السلطة التشريعية في عصر النبوة والخلفاء الراشدين
من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:
الحلقة: السابعة والثلاثون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
19 صفر 1443 ه/ 26 سبتمبر 2021م
كانت السلطة التشريعية في عصر النبوة محصورة في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده لا يشاركه فيها أحد من الأمة، ما دام الأمر متعلقاً بالتشريع والأحكام ومسائل الحلال والحرام؛ لأنه كان يتلقى الوحي من الله تبارك وتعالى ويقوم بتبليغه والإعلام به وتطبيق أحكامه، ومع كون السلطة التشريعية، في عهده صلى الله عليه وسلم متمركزة من الناحيتين العضوية والموضوعية في يده وحده إلا أنه فيما لا يتصل بالتشريع وبالحل والحرمة كان يستشير فيه طوائف من أصحابه من ذوي الرأي(1).
أ ـ وعندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم: انتقلت السلطة التشريعية بعد وفاته إلى المجتهدين من الصحابة، وسلطانهم في التشريع مرتبط بأمرين، الأول: فهم النص وبيان الحكم الذي يدل عليه، والثاني: قياس ما لا نص فيه على ما فيه نص بواسطة الاجتهاد وتخريج العلة وبذلك تخالف السلطة التشريعية في عهد الصحابة السلطة التشريعية التي تضع القوانين في الأمم الأخرى؛ إذ الثانية في منتهى الحرية في وضع القوانين أو تفسيرها أو إلغائها أو تعديلها(2).
أما الأولى فهي مقيدة بالنصوص الشرعية وبالقواعد والمقاصد الشرعية، ودائرة في عملها تحت سيادة الشرع(3)، ومع اختصاصهم بالتشريع كانوا يشيرون على الخليفة مثلما يشير عليه سائر الكبار من أهل الحل والعقد، وذلك فيما لا يدخل في الحل والحرمة من أمور الرأي والحرب والمكيدة والمسائل المتعلقة بتدبير الشأن العام.
وقد كان الخليفة يشارك السلطة التشريعية في استخلاص الأحكام، لأنه كان من جملة المجتهدين، وكان أحياناً يعمل بما أداه إليه اجتهاده ما لم يحل بينه وبين العمل به ظهور رأي جماعة المجتهدين عليه، وإذا كان من حق الخليفة أن يجتهد برأيه فيما يعرض من مسائل، فإنه يجتهد بوصفه من المجتهدين لا بوصفه رئيساً للسلطة التنفيذية، كذلك القاضي الذي تتوفر فيه صفات الاجتهاد فهو إن حكم برأيه فإنما يجتهد بوصفه من المجتهدين لا بوصفه من أعضاء السلطة القضائية(4).
روى أبو عبيدة في كتاب القضاء عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى، فإن وجد فيه ما يقضى به قضى به وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن وجد فيها ما يقضى به قضى به فإن أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بقضاء؟، فربما قام إليه القوم فيقولون قضى فيه بكذا أو بكذا فإن لم يجد سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم جمع رؤساء الناس فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيه على شيء قضى به وكان عمر يفعل ذلك.
فرجع الخليفة إلى المجتهدين لسؤالهم عن علم علموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسألة المعروضة ثم لاستشارتهم فيما لم يرد فيه نص يعتبر رداً على السلطة المختصة، أما اجتهاده وقضاؤه بما ظهر من كتاب الله فلا يعد تجاوزاً للسلطة التشريعية ولا تعديًّا عليها؛ لأنه من المجتهدين، ولأن الحكم الشرعي إذا ظهر في الكتاب أو السنة فالسلطان له، وعلى الجميع ـ سواء السلطة التشريعية أو التنفيذية ـ أن يخضعوا لسلطاته، ولأن رجال السلطة التشريعية لن يسكتوا إذا خالف الخليفة ـ من وجهة نظرهم ـ دستور الأمة "الكتاب والسنة" ولذلك عندما رأى عمر رأيه في سواد العراق وأراد ألا يقسم الأرض المغنومة على المقاتلين، وأن يتركها فيئاً للمسلمين وقف الصحابة واعترضوا، وناقشه المجتهدون من الأمة، وراجعوه وراجعهم، وجادلوه وجادلهم حتى اقتنع سوادهم الأكبر برأيه فمضى فيه(5).
وقد كان من استشارة الخلفاء وأهل الفتيا بعضهم بعضاً ما يجعل من جماعتهم المحدودة شبه مجلس نيابي صغير ينقصه النظام، ولكن يعوضهم عنه ما كان منهم من تقليب المسائل على وجوههاً وبحثها من جميع نواحيها(6).
مراجع المقال:
(1) الأحكام الشرعية للنوازل السياسة، ص: 130.
(2) السياسة الدستورية للدولة، إبراهيم النجار، ص: 428.
(3) الأحكام الشرعية للنوازل السياسية، ص: 130.
(4) سنن الدارمي، الحديث رقم: 161.
(5) تاريخ التشريع الإسلامي، مناع القطان، ص: 140.
(6) السياسية الدستورية للدولة الإسلامية، ص: 430.
ويمكنكم تحميل كتاب "الدولة الحديثة المسلمة"
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصلابي عبر الرابط: