ملازمة أمير المؤمنين علي لرسول الله صلى الله عليه وسلم
الحلقة السابعة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1441 ه/ يناير 2020 م
كان علي رضي الله عنه واحداً من المكّيّين الذين قرؤوا وكتبوا في مجتمعهم الأمي ، وهذا دليل على حبه للعلم وشغفه به منذ صغره ، وقد وفقه الله تعالى أن يعيش منذ طفولته في بيت رسول الله ﷺ فتربى على يديه وزادت عناية رسول الله به بعد إسلامه ، فكان رسول الله ﷺ الرافد القوي الذي أثر في شخصيته، وصقل مواهبه ، وفجّر طاقته ، وهذّب نفسه ، وطهَّر قلبه ، ونوّر عقله ، وأحيى روحه. فقد لازم رسول الله ﷺ في مكة والمدينة ، فقد كان حريصاً على التتلمذ على يدي رسول الله ﷺ الذي كان يربي أصحابه على القرآن الكريم ، فقد كان هو الينبوع المتدفق الذي استمد منه علي رضي الله عنه علمه وتربيته وثقافته.
وقد كان النبي ﷺ ، تنزل عليه الآيات منجمة على حسب الوقائع والأحداث، وكان يقرؤها على أصحابه الذين وقفوا على معانيها وتعمَّقوا في فهمها ، وتأثروا بمبادئها ، وكان له عميق الأثر في نفوسهم وعقولهم وقلوبهم وأرواحهم. كما كان علي رضي الله عنه واحداً من الذين تأثروا بالتربية القرآنية على يدي رسول الله ﷺ ، وتشرّب تعاليمه وتوجيهاته النبوية.
وقد اهتم علي رضي الله عنه منذ أسلم بحفظ القرآن الكريم وفهمه وتأمله ، وظل ملازماً للرسول ﷺ يتلقى عنه ما أنزل عليه ، حتى تم له حفظ جميع آياته وسوره ، لقد حصل علي رضي الله عنه ببركة صحبته لرسول الله ﷺ وتربيته على يديه خيراً كثيراً ، وأصبح من الخلفاء الراشدين فيما بعد ، فقد حرص على التبحر في الهدي النبوي الكريم في غزواته وسلمه ، وأصبح لعلي رضي الله عنه علماً واسعاً ، ومعرفة غزيرة بالسنة النبوية المطهرة ، فقد استمد من رسول الله ﷺ علماً وتربية ومعرفة بمقاصد هذا الدين العظيم.
وقد جمع بين رسول الله ﷺ وبين علي حب شديد ، والحب عمل هام في تهيئة مناخ علمي ممتاز بين المعلم وبين تلميذه ، يأتي بخير النتائج العلمية ، والثقافية، لما له من عطاء متجدد ، وعلي رضي الله عنه قد أحب رسول الله حباً جماً ، وتعلق فؤاده به ، وقدم نفسه فداء له ، وتضحية في سبيل نشر دعوته.
أولاً: أمير المؤمنين ومقام النبوة:
أوجب الله سبحانه وتعالى على الثقلين ـ الإنس والجن ـ الذين أدركتهم رسالة النبي ﷺ ، أن يؤمنوا بالنبي ﷺ وبما جاء به ، كما شهدت بذلك نصوص الكتاب العزيز ، كما أكد الله وجوب الإيمان بنبيه بأن جعله مقترناً بالإيمان به سبحانه وتعالى في مواضع كثيرة من القرآن الكريم؛ منها:
قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 158].
وقال ﷺ : «والذي نفس محمد بيده؛ لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به ، إلا كان من أصحاب النار».
وقد أجمعت الأمة على وجوب الإيمان بالنبي ﷺ ، كما أجمعت كذلك على أن كل من قامت عليه الحجة برسالة محمد ﷺ من الإنس والجن فلم يؤمن به؛ استحق عقاب الله تعالى كما يستحقه أمثاله من الكافرين الذين بعث إليهم الرسول، وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة ، والتابعين لهم بإحسان ، وأئمة المسلمين ، وسائر طوائف المسلمين أهل السنة والجماعة وغيرهم.
وقد أعطى أمير المؤمنين علي رضي الله عنه مقام النبوة حقه ، وأوضح معالمه بأقواله وأفعاله ، وكان يحرص على تعليم الناس وحثهم على الاقتداء برسول الله في أقواله وأعماله وتقريراته ، ومن أقواله في هذا المعنى: «واقتدوا بهدي نبيكم ﷺ ، فإنه أفضل الهدي ، واستنوا بسنته ، فإنها أفضل السنن» .
1- وجوب طاعة النبي ﷺ ولزوم سنته والمحافظة عليها:
تربى أمير المؤمنين علي رضي الله عنه على وجوب طاعة رسول الله ﷺ ؛ فهو ممن قرأ وحفظ وفهم قول الله تعالى: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء: 80] ، فهذه الآية ضمن سلسلة من الآيات ربطت بين طاعة الله تبارك وتعالى وطاعة رسوله ﷺ ، فقد جعل الله طاعته وطاعة رسوله شيئاً واحداً ، وجعل الأمر بطاعة رسوله مندرجاً في الأمر بطاعته سبحانه ، وفي ذلك بيان للعباد بأن طاعته سبحانه لا تتحقق إلا بطاعة الرسول ﷺ والآيات الواردة بهذا المعنى كثيرة، وقد تربى أمير المؤمنين على يدي رسول الله ﷺ وتعلم منه وجوب طاعته ، وامتثال أمره ، واتباع ما جاء به ،
والسير على سنته ، والاقتداء به في كل ما جاء به عن ربه عز وجل ، وأحاديثه ﷺ في هذا المجال أعطت للأمة توجيهات عظيمة متى ما ساروا عليها ، وامتثلوا ما فيها ، واستناروا بها؛ فقد تحققت لهم سعادة الدارين ، وفازوا وأفلحوا بإذن الله تعالى ، وقد امتازت الأحاديث في هذا الشأن بكثرتها وتنوع عبارتها وتعدد أساليبها ، واشتمال بعضها على الأمثلة التي ضربها رسول الله ﷺ لأمته في هذا الشأن.
ومما لا شك فيه: أن هذه المميزات زادت الأمر توكيداً وتوضيحاً وبياناً ، بحيث إنها لم تدع مجالاً لمتأوِّل يؤولها ، أو محرِّف يغير معناها بهواه ورأيه الفاسد ، وهذه الأحاديث على تنوع عباراتها وتعدد أساليبها اتحدت جميعها في مضمون واحد؛ وهو التأكيد على وجوب طاعته ﷺ ، واتباع ما جاء به ، والترغيب في ذلك ، إضافة إلى التحذير من مخالفته ، وتحريم معصيته، وبيان الوعيد الشديد في ذلك.
فمن هذه الأحاديث قوله ﷺ : «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى» قالوا: يا رسول الله ! ومن يأبى؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى»، وطاعة الرسول ﷺ هي الانقياد لسنته ، مع رفض قول كل من قال شيئاً في دين الله عز وجل بخلاف سنته ، دون الاحتيال في دفع السنن بالتأويلات المضمحلة والمخترعات الداحضة.
وقد كان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه من أحرص الصحابة على طاعة رسول الله ﷺ ، فقد قال رضي الله عنه: ما كنت لأدع سنة النبي ﷺ لقول أحد، وقال أيضاً: ألا إني لست بنبي ولا يوحى إلي ، ولكني أعمل بكتاب الله وسنة محمد ﷺ ما استطعت. وهو نموذج فريد بالتمسك بالسنة والالتزام بها والدعوة لها، ومن هذا المفهوم والتصور الواضح لأهمية طاعة الرسول ﷺ واتباع سنته؛ انطلقت أفعال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، وكان رضي الله عنه يعتني بالسنة ويتحرى ويتثبت في روايتها ، وفي أخذها رضي الله عنه ، فقد قال رضي الله عنه: إذا حدثتكم عن رسول الله ، فلأن أخِرَّ من السماء أحَبُّ إليَّ من أن أكذب عليه. وقال رضي الله عنه: كنت إذا سمعت من رسول الله ﷺ حديثاً نفعني الله بما شاء منه ، وإذا حدثني عنه غيري استحلفته ، فإذا حلف لي صدقته. وكان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يحارب ما يناقض الاتباع ، فقد قال رضي الله عنه: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخفّ أولى بالمسح من أعلاه.
2- حديث أمير المؤمنين علي رضي الله عنه عن دلائل نبوة الرسول ﷺ :
بيّن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بعضاً من دلائل نبوة النبي ﷺ ؛ منها ما يلي:
(أ) بركة دعائه:
مرض علي رضي الله عنه مرة ، فأتاه النبي ﷺ وهو يقول: اللهم إن كان أجلي قد حضر فأرحني ، وإن كان متأخراً فارفعني ، وإن كان البلاء فصبرني. فقال له رسول الله ﷺ : «ما قلت؟» فأعاد عليه ، فقال رسول الله ﷺ : «اللهم اشفه، اللهم عافه» ، ثم قال: «قم». فقمت ، فما عاد لي ذلك الوجع بعده. وسيأتي الحديث بإذن الله تعالى عن دعاء رسول الله ﷺ له في خيبر.
(ب) إخباره بما فتح الله على نبيه من أمور الغيب:
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إذا حدثتكم عن رسول الله ﷺ فلأن أخِرَّ من السماء أحَبُّ إليَّ من أن أكذب عليه ، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان ، سفهاء الأحلام ، يقولون من قول خير البرية ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة». وسيأتي شرح هذا الحديث وغيره عند حديثنا عن الخوارج ، وموقف أمير المؤمنين علي منهم ، بإذن الله تعالى.
(ج) النصر بالرعب:
ومن دلائل النبوة التي حدثنا بها علي رضي الله عنه: ما رواه عن رسول الله ﷺ ، حيث قال: «أُعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء» ، فقلنا: يا رسول الله ! ما هو؟ قال: «نصرت بالرعب ، وأعطيت مفاتيح الأرض ، وسميت أحمد ، وجعل التراب لي طهوراً ، وجعلت أمتي خير الأمم».
(د) خاتم النبوة:
وضَّح علي رضي الله عنه من جملة وصفه لرسول الله ﷺ وجود دلالة من أبرز الدلائل الحسية على نبوته ﷺ ؛ حيث يقول: بين كتفيه خاتم النبوة. وهذه العلامة كان أهل الكتاب يعرفونها له ، وهي شيء بارز أحمر عند كتفه الأيسر ، قدره إذا قُلل قدر بيضة الحمامة ، وإذا كبر جمع اليد.
(هـ) سلام الجبال على النبي ﷺ :
أخبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن هذه الدلالة حيث قال: كنت مع النبي ﷺ بمكة ، فخرجنا في بعض نواحيها ، فما استقبله جبل ، ولا شجر ، إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله.
3- الترغيب في هدي النبي ﷺ :
كان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يرغِّب المسلمين في لزوم هدي النبي ﷺ ، فقد قال في خطبة له في الربذة: الزموا دينكم ، واهتدوا بهدي نبيكم ، واتبعوا سنته ، وأعرضوا عما أشكل عليكم على القرآن ، فما عرفه القرآن فالزموه ، وما أنكره فردّوه.
وبعد رجوع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه من قتال الخوارج، خطب أصحابه خطبة بليغة نافعة جامعة للخير ناهية عن الشر ، وقد ضَمَّن هذه الخطبة الأمر بالتزام هدي النبي ﷺ والترغيب فيه ، حيث يقول: واقتدوا بهدي نبيكم ﷺ ، فإنه أفضل الهدي ، واستنوا بسنته فإنها أفضل السنن.
ولم تشغل الفتن الداخلية أمير المؤمنين علي رضي الله عنه التي حصلت في عهده عن دعوة أصحابه إلى كل خير ، ونهيهم عن كل شر، وتحذيرهم من البدع؛ ومن قوله في هذا الشأن: إن عوازم الأمور أفضلها ، وإن محدثاتها شرارها ، وكل محدثة بدعة ، وكل محدث مبتدع ، ومن ابتدع فقد ضيَّع ، وما أحدث محدث بدعة إلا ترك بها سنة.
4- بيان فضله ، وبعض حقوقه على أمته ﷺ :
بيّن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في معرض حديثه للمسلمين فضائل النبي ﷺ ؛ ومما قاله في هذا المجال: فكان مما أكرم الله به عز وجل هذه الأمة ، وخصهم به من الفضيلة؛ أن بعث إليهم محمداً ﷺ ، فعلمهم الكتاب والحكمة والفرائض والسنة ، لكيما يهتدوا ، وجمعهم لكيما لا يتفرقوا، وزكاهم لكيما يتطهروا ، ورفَّههم لكيما لا يجوروا ، فلما قضى من ذلك ما عليه ، قبضه الله عز وجل صلوات الله عليه ورحمته وبركاته، وإليك بعض حقوقه ﷺ :
(أ) وجوب الصدق عنه ، والتحذير من الكذب عليه:
حذر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه من الكذب على رسول الله ﷺ ؛ فعن ربعي بن حراش ، قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: قال النبي ﷺ : «لا تكذبوا عليَّ ؛ فإنه من كذب علي فليلج النار». وحذر أمير المؤمنين علي رضي الله عنه من نقل الكذب - وهو يعلم أنه كذب - فيما يرويه عن النبي ﷺ ، قال: «من حدث عني حديثاً ، وهو يرى أنه كذب؛ فهو أحد الكاذبين».
(ب) البعد عن أسباب تكذيبه:
أرشد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه الناس إلى البعد عن الأمر الذي يكون سبباً في تكذيب رسول الله ﷺ ، كتحديث الناس بما لا تدركه عقولهم، من أقوال رسول الله ﷺ ، فقد قال: حدثوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ ، ومعنى الحديث: بما يعرفون: أي: يفهمون فيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة.
وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات ، وأبو يوسف في الغرائب ، ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين ، وأن المراد ما يقع من الفتن ونحوه عن حذيفة ، وضابط ذلك: أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة ، وظاهره في الأصل غير مراد ، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب.
(ج) إحسان الظن بحديث رسول الله ﷺ :
قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: إذا حُدِّثتم عن رسول الله ﷺ حديثاً؛ فظنوا به الذي هو أهناه وأهداه وأتقاه.
(د) الصلاة عليه:
قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب:56].
وهذا إخبار من الله سبحانه وتعالى بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى ، بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين ، وأن الملائكة تصلي عليه ، ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه ، ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعاً ، ويؤكد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه هذا الحق لرسول الله ﷺ بوَصْفِ من لم يُصلِّ على رسول الله ﷺ عند سماع ذكره بالبخل ،فيما يرويه عن رسول الله ﷺ ، حيث قال: «لبخيل الذي ذكرت عنده فلم يصلِّ عَليَّ».
(هـ) محبته لرسول الله ﷺ :
قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 24].
فالآية نصت على وجوب محبة الله ورسوله ، وأن تلك المحبة يجب أن تكون مقدمة على كل محبوب ، ولا خلاف في ذلك بين الأمة.
وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31].
ففي هذه الآية إشارة ضمنية إلى وجوب محبة النبي ﷺ ، لأن الله تبارك وتعالى قد جعل برهان محبته تعالى ودليل صدقها هو اتباع النبي ﷺ ، وهذا الاتباع لا يتحقق ولا يكون إلا بعد الإيمان بالنبي ﷺ والإيمان بـه لابـد من تحقق شروطـه التي منها محبة النبي ﷺ ؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله ﷺ قال: «فو الذي نفسي بيده ! لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده».
ومما لا ريب فيه أن حظ الصحابة من حبه ﷺ كان أتم وأوفر ، ذلك أن المحبة ثمرة المعرفة ، وهم بقدره ﷺ ومنزلته أعلم وأعرف من غيرهم ، فبالتالي كان حبهم له ﷺ أشد وأكبر ، وقد سئل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: كيف كان حبكم لرسول الله ﷺ ؟ قال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ، ومن الماء البارد على الظمأ. وهذه الخصوصية المطلقة ليست لأحد غير رسول الله ﷺ .
5- المعرفة الدقيقة الشاملة لملامح الشخصية النبوية:
لقد ساعدت الصلة الأسرية ، والمعايشة الطويلة القريبة ، والتتبع الدقيق لما خصّ الله به نبيه من نفسية نبوية ، ومكارم أخلاق ، وميول واتجاهات ، أمير المؤمنين علي رضي الله عنه على معرفته الدقيقة الشاملة للشخصية النبوية وخصائصها ، والقدرة على وصفها ، والتنويه بجوانب دقيقة في سيرته وخلقه ، يلاحظ ذلك فيما روى عنه من وصفه رسول الله ﷺ وحليته وخلقه وسلوكه.
(أ) بيان خَلْقِه:
قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: كان رسول الله ﷺ ليس بالطويل ولا بالقصير ، شثن الكفين والقدمين ، مشرب وجهه حمرة ، طويل المَسْرُبَة، ضخم الكراديس، إذا مشى تكفَّأ تكفِّياً ، كأنما ينحط من صبب، لم أر قبله ولا بعده مثله ﷺ .
وعن محمد بن علي عن أبيه قال: كان رسول الله ﷺ ضخم الرأس ، عظيم العينين، هَدِبَ الأشفار- قال حسن: الشِّفَار - ، مشرب العينين بحمرة ، كث اللحية ، أزهر اللون ، شثن الكفين والقدمين ، إذا مشى كأنما يمشي في صَعَد -قال حسن: تفكأ - ، وإذا التفت التفت جميعاً .
وعند الترمذي: عن محمد من ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان علي (رضي الله عنه) إذا وصف النبي ﷺ قال: لم يكن بالطويل الممغط، ولا بالقصير المتردد، وكان ربعة من القوم ، ولم يكن بالجعد القطط، ولا بالسَّبط، كان جعداً رجلاً، ولم يكن بالمطَهَّم ولا بالمكَلثم، وكان في الوجه تدوير ، أبيض مشرب، شثن الكفين والقدمين ، إذا مشى تقلع ، كأنما يمشي في صبب ، وإذا التفت التفت معاً.
كما أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بيَّن صفة من صفات جسد النبي ﷺ بعد موته ، أمراً لم يعرفه غيره - وربما من كان يغسله معه- من طهارة بدنه ونقائه بعد موته ، حيث يقول: غسلت رسول الله ﷺ ، فجعلت أنظر ما يكون من الميت؛ فلم أر شيئاً ، وكان طيباً حياً وميتاً ﷺ .
وكان علي رضي الله عنه يقول وهو يغسله: بأبي أنت وأمي ، ما أطيبك حياً وميتاً .
(ب) بيان خُلُقِه:
تحدث أمير المؤمنين علي رضي الله عنه عن أخلاق رسول الله ﷺ ، فقال: كان أجود الناس كفاً ، وأشرحهم صدراً ، وأصدق الناس لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة ، من رآه بديهة هابه ، ومن خالطه معرفة أحبه ، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله.
وأخبرنا عن شجاعة الرسول ﷺ ، وقوة بأسه ، وأن علياً ومن كان معه مع شجاعتهم أيضاً وقوة بأسهم التي سطرتها أخبار المغازي ، كانوا إذا اشتدت الحرب يلوذون برسول الله ﷺ ، فيقـول علي رضي الله عنه: لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله ﷺ ، وهو أقربنا إلى العدو ، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً. وفي رواية أخرى: كنا إذا احمرَّ البأس ، ولقي القومُ القومَ؛ اتقينا برسول الله ﷺ ، فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه.
وبين علي رضي الله عنه من أخلاق رسول الله ﷺ من الرحمة والكرم والشجاعة ، والتواضع ، ما ورد في وصفه لرسول الله ﷺ لليهود الذين طلبوا منه ذلك؛ حيث يقول: كان أرحم الناس بالناس، لليتيم كالأب الرحيم ، وللأرملة كالكريم الكريم ، أشجع الناس ، وأبذلهم كفاً ، وأصبحهم وجهاً ، لباسه العباء ، وطعامه خبز الشعير ، وإدامه اللبن ، ووساده الأدم محشو بليف النخل ، سريره أم غيلان مرمل بالشريف، كان له عمامتان: إحداهما تدعى السحاب، والأخرى العقاب ، وكان سيفه ذا الفقار، ورايته الغراء ، وناقته العضباء، وبغلته دلدل، وحماره يعفور ، وفرسه مرتجز، وشاته بركة ، وقضيبه الممشوق، ولواؤه الحمد ، وكان يعقل البعير ، ويعلف الناضح، ويرقع الثوب ، ويخصف النعل.
يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf