الخميس

1446-10-26

|

2025-4-24

(تشريع الزكاة في الإسلام)

من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:

الحلقة: الخامسة و العشرون

بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي

صفر 1443 ه/ سبتمبر 2021

في السنة الثانية للهجرة شرَّع الله الزكاة؛ التي هي ركن من أركان الإسلام وكان ذلك بعد شهر رمضان؛ لأن تشريع الزكاة العامة كان بعد زكاة الفطر، وزكاة الفطر كانت بعد فرض صيام رمضان قطعاً، يدلُّ على هذا ما رواه الأئمة: أحمد، وابن خزيمة، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم من حديث قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، ثم نزلت الزكاة، فلم يأمرنا، ولم ينهنا ونحن فعله(1).

قال الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح(2)، وجمهور العلماء سلفاً وخلفاً على أن مشروعية الزكاة إنما كانت بالمدينة في السنة الثانية.

فالزكاة في العهد المكي كانت مطلقة من القيود والحدود وكانت موكولة إلى إيمان الأفراد، وأريحيتهم وشعورهم بواجب الأخوة نحو إخوانهم من المؤمنين، فقد يكفي في ذلك القليل من المال، وقد تقتضي الحاجة بذل الكثير، أو الأكثر(3).

فكانت الآيات المكيَّة تهتمُّ بجانب التربية، والتوجيه، وتحث على رعاية الفقراء والمساكين، بأساليب متنوعة، منها: أن طعام المساكين من لوازم الإيمان، ففي سورة المدثر ـ وهي من أوائل ما نزل من القرآن ـ يعرض القرآن الكريم مشهداً من مشاهد الآخرة، مشهد أصحاب اليمين من المؤمنين، في جناتهم يتساءلون عن المجرمين من الكفرة، وقد أطبقت عليهم النيران، فيسألونها عمّا أحلَّ بهم هذا العذاب، فكان من أسبابه وموجباته: إهمال حق المسكين، وتركه لأنياب الجوع والعُري تنهشه، وهم عنه معرضون(4).

ــ قال تعالى:﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ (المدثر، آية: 38 ـ 46)

ولم تقف عناية القرآن المكي عند الدعوة إلى الرحمة بالمسكين والترغيب في إطعامه، ورعايته، والترهيب من إهماله، والقسوة عليه، بل تجاوز ذلك، فجعل في عنق كل مؤمن حقًّا للمساكين، أن يحضَّ غيره على إطعامه، ورعايته، وجعل ترك هذا الحضِّ قرين الكفر بالله العظيم، وموجباً لسُخطه ـ سبحانه ـ وعذابه في الآخرة.

ــ قال تعالى في شأن أصحاب "الشمال": ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ﴾ (الحاقة، آية: 30 ـ 32).

وهذه الآيات المزلزلة للقلوب، المنذرة بالعذاب، هي التي جعلت مثل أبي الدرداء رضي الله عنه يقول لامرأته: يا أمَّ الدرداء، إن لله سلسلة ولم تزل تغلى بها مراجل النار منذ خلق الله جهنم إلى يوم تُلقى في أعناق الناس، وقد نجّانا الله من نصفها بإيماننا بالله العظيم، فحُضِّي على طعام المسكين يا أمَّ الدَّرداء(5).

أما القرآن المدني، فقد نزل بعد أن أصبح للمسلمين جماعة لها أرض، وكيان وسلطان، فلهذا اتخذت التكاليف الإسلامية صورة جديدة ملائمة لهذا الطور: صورة التجديد والتخصيص، بعد الإطلاق والتعميم، صورة قوانين إلزامية، بعد أن كانت وصايا توجيهية فحسب، وأصبحت تعتمد في تنفيذها على القوة والسُّلطان، مع اعتمادها على الضمير والإيمان، وظهر هذا الاتجاه المدني في الزكاة فحدَّد الشارع الأموال التي تجب فيها وشروط وجوبها، والمقادير الواجبة، والجهات التي تُصرف لها، وفيها، والجهاز الذي يقوم على تنظيمها وإدارتها(6)، وأكَّد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، فريضة الزكاة، وبيَّن مكانتها في دين الله وأنها أحد الأركان الأساسية لهذا الدِّين، ورغب في أدائها، ورهَّب من منعها بأحاديث شتّى وأساليب متنوعة.

وأعلن الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديثه: أن أركان الإسلام خمسة، بدأها بالشهادتين، وثنَّاها بالصلاة، وثلثها بالزكاة، فالزكاة في السُّنة ـ كما في القرآن ـ ثالثة دعائم الإسلام: التي لا يقوم بناؤه إلا بها، ولا يرتكز إلا عليها(7)، وعندما طبَّق المسلمون هذا الرُّكن كما أمر الله تعالى، وكما شرع رسوله صلى الله عليه وسلم، تحققت أهداف عظيمة في المجتمع، وبرزت آثارها في حياة الفرد، والمجتمع(?.

• ـ فمن آثار الزكاة على الفرد:

ــ الوقاية من الشُحِّ:

قال تعالى:﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر، آية: 9).

ــ تنمية المال وزيادته:

قال تعالى:﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ (سبأ، آية: 39).

وقال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ (إبراهيم، آية: 7).

وقال تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ (البقرة، آية: 276).

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم يصبح فيه العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر: اللهم أعط مُمسكاً تلفاً»(9)، وهكذا يتم تطهير نفس المسلم آفة الشح، والبخل، ويسارع إلى الإنفاق، موقناً بفضل الله ووعده الذي لا يتخلف بالرِّزق الواسع(10).

ــ حصول الأمن في الدُّنيا والآخرة:

قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة، آية: 274).

فهم في أمن وسعادة، وراحة البال، لأنهم أدّوا ما أمرهم الله تعالى به، وانتهوا عمّا نهاهم الله عنه.

• ـ ومن آثار الزكاة على المجتمع:

حصول المحبة بين الأغنياء والفقراء، وشيوع الأمن والطمأنينة في أوسطه، وشعور الأفراد فيما بينهم: أنهم كالجسد الواحد قال صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمَّى(11).

ومن الآثار أيضاً حفظ التوازن الاجتماعي(12).

عندما كانت الزكاة تجمع من كل من تجب عليه، وتُنفق في سبلها المشروعة في صدر الإسلام، كان المجتمع الإسلامي يعيش في رخاء ورغد، وتمتع بالطيبات، وتآلف، وتآخٍ، وتحابب، فقد روى الرُّواة: أنه في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أخصب الناس، واغتنوا، حتى إنهم بحثوا عن مستحق للصَّدقة، فلم يجدوا، فما كان منهم إلا أن اشتروا بها عبيداً، وأعتقوهم لوجه الله، وهكذا بلغ الإسلام في عصوره الأولى، بمستوى حياة المسلمين ومعيشتهم حدّاً لم تبلغه إلا أمم قليلة اليوم، وذلك بفضل تشريع الزكاة(13).

مراجع الحلقة الخامسة والعشرون

( ) صحيح سنن النسائي للألباني، رقم: 2506.

(2) فتح الباري (3/ 207).

(3) فقه الزكاة، د. يوسف القرضاوي (1/ 77).

(4) المصدر نفسه (1/ 70).

(5) فقه الزكاة (1/ 70).

(6)المصدر نفسه (1/ 78).

(7) المصدر نفسه (1/ 89).

(? السيرة النبوية للصَّلاَّبي (1/ 541).

(9) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 1442.

(0 ) منهج الإسلام في تزكية النفس (1/ 249).

(1 )أخرجه مسلم، الحديث رقم: 2586.

(2 ) المال في القرآن الكريم لسليمان الحصين ص: 240.

(3 ) السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 115).

يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها

من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:

http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf

كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:

http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022