خروج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى الكوفة
الحلقة الخامسة والخمسون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخر 1441 ه/ فبراير 2020 م
لم يكن الصحابة رضي الله عنهم في المدينة يؤيدون خروج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من المدينة، فقد تبيَّن ذلك حينما همّ علي بالنهوض إلى الشام، ليزور أهلها وينظر ما هو رأي معاوية وما هو صانع، فقد كان يرى أن المدينة لم تَعُدْ تمتلك المقومات التي تملكها بعض الأمصار في تلك المرحلة، فقال: إن الرجال والأموال بالعراق.
فلما علم أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه بهذا الميل قال للخليفة: يا أمير المؤمنين، لو أقمت بهذه البلاد لأنها الدرع الحصينة، ومهاجر رسول الله ﷺ، وبها قبره ومنبره ومادة الإسلام، فإن استقامت لك العرب كنت كمن كان، وإن تشعب عليك قوم رميتهم بأعدائهم، وإن ألجئت حينئذ إلى السير سرت وقد أعذرت..، فأخذ الخليفة بما أشار عليه أبو أيوب، وعزم المقامة بالمدينة، وبعث العمال على الأمصار.
ولكن حصلت كثير من المستجدات السياسية التي أرغمت الخليفة على مغادرة المدينة، وقرر الخروج للتوجه إلى الكوفة ليكون قريباً من أهل الشام، وأثناء استعداده للخروج، بلغه خروج عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة، فاستنفر أهل المدينة ودعاهم إلى نصرته، وحدث تثاقل من بعض أهل المدينة بسبب وجود الغوغاء في جيش علي، وطريقة التعامل معهم، فإن كثير من أهل المدينة يرون أن الفتنة لا زالت مستمرة، فلا بد من التروي حتى تنجلي الأمور أكثر، وهم يقولون: لا والله ما ندري كيف نصنع؟! فإن هذا الأمر لمشتبه علينا، ونحن مقيمون حتى يضيء لنا ويسفر.
وروى الطبري: أن علياً رضي الله عنه خرج في تعبئته التي كان تعبى بها إلى الشام، وخرج معه من نشط من الكوفيين والبصريين متخففين في سبعمئة رجل.
والأدلة على تثاقل كثير من أهل المدينة عن إجابة دعوة أمير المؤمنين للخروج كثيرة؛ منها: خطب الخليفة التي شكا فيها من هذا التثاقل, وظاهرة اعتزال كثير من الصحابة بعد مقتل عثمان كما اتضح ذلك، كما أن رجالاً من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد مقتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم.
وقد عبر أبو حميد الساعدي الأنصاري وهو بدري عن ألمه لمقتل الخليفة عثمان فقال: اللهم إن لك علي أن لا أضحك حتى ألقاك، فقد كانوا يعدون الخروج من المدينة في تلك المرحلة يقود إلى الانزلاق في الفتنة التي يخشون عواقبها، على سلامة ما مضى لهم من جهاد مع رسول الله ﷺ.
ومما سبق ذكره لا يعني أنه لم يشارك أحد من الصحابة في مسيرة الخليفة هذا لكنهم كانوا قليلاً. قال الشعبي: لم يشهد موقعة الجمل من أصحاب رسول الله ﷺ غير علي وعمار وطلحة والزبير، فإن جاؤوا بخامس فأنا كذاب. وفي رواية: من حدثك أنه شهد الجمل ممن شهد بدراً أكثر من أربعة نفر فكذبه؛ كان علي وعمار في ناحية، وطلحة والزبير في ناحية، وفي رواية: لم ينهض مع علي إلى البصرة غير ستة نفر من البدريين ليس لهم سابع، وبهذا يكون المقصود في الرواية السابقة من الصحابة أهل بدر، وعلى كل حال فإن من شارك في الفتنة من الأنصار قليل.
قال ابن سيرين والشعبي: وقعت الفتنة بالمدينة وأصحاب النبي ﷺ أكثر من عشرة آلاف: فما يعدون من خف فيها عشرين رجلاً، فسميا حرب علي وطلحة والزبير وصفين فتنة.
فيتضح مما سبق أن عدد الصحابة الذين خرجوا مع الخليفة علي إلى البصرة كان قليلاً، ولا يمكن الجزم بمشاركتهم في حرب الجمل، فمع شدة تلك الموقعة وكثرة أحداثها لم تذكر المصادر مشاركات الصحابة فيها أو شهداء أو جرحى. إن إحدى الروايات تقول: خرج معه من نشط من الكوفيين والبصريين متخففين في سبعمئة رجل. والذي يظهر من هذه الرواية أنها أقرب إلى واقع تلك المرحلة، وأكثر انسجاماً مع سير الأحداث، ومع موقف أهل المدينة الذي كان يتراوح بين الميل للعزلة والتثاقل عن المشاركة في الأحداث.
1 - نصيحة عبد الله بن سلام لأمير المؤمنين علي:
حاول عبد الله بن سلام صاحب رسول الله ﷺ أن يثني عزم أمير المؤمنين علي عن الخروج، فأتاه وقد استعد للمسير، وأظهر له خوفه عليه، ونهاه أن يقدم على العراق قائلاً: أخشى أن يصيبك ذباب السيف، كما أخبره بأنه لو ترك منبر رسول الله ﷺ، فلن يراه أبداً، كان علي يعلم هذه الأشياء من رسول الله ﷺ ـ فقال: وايم الله لقد أخبرني به رسول الله ﷺ، ولكن من مع علي من البصريين والكوفيين بلغت بهم الجرأة أن قالوا لعلي: دعنا فلنقتله، فقد أصبح قتـل المسلمين ممن يقف في طريقهـم، أو يحسون بخطره على حياتهم بالقول أو العمل أمراً هيناً لا يرون به بأساً، وفي قولهم، وتهجمهم هذا يدل على قلـة الورع وعدم إنزال الصحابـة الكرام منازلهم التي أمر رسول الله ﷺ الناس بعده بها، ولكن عليـاً رضي الله عنـه نهاهم قائلاً: إن عبد الله بـن سلام رجل صالح.
2 - نصيحة الحسن بن علي لوالده:
خرج أمير المؤمنين من المدينة، وعندما بلغ الربذة عسكر فيها بمن معه، ووفد عليه عدد من المسلمين بلغوا المئتين، وفي الربذة قام إليه ابنه الحسن رضي الله عنهما وهو باكٍ لا يخفي حزنه وتأثره على ما أصاب المسلمين من تفرق واختلاف، وقال الحسن لوالده: قد أمرتك فعصيتني، فتقتل غداً بمضيعة لا ناصر لك، فقال علي: إنك لا تزال تخنّ خنين الجارية، وما الذي أمرتني فعصيتك؟ قال: أمرتك يوم أحيط بعثمان رضي الله عنه أن تخرج من المدينة فيقتل ولست بها، ثم أمرتك يوم قتل ألا تبايع حتى يأتيك وفود أهل الأمصار والعرب وبيعة كل مصر، ثم أمرتك حين فعل هذان الرجلان، ما فعلا؛ أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا، فإن كان الفساد كان على يدي غيرك، فعصيتني في ذلك كله.
قال: أي بني، أما قولك: لو خرجت من المدينة حين أحيط بعثمان، فوالله لقد أحيط بنا كما أحيط به، وأما قولك: لا تبايع حتى تأتي بيعة الأمصار، فإن الأمر أمر أهل المدينة، وكرهنا أن يضيع هذا الأمر، وأما قولك: حين خرج طلحة والزبير، فإن ذلك كان وهناً على أهل الإسلام، والله ما زلت مقهوراً مذ وليت، منقوصاً لا أصل إلى شيء مما ينبغي، وأما قولك: اجلس في بيتك؛ فكيف لي بما قد لزمني، أو من تريدني؟ أتريدني أن أكون مثل الضبع التي يحاط بها، ويقال: دباب دباب، ليست هاهنا حتى يحل عرقوباها ثم نُخرجُ، وإذا لم أنظر فيما لزمني من هذا الأمر ويعنيني فمن ينظر فيه؟! فكف عنك أي بني.
كان موقف أمير المؤمنين علي حازماً في هذه المشكلة وواضحاً، ولم يستطيع أحد أن يثنيه عن عزمه. وأرسل علي رضي الله عنه من الربذة يستنفر أهل الكوفة ويدعوهم إلى نصرته، وكان الرسولان محمد بن أبي بكر الصديق، ومحمد بن جعفر؛ ولكنهما لم ينجحا في مهمتهما، إذ إن أبا موسى الأشعري والي الكوفة من قبل علي، ثبط الناس ونهاهم عن الخروج والقتال في الفتنة، وأسمعهم ما سمعه من رسول الله ﷺ من التحذير من الاشتراك في الفتنة، فأرسل علي بعد ذلك هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، ففشل في مهمته، لتأثير أبي موسى عليهم.
3 ـ استنفار أمير المؤمنين علي لأهل الكوفة من ذي قار:
تحرك علي بجيشه إلى ذي قار، فعسكر بها بعد ثمان ليالٍ من خروجه من المدينة، وهو في تسعمئة رجل تقريباً، فبعث للكوفة في هذه المرة عبد الله بن عباس، فأبطأوا عليه، فأتبعه بعمار بن ياسر والحسن بن علي، وعزل أبا موسى الأشعري، واستعمل قرظة بن كعب بدلاً منه.
وكان للقعقاع دور عظيم في إقناع أهل الكوفة، فقد قام فيهم وقال: إني لكم ناصح وعليكم شفيق، وأحب أن ترشدوا، ولأقولن لكم قولاً هو الحق،... والقول الذي هو الحق: إنه لا بد من إمارة تنظم الناس وتزع الظالم، وتعز المظلوم، وهذا علي يلي ما ولي، وقد أنصف في الدعاء، وإنما يدعو إلى الإصلاح، فانفروا وكونوا في هذا الأمر بمرأى و مسمع.
وكان للحسن بن علي أثر واضح، فقد قام خطيباً في الناس وقال: أيها الناس، أجيبوا دعوة أميركم، وسيروا إلى إخوانكم، فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه، والله لأن يليه أولو النهى أمثل في العاجلة، وخير في العاقبة، فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم.
ولبى كثير من أهل الكوفة وخرجوا مع عمار والحسن إلى علي ما بين الستة إلى سبعة آلاف رجل، ثم انضم إليهم من أهل البصرة ألفان من عبد القيس، ثم توافدت عليه القبائل إلى أن بلغ جيشه عند حدوث المعركة اثني عشر ألف رجل تقريباً.
وعندما التقى أهل الكوفة بأمير المؤمنين علي بذي قار، قال لهم: يا أهل الكوفة، أنتم وليتم شوكة العجم وملوكهم، وفضضتم جموعهم، حتى صارت إليكم مواريثهم، فأغنيتم حوزتكم، وأعنتم الناس على عدوهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك ما نريد، وإن يلجّوا داويناهم بالرفق، وباينَّاهم حتى يبدؤونا بظلم، ولن ندع أمراً فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله.
4 - اختلاف الرأي لا يفسد للودِّ قضية:
وهذا القول ينطبق على حال الصحابة في هذه الفتنة؛ فمع اختلافهم في الرأي، لم يدخل قلب أحد الضَّغن على أخيه، وإليك هذه القصة التي حدثت بالكوفة، فقد روى البخاري عن أبي وائل قال: دخل أبو موسى الأشعري، وأبو مسعود (عقبة بن عمرو الأنصاري) على عمّار حين بعثه عليٌّ إلى أهل الكوفة يستنفرهم، فقالا: ما رأيناك أتيت أمراً، أكره عندنا من إسراعك في هذا الأمر منذ أسلمت. فقال عمار: ما رأيت منكما منذ أسلمتما أمراً أكره عندي من إبطائكما في هذا الأمر. وفي رواية: فقال أبو مسعود ـ وكان موسراً ـ: يا غلام هات حلتين؛ فَأَعْطَى إحداهما أبا موسى، والأخرى عمّاراً، وقال: روحا فيه إلى الجمعة.
فأنت ترى أبا مسعود وعماراً كانا وكلاهما يرى الآخر مخطئاً، ومع ذلك فأنت ترى أبا مسعود يكسو عماراً حلة ليشهد بها الجمعة؛ لأنه كان بثياب السفر وهيئة الحرب، فكره أبو مسعود أن يشهد الجمعة في تلك الثياب، وهذا تصرُّف يدل على غاية الودِّ مع أن كليهما جعل تصرف صاحبه نحو الفتنة عيباً، فعمار يرى إبطاء أبي موسى وأبي مسعود عن تأييد علي عيباً، وأبو موسى وأبو مسعود رأيا إسراع عمار في تأييد أمير المؤمنين علي عيباً، وكلاهما له حجته التي اقتنع بها:
فمن أبطأ فذلك لما ظهر لهم من ترك مباشرة القتال في الفتنة، تمسكاً بالأحاديث الواردة في ذلك، وما في حمل السلاح على المسلم من الوعيد، وكان عمّار: على رأي علي في قتال الباغين والناكثين، والتمسك بقوله ﴿ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي ﴾، وحمل الوعيد الوارد في القتال على من كان متعدياً على صاحبه، وكلا الفريقين لم يكن حريصاً على قتل صاحبه، ويتعلق الطرفان بأدنى سبب لمنع الاشتجار قبل أن يقع، وفضّ الالتحام إن وقع، لأن الطرفين كانا كارهين الاقتتال.
5 - تساؤلات على الطريق:
أ ـ ما سأله به أبو رفاعة بن رافع بن مالك العجلان الأنصاري: لما أراد الخروج من الرّبذة، فقال: يا أمير المؤمنين، أي شيء تريد؟ وإلى أين تذهب بنا؟ فقال: أما الذي نريد وننوي فالإصلاح، إن قبلوا منا وأجابونا إليه، قال: فإن لم يجيبونا إليه؟ قال ندعهم بعذرهم ونعطيهم الحق ونصبر، قال: فإن لم يرضوا؟ قال: ندعهم ما تركونا، قال: فإن لم يتركونا؟ قال: امتنعنا منهم، قال: فنعم إذاً، فسمع تلك السلسلة من الأسئلة والإجابات فاطمأن إليها وارتاح لها، وقال: لأرضينك بالفعل كما أرضيتني بالقول، وقال:
دَرَاكَها دَرَاكَها قَبْلَ الفَوْتِ وانْفِرْ بِنَا وَاسْمُ بِنَا نَحْوَ الصَوْتِ
لا وَ أَلَتْ نَفْسي إِنْ هِبْتُ المَوْتِ
ب ـ أهل الكوفة يسألون علي بما فيهم الأعور بن بنان المنقري: لما قدم أهل الكوفة إلى أمير المؤمنين رضي الله عنه في ذي قار، قام إليه أقوام من أهل الكوفة يسألونه عن سبب قدومهم، فقام إليه فيمن قام الأعور بن بُنان المِنْقريّ، فقال له علي رضي الله عنه: على الإصلاح وإطفاء النائرة، لعل الله يجمع شمل هذه الأمة بنا ويضع حربهم، وقد أجابوني، قال: فإن لم يجيبونا؟ قال: تركناهم ما تركونا، قال: فإن لم يتركونا؟ قال: دفعناهم عن أنفسنا، قال: فهل لهم مثل ما عليهم من هذا؟ قال: نعم.
ج ـ أبو سلامة الدّألاني، ممن سأل أمير المؤمنين رضي الله عنه فقال: أترى لهؤلاء القوم حجّة فيما طلبوا من هذا الدم، إن كانوا أرادوا الله عز وجل بذلك؟ قال: نعم، قال: فترى لك حجة بتأخيرك ذلك؟ قال: نعم، إنّ الشيء إذا كان لا يدرك فالحكم فيه أحوطه وأعمّه نفعاً، قال: فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غداً قال: إني لأرجو ألاّ يُقتل أحد نقيّ قلبه لله منّا ومنهم، إلا أدخله الله الجنة.
د ـ وسأل مالك بن حبيب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فقال: ما أنت صانع إذا لقيت هؤلاء القوم؟ قال: قد بان لنا ولهم أن الإصلاح، الكفّ عن هذا الأمر، فإن بايعونا فذلك، فإن أبوا وأبينا إلا القتال فصدع لا يلتئم، قال: فإن ابتلينا فما بال قتلانا؟ قال: من أراد الله عز وجل نفعه ذلك وكان نجاءه.
إن هدف أمير المؤمنين الإصلاح وإطفاء الفتنة، وأن القتال ليس وارد في تدابيره، لأنّه إن حصل، فهو داء لا يُرجى شفاؤه، أما من يقتل بين الطرفين فهو مرهون بنيّته، سواء قاتل مع أمير المؤمنين أو قاتل ضده، وبذلك يقرر أمير المؤمنين: أن المسلمين الذي خرجوا في هذا الأمر، بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه يبتغون الإصلاح والقضاء على الفتنة، مجتهدون وأجرهم على قدر إخلاص نواياهم ونقاء قلوبهم.
ثامناً: محاولات الصلح:
قبل أن يتحرك علي رضي الله عنه بجيشه نحو البصرة أقام في ذي قار أياماً، وكان غرضه رضي الله عنه القضاء على هذه الفرقة والفتنة بالوسائل السلمية، وتجنيب المسلمين شر القتال والصدام المسلح بكل ما أُوتي من قوة وجهد، وكذلك الحال بالنسبة لطلحة والزبير.
وقد اشترك في محاولات الصلح عدد من الصحابة وكبار التابعين ممن اعتزلوا الأمر؛ منهم:
1 - عمران بن حصين رضي الله عنه:
فقد أرسل في الناس يخذِّل الفريقين جميعاً، ثم أرسل إلى بني عدي ـ وهم جمع كبير انضموا للزبير ـ فجاء رسوله وقال لهم في مسجدهم: أرسلني إليكم عمران بن حصين صاحب رسول الله ﷺ ينصحكم، ويحلف بالله الذي لا إله إلا هو لأن يكون عبداً حبشياً مجدعاً يرعى أعنزاً في رأس جبل حتى يدركه الموت، أحب إليه من أن يرمي في أحد من الفريقين بسهم أخطأ أو أصاب، فأمسِكوا فدىً لكم أبي وأمي، فقال القوم: دعنا منك، فإنّا والله لا ندع ثقل رسول الله ﷺ لشيء أبداً.
2 - كعب بن سور:
أحد كبار التابعين ـ فقد بذل كل جهد، وكلف نفسه فوق طاقتها، وقام بدور يعجز عنه كثير من الرجال، فقد استمر في محاولة الصلح إلى أن وقع المحذور، وذهب ضحية جهوده، إذ قتل وهو بين الصفين يدعو هؤلاء ويدعو هؤلاء إلى تحكيم كتاب الله وكفِّ السلاح.
3 - القعقاع بن عمرو التميمي:
أرسل أمير المؤمنين علي القعقاع بن عمرو التميمي رضي الله عنهما في مهمة الصلح إلى طلحة والزبير، وقال: القَ هذين الرجلين، فادعهما إلى الألفة والجماعة، وعظِّم عليهما الاختلاف والفرقة. ذهب القعقاع إلى البصرة، فبدأ بعائشة رضي الله عنها، وقال لها: ما أقدمك يا أماه إلى البصرة؟ قالت له: يا بني من أجل الإصلاح بين الناس. فطلب القعقاع منها أن تبعث إلى طلحة والزبير ليحضرا، ويكلمهما في حضرتها وعلى مسمع منها.
محاورة القعقاع لطلحة والزبير:
ولما حضرا سألهما عن سبب حضورهما، فقالا ـ كما قالت عائشة: من أجل الإصلاح بين الناس. فقال لهما: أخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ فوالله لئن عَرفناه لنصلحنَّ معكم، ولئن أنكرناه لا نصلح، قالا له: قتلة عثمان رضي الله عنه، ولا بد أن يُقتلوا، فإن تُركوا بدون قصاص كان هذا تركاً للقرآن، وتعطيلاً لأحكامه، وإن اقتُصَّ منهم كان هذا إحياء للقرآن.
قال القعقاع: لقد كان في البصرة ستمئة من قتلة عثمان وأنتم قتلتموهم إلا رجلاً واحداً، وهو حرقوص بن زهير السعدي، فلما هرب منكم احتمى بقومه من بني سعد، ولما أردتم أخذه منهم وقتْله منعكم قومه من ذلك، وغضب له ستة آلاف رجل اعتزلوكم، ووقفوا أمامكم وقفة رجل واحد، فإن تركتم حرقوصاً ولم تقتلوه، كنتم تاركين لما تقولون وتنادون به وتطالبون علياً به، وإن قاتلتم بني سعد من أجل حرقوص، وغلبوكم وهزموكم وأديلوا عليكم، فقد وقعتم في المحذور، وقوَّيْتموهم، وأصابكم ما تكرهون، وأنتم بمطالبتكم بحرقوص أغضبتم ربيعة ومضر، من هذه البلاد، حيث اجتمعوا على حربكم وخذلانكم، نصرة لبني سعد، وهذا ما حصل مع علي، ووجود قتلة عثمان في جيشه.
الحل عند القعقاع التأني والتسكين ثم القصاص:
تأثرت أمُّ المؤمنين ومن معها بمنطق القعقاع، وحجته المقبولة، فقالت له: فماذا تقول أنت يا قعقاع؟ قال: أقول: هذا أمرٌ دواؤه التسكين، ولا بد من التأني في الاقتصاص من قتلة عثمان، فإذا انتهت الخلافات، واجتمعت كلمة الأمة على أمير المؤمنين تفرّغ لقتلة عثمان، وإن أنتم بايعتم علياً و اتفقتم معه، كان هذا علامة خير، وتباشير رحمة، وقدرة على الأخذ بثأر عثمان، وإن أنتم أبيتم ذلك، وأصررتم على المكابرة والقتال كان هذا علامة شر، وذهاباً لهذا الملك، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح خير كما كنتم أولاً، ولا تُعرّضونا للبلاء، فتتعَرضوا له، فيصرعنا الله وإياكم، وايم الله إني لأقول هذا وأدعوكم إليه، وإني لخائف أن لا يتم، حتى يأخذ الله حجته من هذه الأمة التي قلَّ متاعها، ونزل بها ما نزل، فإنّ ما نزل بها أمر عظيم، وليس كقتل الرجل الرجل، ولا قتل النفر الرجل، ولا قتل القبيلة القبيلة.
اقتنَعوا بكلام القعقاع المقنع الصادق المخلص، ووافَقوا على دعوته إلى الصلح، وقالوا له: قد أحسنت وأصبت المقالة، فارجع، فإن قدم علي، وهو على مثل رأيك، صلح هذا الأمر إن شاء الله.
عاد القعقاع إلى علي في ذي قار وقد نجح في مهمته، وأخبر علياً بما جرى معه، فأُعجب علي بذلك، وأوشك القوم على الصلح، كرهه من كرهه، ورضيه من رضيه.
بشائر الاتفاق بين الفريقين:
لما عاد القعقاع وأخبره بما فعل، أرسل علي رضي الله عنه رسولين إلى عائشة والزبير ومن معهم يستوثق فيه مما جاء به القعقاع بن عمرو، فجاءا علياً، بأنّا على ما فارقنا عليه القعقاع فأقدم، فارتحل عليّ حتى نزل بحيالهم، فنزلت القبائل إلى قبائلهم، مضر إلى مضر، وربيعة إلى ربيعة، واليمن إلى اليمن، وهم لا يشكون في الصلح، فكان بعضهم بحيال بعض، وبعضهم يخرج إلى بعض، ولا يذكرون ولا ينوون إلا الصلح، وكان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لما نوى الرحيل قد أعلن قراره الخطير: ألا وإني راحل غداً فارتحلوا؛ يقصد إلى البصرة؛ ألا ولا يرتحلن غداً أحد أعان على عثمان بشيء في شيء من أمور الناس.
يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf