(طبيعة العلاقات الخارجية خلال العهد النبوي)
من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:
الحلقة: الرابعة والأربعون
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي
صفر 1443 ه/ أكتوبر 2021
منذ أن عقد الرّسول صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية مع قريش، وما تلا ذلك من إخضاع يهود شمال الحجاز في خيبر، ووادي القرى، وتيماء وفدك، إلى سيادة الإسلام؛ لم يألُ الرسول صلى الله عليه وسلم جهداً لنشر الإسلام خارج حدود الحجاز، وكذلك خارج حدود الجزيرة العربيَّة، وقد عبَّر صلى الله عليه وسلم عن هذا المنهج قولاً وعملاً من خلال إرساله عدداً من الرسل والمبعوثين إلى أمراء أطراف الجزيرة العربية، وإلى ملوك العالم المعاصر خارج الجزيرة العربية ويشير المنهج النبوي في دعوة الزعماء والملوك إلى ما يجُب أن تكون عليه وسائل الدّعوة، فإلى جانب دعوة الأمراء، والشعوب اختار الرّسول صلى الله عليه وسلم أسلوباً جديداً من أساليب الدّعوة وهو مراسلة الملوك ورؤساء القبائل، وكان لأسلوب إرسال الرّسائل إلى الملوك والأمراء أثر بارز في دخول بعضهم الإسلام، وإظهار الودّ من البعض الآخر، كما كشفت هذه الرسائل مواقف بعض الملوك والأمراء من الدّعوة الإسلامية، ودولتها في المدينة، وبذلك حققت هذه الرّسائل نتائج كثيرة، واستطاعت الدولة الإسلامّية من خلال ردود الفعل المختلفة تجاه الرّسائل أن تنتهج نهجاً سياسياً، وعسكرياً واضحاً ومتميزاً وإليك أهم هذه الرسائل:
أ ـ فقد وردت رواية صحيحة، تضمنت نص كتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي بعثه مع دحية الكلبي إلى هرقل عظيم الروم(1)، وذلك في مدة هدنة الحديبية وهو كما يلي: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الرّوم، سلام على من اتبع الهدى: أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم الأريِّسَّيين ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران، آية: 64)(2).
ولقد تسلَّم هرقل رسالة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ودقَّق في الأمر كما في الحديث الطويل المشهور بين أبي سفيان وهرقل المروي في الصَّحيحين حين سأله عن أحوال النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقال بعد ذلك لأبي سفيان: إن كان ما تقول حقاً، فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم: أنه خارج ولم أكن أظنُّه منكم، فلو أنِّي أعلم أنِّي أخلص إليه؛ لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه(3).
ب ـ أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب إلى كسرى ملك الإمبراطورية الفارسية، مع عبد الله بن حذافة السهميِّ، "أمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين(4)، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلمَّا قرأه مزَّقه، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُمزَّقوا كل ممزَّق(5).
ونصُّ الرسالة كما أوردها الطبريُّ كالتالي: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهُدى وآمن بالله، ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حيًّا أسلم تسلم، فإن أبيت، فعليك إثمُ المجوس(6).
ج ـ أمّا كتاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم غلى النجاشي ملك الحبشة فقد أرسله مع عمرو بن أمية الضمريِّ وقد جاء في الكتاب: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى النجاشي ملك الحبشة، أسلم أنت، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت به، فخلقه من روحه، ونفخه كما خلق آدم بيده، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة في طاعته، وأن تتبعني، وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول الله، وإني أدعوك، وجنودك إلى الله ـ عز وجلَّ ـ وقد بلغت، ونصحت، فاقبلوا نصيحتي والسلام على من اتبع الهدى»(7).
د ـ أما كتاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس حاكم مصر(8)، وكذلك ردُّ المقوقس إليه(9)، فلم يثبت من طرق صحيحة ولا يعني ذلك نفي إرسال الكتاب إليه، كما أن ذلك لا يعني الطعن بصحة النصوص من الناحية التاريخية، فربما تكون صحيحة من حيث الشكل والمضمون، غير أنها لا يمكن أن يحتج بها في السياسة الشرعية(10)، فلقد أورد محمد بن سعد في طبقاته(11): أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى المقوقس، جُريج بن مينا ملك الإسكندرية وعظيم القبط، كتاباً مع حاطب بن أبي بلتعة اللخميِّ، وأنه قال خيراً، وقارب الأمر، غير أنه لم يسلم، وأهدى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم عدّة هدايا كان بينها مارية القبطيّة وأنه لما ورد جواب المقوقس إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «ضنَّ الخبيث بمُلكه، ولابقاء لملكه»(12).
هـ ـ وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب، أخا بني أسد بن خزيمة برسالة إلى المنذر بن الحارث بن أبي شمر الغسَّاني صاحب دمشق(13)، حين عودته والمسلمين من الحديبية، وقد تضمَّن الرسالة قوله: «سلام على من اتَّبع الهدى، وآمن به، إنَّي أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يُبقي لك ملكك»(14).
و ـ وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سُلَيطَ بن عمرو العامريَّ بكتاب إلى هوذة بن عليِّ الحنفي(15)، عند مقدمه من الحديبية وقد اشترط هوذة الحنفي على الرسول صلى الله عليه وسلم بعد قراءته رسالته إليه أن يجعل له بعض الأمر معه، فرفض النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يقبل ذلك(16).
ز ـ وأرسل صلى الله عليه وسلم أبا العلاء الحضرمي(17)، بكتابه إلى المنذر بن ساوى العبديِّ، أمير البحرين بعد انصرافه من الحديبية، ونقلت المصادر التاريخية: أن المنذر قد استجاب لكتاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلم، وأسلم معه جميع العرب بالبحرين، فأما أهل البلاد من اليهود والمجوس فإنَّهم صالحوا العلاء والمنذر على الجزية من كل حالم(18) دينار: أي: على كل بالغ دينار ونقل أبو عبيدة القاسم بن سلام نص كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى برواية عروة بن الزبير، وجاء فيه:
«سلام أنت، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أمَّا بعد فإن من صلَّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمَّة الله، وذمَّة الرّسول، فمن أحبَّ ذلك من المجوس، فإنه آمن، ومن أبى، فإن الجزية عليه»(19).
وفي ذي القعدة سنة (8 هـ) بعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص بكتابه إلى جيفر وعدد ابني الجُلُندي الأزديَّين بعمان(20).
وقد جاء فيه: «من محمد النبي رسول الله لعباد الله الأزديَّين ملوك عمان، وأسد عمان، ومن كان منهم بالبحرين، إنهم إن آمنوا، وأقاموا الصَّلاة، وآتوا الزكاة، وأطاعوا الله ورسوله، وأعطوا حق النّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ونسكوا نسك المؤمنين، فإنهم آمنون وأن لهم ما أسلموا عليه، غير أنَّ بيت النار ثنيا لله ورسوله وأن عشور التمر صدقة، ونصف عشور الحبِّ وأن للمسلمين نصرهم، ونصحهم، وأن لهم على المسلمين مثل ذلك وأن لهم أرجاءهم يطحنون بها ما شاؤوا»(21).
وأوردت المصادر بعد ذلك عدداً كبيراً من المرويات عن رسائل أخرى لم تثبت من الناحية الحديثية(22).
مراجع الحلقة الثالثة والأربعون:
([1]) نضرة النعيم (1/ 344).
(2) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 4553.
(3) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 4553.
(4) شرح المواهب اللدنية (3/ 341).
(5) دلائل النبوة البيهقي (4/ 387).
(6) تاريخ الطبري (2/ 654 ـ 655).
(7) نصب الراية للزيلعي (4/ 421).
( نضرة النعيم (1/ 346).
(9) السيرة النبوية (2/ 350) للصَّلاَّبي.
(0[1]) السيرة النبوية الصحيحة (2/ 459).
(1[1]) الطبقات الكبرى (1/ 260 ـ 261).
(2[1]) الطبقات الكبرى لابن سعد، حديث رقم: 614.
(3[1]) تاريخ الطبري (2/ 652).
(4[1]) نصب الراية للزيلعي (4/ 424).
(5[1]) كان صاحب اليمامة، ومات بعد فتح مكة بقليل.
(6[1]) نصب الراية للزيلعي (4/ 425).
(7[1]) صبح الأعشى للقلقشندي (6/ 368).
(8[1])نصب الراية (4/ 420).
(9[1]) الأموال لأبي عبيد، ص: 30، رقم: 50.
(20) صبح الأعشى (6/ 376).
(21) أبو عبيد في كتاب الأموال، ص: 30، 31، رقم: 52.
(22) نضرة النعيم (1/ 348).
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com