كان خلقَه القرآن (3)
الحلقة الثانية والخمسون من كتاب
مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
ربيع الآخر 1443 هــ / ديسمبر 2021
هموم الناس:
لقد كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم كلها مع الناس، إلا ما قل، فهو مع الناس في المسجد، ومع الناس في البيت، ومع الناس في السفر؛ حتى إن الذي يقرأ سيرته يتعجب من بركة وقته صلى الله عليه وسلم؛ كم عدد أسفاره صلى الله عليه وسلم ! جلوسه في المسجد أحيانًا كان يستغرق أيامًا، كما جاء في اعتكافه في شهر رمضان، وأنه اعتكف العشر الأول، ثم العشر الأواسط، ثم العشر الأخيرة.
وهكذا تجد النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس في متقلبه، وذهابه وإيابه، وسفره وإقامته، ويدخلون عليه بيته ويستأذنونه في كل الأحوال، ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم محافظًا على رباطة جأشه، وعلى حلمه وصبره، فلا يقع منه مع أحد غضب ولا انفعال، مع كثرة ما يقع من الناس.
فمثلًا: يأتي أعرابي بخشونة وغلظة البادية فيجبذه بردائه من ورائه، فحمَّر رقبته، ويقول: احمل لي على بعيري هذين، فإنك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك. فيسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم ثم يأمر له بعطاء.
وآخر له دَين على النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتي ويقول: إنكم يا بني عبد المطلب أصحاب مطل. أي: أنتم أهل مماطلة وتتأخرون في سداد الديون، فيضحك النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر بأن يُسدَّد له حقه ويوفَّى دينه.
وجاء آخر إلى النبي صلى الله عليه وسلم- وهو من البادية أيضًا- والصحابة مجتمعون، فقال: أيكم محمد؟ هكذا بغير مقدمات، فأشار الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن عبد المطلب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «قَدْ أَجَبْتُكَ». فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد عليَّ في نفسك. فقال: «سَلْ عَمَّا بَدا لَكَ». فقال: أسألك بربك ورب من قبلك، آللَّه أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: «اللَّهُمَّ نَعَمْ». قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصلِّي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: «اللَّهُمَّ نَعَمْ». قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: «اللَّهُمَّ نَعَمْ». قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ نَعَمْ». فقال الرجل: آمنت بما جئتَ به، وأنا رسول مَن ورائي مِن قومي.
إن تعامله صلى الله عليه وسلم مع الناس على كثرة ما يقع منهم من سوء الخلق، مثل عدم وجود نوع من التهذيب والأدب والأسلوب مع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال له ربه جل وتعالى:﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [الحجرات: 4].
وهم قوم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصرخوا في البيت: يا محمد، اخرج إلينا. وهذا الأسلوب من التعامل والنداء أمر غريب على آحاد الناس، فكيف إذا كان مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ربَّى أصحابه على طريقة الاستئذان والنداء، حتى قال الله عز وجل: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ [النور: 63]. فمَن أراد أن يدعو أو ينادي الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يناديه باسمه المجرد: يا محمد. وإنما يقول: يا رسول الله، يا نبي الله. أو ما أشبه ذلك من العبارات التي فيها اعتدال وأدب.
حتى مع الخصوم:
كذلك تعامله صلى الله عليه وسلم مع أعدائه وخصومه، فهذا رجل حمل سيفًا على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: مَن يمنعك مني؟ قال: «اللهُ». فسقط السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: «مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟». قال: كن كخير آخذ. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أَتَشْهَدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وَأنِّي رسُولُ اللهِ؟». قال: لا، ولكن أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، ثم خلَّى سبيله صلى الله عليه وسلم، ولم يتعرض له بشيء.
فتأملوا هذا الأسلوب في التعامل منه صلى الله عليه وسلم مع الأعداء والخصوم والمحاربين، ومع من هموا بقتله صلى الله عليه وسلم أو اغتياله.
إن هذا اللون من الخلق العظيم يؤكد ويزكي أن قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمََ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ» أو: «صَالِحَ الأَخْلاقِ». لم يكن مجرد شعار يرفع، وإنما كان أنموذجًا عمليًّا يفعله النبي صلى الله عليه وسلم بهديه وسيرته ونفسه، ويربِّي عليه أصحابه لينقلوه إلى مَن بعدهم، ولهذا كان الإسلام في تاريخه وحركته ودعوته رحمة للبشرية كلها، كما يشهد بذلك المنصفون من الشرق والغرب.
نبيَّ الْهُدَى قَدْ جَفَوْنَا الْكَرَى * وَعِفْنَا الشَّهِيَّ مِـنَ الْمَطْعَمِ
نَهَضْنَا إلَى اللهِ نَجْلُو السُّـرَى * بِرَوْعَــةِ قُرْآنِـهِ الْـمُحْكَـمِ
ونُشْهِدُ مَنْ دَبّ فَـوْقَ الثَّـرَى * وَتَحْتَ السَّما عِزّةَ المُسْلِمِ
رابط تحميل كتاب مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
http://alsallabi.com/books/view/506
كما ويمكنكم تحميل جميع مؤلفات فضيلة الدكتور سلمان العودة من موقع الدكتور علي الصَّلابي الرسمي
http://alsallabi.com/books/7