الإثنين

1446-06-22

|

2024-12-23

في بيت عائشة رضي الله عنها (2)

الحلقة التاسعة والأربعون من كتاب

مع المصطفى صلى الله عليه وسلم

بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)

جمادى الأول 1443 هــ / ديسمبر 2021

- بيوتات النبوة:

جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليلة إلى بيت عائشة، ولم يكن بيتها قصرًا فارهًا ضخمًا ولا بنيانًا هائلًا، كلا، إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن في مجموعة من الحجرات صغيرة جدًّا، ربما إذا قام الإنسان وصل رأسه إلى السقف، وإذا نام ربما تكاد تصل رجله إلى أقصى الجدار، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى من الليل وعائشة نائمة أمامه، وأراد السجود، غمزها في رجلها فترفع رجليها حتى يسجد صلى الله عليه وسلم، ثم إذا قام بسطت رجليها لتواصل نومها رضي الله عنها.

لقد كانت بيوت نساء النبي صلى الله عليه وسلم بيوتًا بسيطة المبنى والأثاث، لكنها عظيمة المجد والعلم والحضارة، وفيها قمة الرَّوْح والسعادة، فمتى يعي الناس ويدركون أن السعادة ليست في الجواهر والملابس، ولا السيارات الفارهة، والقصور الفخمة، والممتلكات والأرصدة، وإذا كانت هذه الأشياء من الحلال فهي من المباح، ولا حرج فيها، ولكن لنعلم جميعًا أن السعادة تنبع من داخل القلب العامر بذكر الله تعالى وطاعته.

أتى النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت عائشة رضي الله عنها في ليلتها ونام معها، حتى إذا رأى أنها قد نامت قام صلى الله عليه وسلم بهدوء ولبس ثوبه ونعليه، ثم خرج قليلًا قليلًا وأغلق الباب برفق، فاستيقظت عائشة رضي الله عنها؛ لأنها لم تكن قد استغرقت في النوم، وهنا ثارت ثائرتها رضي الله عنها، وقد ظنت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بعض أزواجه في ليلتها، فلبست ثيابها وخرجت في الليل البهيم تتتبع خطواته صلى الله عليه وسلم، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة وراءه ترقبه من بعيد، وتتتبع خطواته، حتى وصل صلى الله عليه وسلم إلى قبور البَقِيع، وسلَّم على أصحابه رضي الله عنهم الذين قضوا وأفضوا إلى الدار الآخرة، فسلَّم عليهم، ودعا لهم واستغفر.

ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم وخلع ثوبه ونعليه، ثم جلس في الفراش والتفت إلى عائشة فرآها نائمة قد أغمضت عينيها، كما لو كانت نائمة فعلًا، ولكن حركة صدرها والنفس الثائر يدل على أنها لم تكن نائمة، فالتفت إليها المعلم الزوج صلى الله عليه وسلم وقال لها: «يَا عَائِشَةُ، مَا الخَبَرُ؟». ففتحت عينيها كأنها تستيقظ لتوها، وقالت: لا شيء يا رسول الله. فقال: «لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الخَبِيرُ». فقالت: والله يا رسول الله رأيتك خرجت فخرجت وراءك، وخشيت أن تذهب إلى بعض نسائك، فقال لها: «أَظننت أنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْكِ ورَسُولُه؟ أنتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُ أمَامِي؟». قالت: نعم يا رسول الله. فضربها في صدرها بيده، ولكنها ليست ضربة عنف وقسوة كما يفعل بعض الناس، وإنما ضربها ضربة مؤانسة ومداعبة، وليقول لها: إن هذا الفعل الذي فعلتيه كان خطأ، ولم يكن لك أن تظني هذا الظن، ولا أن تفعلي هذا الفعل.

ثم إذا به صلى الله عليه وسلم يوضح لها فيقول لها: «إنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فقالَ لِي: إنَّ اللهَ تَعَالَى يَأْمُرُكَ أنْ تَذْهَبَ وأنْ تَسْتَغْفِرَ لأهلِ الْبَقِيعِ. فَذَهَبْتُ واسْتَغْفَرْتُ لَهُم».

- دروس في التصحيح:

إن هذه القصة فيها عجب ومشهد من مشاهد بيت النبوة:

إن عائشة رضي الله عنها الصدِّيقة المعلمة الفقيهة العالمة وقع منها مثل هذا الشعور في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم باحت به، بل وتتتبع خطواته صلى الله عليه وسلم، وينتهي الموقف عندما لكزها صلى الله عليه وسلم لكزة تأديبية خفيفة، وأخبرها بأن جبريل أتاه وأمره أن يستغفر لأهل البقيع.

تأمل كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم في مقامه الرفيع العالي قدر عائشة رضي الله عنها في مثل هذا الموقف ووضَّح لها الخبر بشكل متكامل.

إن الاختلافات التي تقع بين الأزواج تكاد تطيح بالحياة الزوجية؛ بل هي أكثر ما يدمر الحياة الزوجية، ويفضي إلى الانفصال، سواء كان انفصالًا عاطفيًّا أو انفصالًا يفضي إلى الطلاق، وتدمير البيت الذي أسس على الإيمان والتقوى، وعلى عقد شرعي مقدس، وإن هذه الاختلافات ليست بسبب مشكلات كبيرة وضخمة ومعقدة، بل ربما تكون بسبب مشكلات صغيرة تراكمت ولم تحل بشكل جيد.

إذًا، نحن بحاجة إلى أن نتعلم كيف نتكيف مع الآخرين، وكيف نكون منصفين.

ينبغي على الزوج عند حدوث مثل هذه المشكلات أن يضع نفسه في مقام زوجته، فالمرأة حبيسة أربعة جدران، تعاني من المشكلات والأطفال والطبخ وغيبة الزوج وبعده، فلا تستغرب أن تعتب عليك إذا تأخرت في المجيء، وربما كنت مع أحد أصدقائك، فلا تستغرب إذا وجدت منها نوعًا من الغضب لمعاناتها مع أطفالها، فلو فرض أنك ستتولى أمر المطبخ يومًا من الأيام، فهل تطيق ذلك، أو تتحمله؟ ولو كُتب عليك أن تعتني بأمر الأطفال، وتقوم بتلبيسهم وتنظيفهم، وتغذيتهم، وتتحمل صراخهم وانفعالاتهم وخصامهم فيما بينهم، فهل كنت ستتحمل أو تستطيع ذلك؟! لكن الله تعالى أعطى المرأة قدرة على التحمل لا يطيقها الرجل، فالمرأة في حمل الطفل ثم ولادته تتحمل أمرًا لا يستطيعه أشداء الرجال الذين يواجهون المعارك والحروب، ثم كذلك رعاية الزوج، فهي سيدة على مملكة كبيرة جدًّا تستحق التوقير والإجلال والإكرام والاحترام، والشفافية والمصارحة والوضوح، والصبر على ما يحصل منها.

وبالمقابل، فالزوجة عليها أن تدرك حق الزوج ومكانته، وأن تعلم أنه في النهاية هو السيد، كما قال ربنا سبحانه وتعالى:﴿وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ﴾ [يوسف: 25]. أي: زوجها، وهو صاحب القرار الأخير، فإذا عرف كلا الزوجين قدر الآخر، فإننا نستطيع أن نضمن بيوتًا سعيدة آمنة مطمئنة، يظللها الإيمان والبر والتقوى.

إن هذه البيوت الآمنة هي من أعظم الضمانات للحفاظ على المجتمع المسلم والأمة المسلمة، ومقاومة عوامل التدمير والهدم في المجتمع الإسلامي.

وأمر آخر أن على الإنسان أن يكون عنده من الإيمان بالدار الآخرة، والاستعداد لها، بقراءة القرآن، وزيارة القبور، وتذكر هذه الأمور ما يحفظ له إيمانه ويقينه.

أَتَيْتُ الْقُبورَ فَنَادَيْـتُـها *** أَيْـنَ المُعَـظَّـمُ وَالمُحْتَـقَـرْ

وَأَيْـنَ المُـدِلُّ بسُلْطَانِه *** وَأَيْـنَ القَـوِيُّ علَى ما قَـدَرْ

تَفَانَوْا جميعا فَلا مُخْبِرٌ *** وَمَاتُوا جميعًا وأَضْحَوْا عِبرْ.

رابط تحميل كتاب مع المصطفى صلى الله عليه وسلم

http://alsallabi.com/books/view/506

كما ويمكنكم تحميل جميع مؤلفات فضيلة الدكتور سلمان العودة من موقع الدكتور علي الصَّلابي الرسمي

http://alsallabi.com/books/7


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022