن عمار بن ياسر قال: كنت أنا وعلي رفيقين في غزوة العشيرة، فلما نزلها رسول الله ﷺ وأقام بها؛ رأينا ناساً من بني مدلج يعملون في عين لهم في نخل، فقال لي علي: يا أبا اليقظان ! هل لك أن تأتي هؤلاء فتنظر كيف يعملون؟ فجئناهم ، فنظرنا إلى عملهم ساعة ، ثم غشينا النوم، فانطلقت أنا وعلي ، فاضطجعنا في صور من النخل، في دقعاء من التراب ، فنمنا فوالله ، ما أهبّنا إلا رسول الله ﷺ يحركنا برجله ، وقد تَتَرَّبنا من تلك الدقعاء ، فيومئذ قال رسول الله ﷺ لعلي: «يا أبا تراب» لما رأى عليه من التراب ، قال: «ألا أحدثكما بأشقى الناس رجلين؟» فقلنا: بلى يا رسول الله، قال: «أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذه ـ يعني: قرنه ـ حتى تُبَلّ منه هذه ـ يعني: لحيته ـ» ، وقد تكرر نداء رسول الله ﷺ لعلي بأبي تراب ، وسيأتي الحديث عنه.
2- غزوة بدر الأولى:
سببها: أن كرز بن جابر الفهري ، قد أغار على سَرْح المدينة ، ونهب بعض الإبل والمواشي ، فخرج رسول الله ﷺ في طلبه ، حتى بلغ وادياً يقال له: (سفوان) من ناحية بدر ، وفاته كرز بن جابر ، فلم يدركه ، فرجع رسول الله ﷺ إلى المدينة، وقد أعطى الحبيب المصطفى أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لواءه الأبيض.
وتعتبر حركة السرايا بداية الجهاد القتالي ضد أعداء الدعوة ، ومع حركة السرايا والبعوث والغزوات التي خاضها رسول الله ﷺ ضد المشركين ظهرت جلياً سنة التدافع التي تعامل معها النبي ﷺ وأصحابه؛ ومن بينهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وهذه السنة متعلقة تعلقاً وطيداً بالتمكين لهذا الدين ، وقد أشار الله تعالى إليها في كتابه العزيز ، وجاء التنصيص عليها في قوله تعالى: ﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 251] ، وفي قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40].

ثالثاً: غزوة بدر:
1- قال النووي - رحمه الله -: وأجمع أهل التواريخ على شهوده بدراً ، وسائر المشاهد غير تبوك ، قالوا: وأعطاه النبي ﷺ اللواء في مواطن كثيرة.
كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه أحد المجاهدين الذين شاركوا في غزوة بدر ، ولنتركه يقصُّ علينا خبر هذه الغزوة، فعن حارثة بن مضرب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: وكان النبي ﷺ يتخبَّر عن بدر ، فلما بلغنا أن المشركين قد أقبلوا ، سار رسول الله ﷺ إلى بدر ، وبدر بئر ، فسبقنا المشركين إليها ، فوجدنا فيها رجلين منهم ، رجلاً من قريش ، ومولى لعقبة بن أبي معيط ، فأما القرشي فانفلت ، وأما مولى عقبة فأخذناه ، فجعلنا نقول له: كم القوم ، فيقول: هم والله كثير عددهم ، شديد بأسهم ، فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه ، حتى انتهوا به إلى النبي ﷺ ، فقال له: «كم القوم ؟» ، قال: هم والله كثير عددهم شديد بأسهم ، فجهد النبي ﷺ أن يخبره كم هم ، فأبى ، ثم إن النبي ﷺ سأله: كم ينحرون من الجزر ، فقال: عشراً كل يوم. فقال رسول الله ﷺ : القوم ألف ، كل جزور لمئة وتبعها.
ثم إنه أصابنا من الليل طش من مطر ، فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر ، وبات رسول الله ﷺ يدعو ربه عز وجل ويقول: «اللهم إنك إن تهلك هذه الفئة لا تعبد ...» قال: فلما طلع الفجر نادى: «الصلاة عباد الله»، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف ، فصلى بنا رسول الله ﷺ ، وحرض على القتال ، ثم قال: إن جمع قريش تحت هذه الصِّلع الحمراء من الجبل. فلما دنا القوم منا وصاففناهم ، إذا رجل منهم على جمل له أحمر يسير في القوم ، فقال رسول الله ﷺ : يا علي ، نادِ حمزة ، وكان أقربهم من المشركين: من صاحب الجمل الأحمر؟ وماذا يقول لهم؟ ثم قال رسول الله ﷺ : إن يكن في القوم أحد يأمر بخير ، فعسى أن يكون صاحب الجمل الأحمر ، فجاء حمزة فقال: هو عتبة بن ربيعة ، وهو ينهى عن القتال ، ويقول لهم: يا قوم ! إني أرى قوماً مُستميتين لا تصلون إليهم وفيكم خير ، يا قوم أعصبوها اليوم برأسي، وقولوا: جَبُن عُتْبة بن ربيعة ، وقد علمتم أني لست بأجبنكم. قال: فسمع ذلك أبو جهل ، فقال: أنت تقول هذا؟! والله لو غيرك يقول هذا لأعضضته ، قد ملأت رئتك وجوفك رعباً. قال عتبة: إياي تُعَيّر يا مُصَفِّرَ اسْتِهِ؟ ستعلم اليوم أينا الجبان. قال: فبرز عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد حمية ، فقالوا: من يبارز؟ فخرج فتية من الأنصار ستة ، فقال عتبة: لا نريد هؤلاء ، ولكن يبارزنا من بني عمنا ، من بني عبد المطلب. فقال رسول الله ﷺ : قم يا علي ، قم يا حمزة ، وقم يا عبيدة بن الحارث بن المطلب. فقتل الله تعالى عتبة وشيبة ابني ربيعة ، والوليد بن عتبة، وجرح عبيدة.
فقتلنا منهم سبعين ، وأسرنا سبعين ، فجاء رجل من الأنصار قصير بالعباس بن عبد المطلب أسيراً ، فقال العباس: يا رسول الله ، إن هذا والله ما أسرني ، لقد أسرني رجل أجلح ، من أحسن الناس وجهاً ، على فرس أبلق ، ما أراه في القوم. فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله. فقال: «اسكت فقد أيدك الله تعالى بملك كريم». فقال علي: فأسرنا من بني عبد المطلب: العباس ، وعقيلاً ، ونوفل بن الحارث.
ومن وصف علي رضي الله عنه لغزوة بدر نلاحظ دروساً ، وعبراً ، وفوائد كثيرة يمكن الرجوع إليها في كتابي السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث.
2- ما قيل من أشعار في بطولة علي ببدر:
كان لواء المشركين يوم بدر مع طلحة بن أبي طلحة ، فقتله علي رضي الله عنه، فقال الحجاج بن علاط السلمي في ذلك:
لله أي مذنب عن حربِهِ
أعني ابنَ فاطمةَ المعمَّ المخوِلا

جادتْ يداك لَهُ بعاجلِ طَعْنَةٍ
تَرَكَتْ طليحةَ للجبين مُجَنْدلا

وشددتَ شدةَ باسلٍ فكشفتَهُم
بالحقِّ إذ يهوون أخولَ أخولا

وعللتَ سيفَكَ بالدماء ولم تكنْ
لتردَّهُ حرَّان حتى يَنْهَلا

يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022