الخميس

1446-10-26

|

2025-4-24

السلطة القضائية في الإسلام

من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:

الحلقة: الخامسة والثلاثون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

صفر 1443 ه/ سبتمبر 2021م

يراد بالسلطة القضائية في الإسلام: الجهة التي تملك إصدار الأحكام الشرعية وتبث في القضايا المتنازع فيها على ضوء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع علماء المسلمين والقياس الصحيح( ).

ولقد وجدت السلطة القضائية في الدولة الإسلامية في جميع عصورها ففي عصر النبوة كانت في يد النبي صلى الله عليه وسلم: وكان النبي صلى الله عليه وسلم أول قاضٍ في الإسلام وكان قضاؤه ملزماً، فهو إذا قضى في حادثة كانت له صفتان: صفة المشرع .. فبيَّن القاعدة القانونية الواجب تطبيقها في الحادثة، ثم له أيضاً صفة القاضي التي يقضي بها في المنازعات ويقضي بها الخصومات(1).

ومن أمثلة قضاء رسول الله ما يلي:

عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما أنهما قالا: إن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الخصم الآخر، وهو أفقه منه: نعم، فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل»، قال: إن إبني كان عسيفاً(2) على هذا فزنى بامرأته وإني أخبرت أنَّ على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أنَّما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لأَقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم ردُّ وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها»، فقال: فغدا عليها فاعترفت فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجمت(3).

وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضايا عديدة متعلقة بالنفوس والأعراض والأموال والعقول ووفق القوانين الربانية، وبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس بأنه يقضي بين الناس على حسب اجتهاده وما يظهر له بالحق، قال صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض؛ فأقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار»(4). ويستفاد من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقضي بالاجتهاد فيما لم ينزل عليه فيه شيء(5)، وذلك بوصفه قاضياً يدل على هذا أنه ذكر ذلك في مقام إدلاء الخصوم بالحجج وقوله: «تختصمون، فأقضي»(6).

ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟»، قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: «فإن لم يكن في كتاب الله؟»، قال: فبِسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله؟»، قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: «الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم»(7).

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اخطأ فله أجر»(8)، والحديث صريح في دعوة الحاكم إلى الاجتهاد وأن له أجراً حتى ولو أخطأ(9)، وليس معنى الخطأ هنا أنه أخطأ ما كلف ولكن أنه أخطأ النص فلم يصيبه بعدما بذل كبير مجهوده والاجتهاد لا يكون إلا من العالم أهل الاجتهاد(10).

ومن تأمل القضايا التي حكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين له أنها كانت تسير على أسس ونظم قضائية غاية في العدالة والرشد والرقي منها:

ــ أن القضاء يكون بكتاب الله وبشريعة الله، وما وقع مخالفاً للشرع يرد.

ــ أن البينة على المدعي واليمين على المدعي عليه.

ــ أن المدعي إذا لم يكن معه بينة ليس له على المدعي عليه إلا اليمين، أيًّا كانت أخلاق المدعي عليه.

ــ أن القاضي يحكم بما توافر لديه من أدلة مادية حتى ولو خالفت ما في ظنه أو علمه الخاص.

ــ أن القاضي لا يحكم إلا بعد استيفاء السماع من الخصمين.

ــ الحد إذا لم يبلغ القاضي أو الإمام جاز التعافي فيه وإسقاطه، أما إذا بلغ القاضي أوالإمام لم يجز إسقاطه ولا الشفاعة فيه.

وقد كان القضاء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يمضي على أسس دستورية ونظم شرعية، جعلته أصلح قضاء عرفته البشرية(11).

وعن عائشة رضي الله عنها: أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ومن يجترىء عليه إلا أسامة بن زيد حِبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتشفع في حد من حدود الله»، ثم قام فاختطب ثم قال: «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيمُ الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»(12).

كان نظام القضاء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واضحاً وافياً بالغرض، محققاً لحاجات الناس، صالحاً لأن يكون أساساً لنظام قضائي من الطراز الأول لأدق الأنظمة وأرقها(13).

ولما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم انتقلت مسؤولية القضاء بعده إلى الخلفاء والصحابة رضوان الله عليهم، ولقد كانت السلطة القضائية والسلطة التنفيذية متحدتان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يباشر السلطتين، وكذلك ولاته في الأمصار، كعلي في اليمن وعتاب في مكة وكذلك كانت في عهد أبي بكر وصدراً من خلافة عمر؛ ثم لما اتسعت المسؤوليات في عهد عمر فصل القضاء عن السلطة التنفيذية، فكان عمر يرسل إلى المصر من الأمصار اثنين أحدهما والياً والآخر قاضياً.

وأصبح في عهده مبدأ فصل القضاء عن غيره من السلطات واضحاً في حياة الناس، ولم يكن استقلال ولاية القضاء مانعاً لعمر رضي الله عنه من أن يفصل في بعض القضايا، وربما ترك بعض ولاته يمارسون القضاء مع السلطة التنفيذية ويراسلهم في الشؤون القضائية(14)، ووضع الفاروق دستوراً قويماً في نظام القضاء والتقاضي، وقد اهتم كثير من أعلام الفقه الإسلامي شرح هذا الدستور والتعليق عليه، ونجد الدستور العمري في القضاء في رسالته لأبي موسى الأشعري وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس، سلام عليك، أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لا ينفع تلكم بحق لا نفاذ له، آس بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك(15) ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً، ومن ادعى حقًّا غائباً أو بينة فاضرب له أمداً ينتهى إليه، فإن بينه أعطيته بحقه وإن أعجزه ذلك أستحللت(16) عليه القضية فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، والمسلمون عدول(17) بعضهم على بعض إلى مجرباً عليه شهادة زور أو مجلوداً في حد أو ظنيناً في ولاء أو قرابة، فإن الله تعالى تولى من العباد السرائر وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان، ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم فيها قايس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال، ثم اعمد ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق، وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر عند الخصوم فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر، ويحسن به الذكر، فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس في نفسه شانه الله، فإن الله لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصاً، فما ظنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام عيك ورحمة الله(18).

قال ابن القيم: وهذا كتاب جليل، تلقاه العلماء بالقبول وبنوا عليه أصول الحكم(19).

وقد جمعت هذه الرسالة آداب القاضي وأصول المحاكمة، وقد شغلت العلماء بشرحها والتعليق عليها هذه القرون الطويلة ولا تزال موضع دهشة وإكبار لكل من يطلع عليها، ولو لم يكن لعمر من الآثار غيرها لعُدَّ بها من كبار المفكرين والمشرعين، ولو كتبها رئيس دولة في هذه الأيام التي انتشرت فيها قوانين أصول المحاكمات، وصار البحث فيها مما هو مقرّر في المدارس لكانت كبيرة منه، فكيف وقد كتبها عمر منذ نحو أربعة عشر قرناً، ولم ينقلها من كتاب ولا استمدها من أحد، بل جاء بها من ذهنه ثمرة واحدة من آلاف الثمرات، للغرسة المباركة التي غرسها في قلبه محمد صلى الله عليه وسلم حين دخل عليه في دار الأرقم، فقال: أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله(20).

ويمكن للباحث من خلال رسائل عمر بن الخطاب رضي الله وحياته في زمن خلافته أن يستخرج ما يتعلق بالمؤسسة القضائية في الأرزاق والعزل، وأنواع القضاة وصفاتهم وما يجب عليهم ومصادر أحكامهم وخضوع الخليفة نفسه للقضاء وغير ذلك من المسائل المتعلقة بهذه المؤسسة(21).

مراجع المقال:

(1 ) السياسة الدستورية للدولة الإسلامية للنجار، ص: 441.

(2 ) عسيفاً: أجير.

(3 ) متفق عليه أخرجه البخاري، الحديث رقم: 2537.

(4 ) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 6748.

(5 ) السلطة التقديرية للقاضي، د. محمود بركات، ص: 86.

(6 ) المصدر نفسه، ص: 86.

(7 ) سنن أبي داوود، الحديث رقم: 3592.

(8 ) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 6919.

(9 ) السلطة التقديرية، ص: 88.

(10) المصدر نفسه، ص: 88.

(11) الأحكام الشرعية للنوازل السياسية، ص: 139.

(12) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 3241 متفق عليه.

(13) الأحكام الشرعية للنوازل السياسية، ص: 143.

( 14) عمر بن الخطاب للصَّلاَّبي، ص: 271.

( 15) حيفك: ظلمك.

( 16) استحللت: سأله أن يجعله له.

(17 ) عدول: جمع عدل وهو المثل والنظير.

(18 ) إعلام الموقعين لابن القيم (1/ 85).

( 19) المصدر نفسه (1/86).

(29 ) أخبار عمر، علي طنطاوي، ص: 174.

(21 ) عمر بن الخطاب للصَّلاَّبي، ص: 273.

يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها

من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:

http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book157.pdf

أو من #قناة_ثقافة_وفكر على التلغرام:

https://t.me/alsallabi/2198

#كتب_الدكتور_علي_الصلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022