الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

لا تغضب (3)

الحلقة الخامسة والستون من كتاب

مع المصطفى صلى الله عليه وسلم

بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)

جمادى الآخرة 1443 هــ / يناير 2022م

رابعًا: مراعاة الداعية لأحوال المدعوين:

في هذا الهدي النبوي تجد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذهب إلى الرجل ليقول له: يا فلان، اتق الله ولا تغضب، وقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وإنما خاطب أصحابه الذين من حوله والرجل لا يسمعه فقال: «إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ». فذهب أحد الصحابة وهمس في أذن الرجل، وقال له: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فانفعل الرجل وزاد غضبه وقال: أتراني مجنونًا؟! اذهب عني.

إذًا: الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخاطب الرجل مباشرة، وإنما خاطب أصحابه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن هذا الرجل في حالة غضب، وأنه لو خاطبه لقال له قولًا شديدًا ولم يستجب، ومثل هذا قد يفقده دينه، وقد يقول له مثل ما قال للصحابي: أتراني مجنونًا؟! اذهب عني. وكونه يقول هذا لصحابي أهون بكثير من أن يقوله لسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم.

إذًا: نلاحظ هنا رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته، وأسلوبه غير المباشر في التعليم.

ونستفيد من هذه الحادثة أن على الداعية أن يراعي ظروف المدعوين والمخاطبين، وليعلم أن الإنسان الذي أمامه ليس مجرد عظام ولحم ودم، بل هو كتل من المشاعر والأذواق، والارتباطات والمعاني، والتجارب والأخطاء التي ربما تلقاها في الطفولة ولا سبيل له إلى التخلص منها بسهولة، فالداعية حينما يتناول أحدًا من الناس لا يحكم عليه بفعل مجرد، أو خطأ، أو موقف عابر، أو كلمة عابرة، ومن ثَمَّ يعتبر هذا الموقف هو خلاصة هذا الإنسان! أو يحتقره في معصية ما ويعتقد أنه من أهل النار! فهذا الإنسان قد يكون فيه خير، وعنده إيمان، وقلبه قد يشتعل ندمًا على ما يقع منه، ولكنه ابتلي بمثل هذه الأشياء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْـرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ». ويقول: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ؛ فَيَغْفِرُ لَهُمْ»، وفي حديث آخر: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَلَهُ ذَنْبٌ يَعْتَادُهُ الفَيْنَةَ بَعْدَ الفَيْنَةِ، أَوْ ذَنْبٌ هُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ لَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يُفَارِقَ، إِنَّ المُؤْمِنَ خُلِقَ مُفَتَّنًا توَّابًا نَسِيًّا، إِذَا ذُكِّرَ ذَكَرَ».

فيجب علينا ألا نحكم على الناس بموقف محدد، أو خطأ أو ذنب؛ بل يجب أن ندرك أن هؤلاء الناس قد يعانون من ظروف نفسية، وأن الإنسان قد يتكلم في حالة الغضب أو الرضا، وقد يتكلم وهو مذهول أو محزون أو غير ذلك، فنحتاج إلى التلطف معهم في إيصال هذه الرسالة والدعوة.

وينبغي ألا ننقلهم من الوضع الذي هم فيه إلى ما هو شر منه من خلال الأسلوب الذي قد يكون فيه تجاهل لظروفهم وأوضاعهم، وليكن همنا وواجبنا ومهمتنا وكل حرصنا أن ننقلهم من الوضع الذي هم فيه إلى وضع أفضل وأحسن، وهذا يتطلب قدرًا كبيرًا من الرحمة والرفق واللين، والصبر والدعوة غير المباشرة.

فلا تخاطبه في وجهه، ولا تجابهه بالكلام، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في المناسبات والأحداث كثيرًا ما يقف على المنبر ويقول: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَيَفْعَلُونَ كَذَا؟». ثم يبين هذا الأمر والحدث.

 الدعوة والتشهير:

فليس من الضروري أن تتحول الدعوة إلى نوع من الفضيحة والتشهير بفلان أو علان، وليس من الضروري أيضًا أن تتحول الدعوة إلى مواجهة وقسوة، مع تجاهل للظروف والأحوال والبيئة والمناخ الذي تربى فيه المدعو، وبهذا نستطيع أن نكسب الكثير وأن نتألف كثيرًا من الناس، وإذا وجدنا أن إنسانًا لا يتقبل، أو على حالة لا يستطيع معها أن يقبل شيئًا، فنعطيه الفرصة وبعض الوقت، ونستخدم معه أسلوب الدعوة غير المباشرة، كأن تأمر غيره وأنت تقصده، كما في المثل: (إياك أعني واسمعي يا جارة). فيمكنك أن تثني وتمدح جوانب وتقصد أن ينتبه لها، أو تذم جوانب أخرى وتقصد أن يحذر منها، أو تذكر قصة، أو تستخدم أسلوبًا من الأساليب التي فيها تربية وتعليم، دون تجاهل لوضعه وظروفه الاجتماعية والنفسية والعقلية.

إذًا: لقد بُعث النبي صلى الله عليه وسلم رحمة، وعلى أتباعه أن يكونوا رحمةً كذلك، وذلك من خلال تقدير ظروف الناس وأحوالهم، ودعوتهم إلى الله سبحانه وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة.

وكما ورد عن بعض الشعراء أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله صلى الله عليه وسلم عن بعض الشعر، فقال: يا رسولَ الله، من أجمل ما قلت:

وحَيِّ ذَوِي الأضْغَانِ تَسْبِ قُلُوبَهُمْ *** تَحِيَّتَكَ الْحُسْنَى فَقَـدْ يَـرْفَعُ النَّـغَلْ

فإنْ أَظْـهـرُوا خيـرًا فَـجــازِ بِمِثْلِهِ *** وَإنْ خَنَسُوا عَنْكَ الْحَدِيثَ فَلا تَسَلْ

فإنَّ الذِي يُــؤْذِيـكَ مِنْه سَمـاعُــهُ *** وَإنَّ الـذِي قَــالوا وَرَاءَكَ لَمْ يُقَلْ

رابط تحميل كتاب مع المصطفى صلى الله عليه وسلم

http://alsallabi.com/books/view/506

كما ويمكنكم تحميل جميع مؤلفات فضيلة الدكتور سلمان العودة من موقع الدكتور علي الصَّلابي الرسمي

http://alsallabi.com/books/7


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022