الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

(في معنى حقيقة النبوّة)

من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

الحلقة: 25

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ذو القعدة 1443 ه/ يونيو 2022م

إنَّ النبوّة اتصال بين الخالق والمخلوق في تبليغ شرعه، وسفارة بين الملك المالك الواحد الأحد وعبيده، ودعوة من الرحمن الرحيم - تبارك وتعالى- لخلقه؛ ليُخرجهم من الظلمات إلى النور وينقلهم من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فهي نعمة مهداة من الله تبارك وتعالى إلى عبيده، وفضل إلهي يتفضّل به عليهم وهذا في حقّ المرسَل إليهم.

وأما في حق المرسِل نفسه فهي امتنان من الله يمنُّ بها عليه، واصطفاه من الربّ له من بين سائر الناس وهبة ربانية يختصه الله بها من بين الخلق كلهم، ولا تنال النبوة بعلم ولا رياضة ولا تدرك بكثرة طاعة أو عبادة ولا تأتي بتجويع النفس أو إظمائها كما يظن من في عقله بلادة، وإنما هي محض فضل إلهي واصطفاء ربّاني، فهو جلّ وعلا كما أخبر عن نفسه: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ]البقرة:105[.

إنَّ النبوّة لا تأتي باختيار النبيّ، ولا تُنال بطلبه ولذلك لما قال المشركون: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} ]الزخرف:31[، فأجابهم الربّ تبارك وتعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} ]الزخرف:32[، فالله تعالى هو الذي يقسم ذلك، ويتفضّل به على من يشاء من الناس، ويصطفي من يشاء من عباده، ويختار من يشاء من خلقه، ما كانت الخيرة لأحد غيره، وما كان الاجتباء لأحد سواء.(1)

وإنَّ الإيمان بالنبوّة هو الطريق المؤدي إلى معرفة الله عزَّ وجل ومحبته، والمسلك المفضي إلى رضوان الله وجنته، والسبيل المؤدّي إلى النجاة من عذاب الله، والفوز بمغفرته. (2)

يقول ابن تيمية:"والإيمان بالنبوّة أصل النجاة والسعادة، فمن لم يُحقق هذا الباب اضطرب عليه باب الهدى والضلال والإيمان والكفر، ولم يميز بين الخطأ والصواب". (3)

وإنَّ حاجة العباد إلى الإقرار بالنبوّة أشدّ من حاجتهم إلى الهواء الذي يتنسّمونه، وإلى الطعام الذي يأكلونه، وإلى الشراب الذي يشربونه، إذ من فقد أحد هؤلاء، خسر الدّنيا، أما من عُدم الإقرار بالنبوّة فخسارته أشدّ وأنكى، إذ خسر الدنيا والآخرة عياذاً بالله تعالى، ولا شكّ أنَّ معرفة رسوله وطاعته يحتاجها كل مخلوق مكلّف، ومن حكمة الله تعالى أنه كلّما كان الناس إلى معرفة شيء أحوج، فإنه جلّ وعلا يجعله سهلاً ميسراً غير ذي عوج.(4)

وإن حاجة النّاس إلى معرفة النبوّة والإقرار بالرّسول، وضّحها المولى جلّ وعلا في كتابه توضيحاً أعظم من أن يُشرح هذا المقام، إذ الشرح يطول، يقول ابن تيمية: "فتقرير النُبوَّات من القرآن الكريم أعظم من أن يُشرح في هذا المقام، إذ ذلك هو عماد الدين، وأصل الدعوة النبويّة، وينبوع كل خير، وجماع كل هدى" .(5)

وإن لابن تيمية كلام رائع نفيسٌ يُجمل فيه ما قُدّم بيانه، يقول فيه: إن الله سبحانه جعل الرُّسل وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم ما ينفعهم وما يضرّهم، وتكميل ما يُصلحهم في معاشهم ومعادهم، وبُعثوا جميعاً بالدعوة إلى الله، وتعريف الطريق الموصل إليه، وبيان حالهم بعد الوصول إليه.

- فالأصل الأول يتضمَّن إثبات الصفات والتوحيد والقدر، وذكر أيام الله في أوليائه وأعدائه، وهي القصص التي قصّها على عباده، والأمثال التي ضربها لهم.

- والأصل الثاني يتضمّن تفصيل الشرائع، والأمر والنهي والإباحة، وبيان ما يُحبه الله وما يكرهه.

- والأصل الثالث يتضمّن الإيمان باليوم الآخر، والجنة والنار والثواب والعقاب.

وعلى هذه الأصول الثلاثة مدار الخلق والأمر، والسعادة والفلاح موقوفة عليها، ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهة الرّسل، فإن العقل لا يهتدي إلى تفاصيها ومعرفة حقائقها، وإن كان يُدرك وجه الضرورة إليها، من حيث الجملة، كالمريض الذي يدرك وجه الحاجة إلى الطب ومن يداويه، ولا يهتدى إلى تفاصيل المرض ووصف الدواء له، وحاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطبّ، فإن آخر ما يقدّر بعلم الطبيب موت الأبدان، وأما إذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها مات قلبه موتاً لا تُرجى الحياة معه أبداً، أو شقى شقاوة لا سعادة معها أبداً، فلا فلاح إلا باتّباع الرسول.(6)

مراجع الحلقة الخامسة والعشرون:

(1) كتاب النبوّات، ابن تيمية، تح: عبد العزيز بن صالح الطويان، (1/20).

(2) المرجع نفسه، (1/20)

(3) نوح عليه السلام والطوفان العظيم، د. علي محمد محمد الصّلّابي، ص79.

(4) المرجع نفسه، ص79.

(5) كتاب النبوّات، ابن تيمية، مقدمة المحقق، (1/21)

(6) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (19/96-97).

يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي

http://alsallabi.com/uploads/books/16228097650.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022