الأحد

1446-11-27

|

2025-5-25

مساعي الزبير وطلحة وعائشة (رضي الله عنهم) للإصلاح

الحلقة الرابعة والخمسون

بقلم: د. علي محمد الصلابي

جمادى الآخر 1441 ه/ فبراير 2020م

سادساً: خروج الزبير وطلحة وعائشة ومن معهم إلى البصرة للإصلاح:
قدم طلحة والزبير إلى مكة ولقيا عائشة رضي الله عنهم جميعاً، وكان وصولهما إلى مكة بعد أربعة أشهر من مقتل عثمان تقريباً، أي: في ربيع الآخر من عام 36 هـ، ثم بدأ التفاوض في مكة مع عائشة رضي الله عنها للخروج، وقد كانت هناك ضغوط نفسية كبيرة على أعصاب الذين وجدوا أنفسهم لم يفعلوا شيئاً لإيقاف عملية قتل الخليفة المظلوم، فقد اتَّهموا أنفسهم بأنهم خذلوا الخليفة، وأنه لا تكفير لذنبهم هذا ـ حسب قولهم ـ إلا الخروج للمطالبة بدمه، علماً بأن عثمان هو الذي نهى عن كل من أراد أن يدافع عنه في حياته تضحية في سبيل الله.
فعائشة تقول: إن عثمان قُتل مظلوماً والله لأطالبن بدمه، وطلحة يقول: إنه كان مني في عثمان شيء ليس توبتي إلا أن يسفك دمي في طلب دمه، والزبير يقول: نُنهض الناس فيدرك بهذا الدم لئلا يَبْطل، فإن في إبطاله توهين سلطان الله بيننا أبداً، إذا لم يُفْطم الناس عن أمثالها لم يبق إمام إلا قتله هذا الضرب.
فهذا الإحساس الضاغط على الأعصاب والنفوس كان كفيلاً بأن يحرِّك الناس ويخرجهم من راحتهم واستقرارهم، بل كانوا يخرجون وهم يدركون أنهم يخرجون إلى أهوال قادمة مجهولة؛ فكل واحد منهم خرج من بيته وهو غير متوقع العودة مرة أخرى، تشيعه أولاده بالبكاء، وسمي يوم خروجهم من مكة نحو البصرة بيوم النحيب، فلم يُرَ يوم كان أكثر باكياً على الإسلام، أو باكياً له من ذلك اليوم.
لقد توفرت مجموعة من العوامل في مكة جعلتهم يفكرون في طريقة جادة لتحقيق مطلبهم؛ ومن هذه العوامل: ـ أن بني أمية قد هربوا من المدينة واستقروا في مكة.
ومنها: أن عبد الله بن عامر ـ أمير البصرة في عهد عثمان ـ كان في مكة وهو يحث على الخروج، ويعرض المعونة المادية.
ومنها: أن يعلى بن أمية الذي خرج من اليمن لإعانة الخليفة عثمان وصل مكة وقد قتل الخليفة، ومعه من المال والسلاح والدواب شيئاً لا بأس به، فعرض كل ذلك للمساعدة في قتل قتلة عثمان، فكان هذا كفيلاً لتشجيع الباحثين عن طريقة لمطاردة قتلة عثمان.
وما دامت العوامل قد توفرت لجمع قوة تطالب بدم عثمان؛ فمن أين يبدؤون؟ دار حوار بينهم حول الجهة التي يتوجهون إليها؛ فقال بعضهم ـ وعلى رأسهم السيدة عائشة: إن المدينة هي وجهتهم، وظهر رأي آخر يطلب التوجه إلى الشام ليتجمعوا معاً ضد قتلة عثمان، وبعد نظر طويل قرَّ رأيهم على البصرة؛ لأن المدينة فيها كثرة ولا يقدرون على مواجهتهم لقلتهم، ولأن الشام صار مضموناً لوجود معاوية، ومن ثم يكون دخولهم البصرة أولى في هذه الخطة؛ لأنها أقل البلدان قوة وسلطة، ويستطيعون من خلالها تحقيق خطتهم.
وكانت خطتهم ومهمتهم واضحة سواء قبل خروجهم، وفي أثناء طريقهم، أو عند وصولهم إلى البصرة؛ وهي: الطلب بدم عثمان، والإصلاح، وإعلام الناس بما فعل الغوغاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن هذا المطلب هو لإقامة حدٍّ من حدود الله، وإنه إذا لم يؤخذ على أيدي قتلة عثمان رضي الله عنه فسيكون كل إمام معرّضاً للقتل من أمثال هؤلاء.
وأما الطريقة التي تصوروها؛ فهي الدخول إلى البصرة ثم الكوفة، والاستعانة بأهلها على قتلة عثمان منهم أو من غيرهم، ثم يدعون أهل الأمصار الأخرى لذلك حتى يُضيقوا الخناق على قاتلي عثمان الموجودين في جيش عليّ، فيأخذونهم بأقل قدر ممكن من الضحايا.
لم يكن الخروج إلى البصرة والغضب الذي حرك الصحابة من البساطة التي ظهرت للناس كثأر لعثمان رضي الله عنه، وكأنه رجل من عوام الناس قُتِل، فخرجت الجيوش في الطلب له بثأره، رغم كونه حداً من حدود الله يستوجب الغضب ويستدعي حدوث ذلك، ولكن مكانة عثمان وشخصيته ومكانته المعنوية كخليفة، وقتله بالصورة التي تمت، كان فوق ذلك، ومعه اغتيالاً لصفة شرعية هي الخلافة التي يفهمها المسلمون: نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين، وسياسة الدنيا به، فالاعتداء عليها دون وجه حق اعتداء على صاحب الشرع وتوهين لسلطانه، وضياع لنظام المسلمين.
كانت السيدة عائشة والزبير وطلحة ومن معهم يسعون لإيجاد رأي إسلامي عام في مواجهة الطغمة السبئية التي قتلت عثمان، وأصبحت ذات شوكة لا يستهان بها، وذلك من خلال تعريف المسلمين بما أتى هؤلاء السبئيون والغوغاء من أهل الأمصار ونزّاع القبائل، ومن ظاهرهم من الأعراب والعبيد.
فلقد بات واضحاً عند الصحابة من الفريق الذي كان يرى رأي عائشة رضي الله عنها:
أن الغوغاء والسبئيين لهم وجود في جيش علي، وأنه لأجل ذلك؛ فإن علياً رضي الله عنه يصعب عليه مواجهتهم، خشية منه على أهل المدينة، ومن ثم فإنه ينبغي عليهم أن يحاولوا السعي لإفهام المسلمين، وتقوية الجانب المطالب بإقامة الحدود، لتتم إقامتها بأقل الخسائر في دماء الأبرياء، وهو هدف لا نشك أن علياً كان يسعى إليه، ويحاوله، بل إن الروايات التي مرت معنا في المحاورة بين الزبير وطلحة وعلي تدل على ذلك، ثم إن هذا السلوك منهم، وهذه النية في تعريف الناس، وتوضيح الأمور لهم، دليل على وعي تام منهم بأساليب السبئيّة في اللعب بأفكار العامة، وتوجيهها على النحو الذي ينخر في الأمة حتى لا تستقر على حال، فكان لا بد من مواجهتها في ميدان الأفكار، لإبطال عملها، ولقد تبين هذا العمل واضحاً، وصريحاً في الروايات الصحيحة. التي تحدثت فيها السيدة عائشة رضي الله عنها عن أهداف هذا الخروج.
فروى الطبري: أن عثمان بن حنيف ـ وهو والي البصرة من قبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ أرسل إلى عائشة ـ رضي الله عنها ـ عند قدومها البصرة يسألها عن سبب قدومها، فقالت: والله ما مثلي يسير بالأمر المكتوم، ولا يغطي لبنيه الخبر؛ إن الغوغاء من أهل الأمصار، ونزاع القبائل، غزوا حرم رسول الله ﷺ، وأحدثوا فيه الأحداث، وآووا فيه المحدثين، واستوجبوا فيه لعنة الله ولعنة رسوله، مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترة ولا عذر، فاستحلوا الدم الحرام فسفكوه، وانتهبوا المال الحرام، وأحلوا البلد الحرام، والشهر الحرام، ومزقوا الأعراض والجنود، وأقاموا في دار قوم كانوا كارهين لمقامهم، ضارِّين مضرِّين غيرَ نافعين ولا متقين. ولا يقدرون على امتناع ولا يأمنون، فخرجت في المسلمين أُعلمهم ما أتى هؤلاء القوم وما فيه الناس وراءنا، وما ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا، وقرأت: ﴿ لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [النساء: 114]، فنهض في الإصلاح ممن أمر الله عز وجل وأمر رسول الله ﷺ الصغير والكبير، والذكر والأنثى، فهذا شأننا إلى معروف نأمركم به ونحضكم عليه، ومنكر ننهاكم عنه ونحثكم على تغييره.
وروى ابن حبان أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ كتبت إلى أبي موسى الأشعري وإلى علي على الكوفة: فإنه قد كان من قتل عثمان ما قد علمت، وقد خرجت مصلِحَةً بين الناس، فمرْ من قبلك بالقرار في منازلهم، والرضا بالعافية حتى يأتيهم ما يحبون من صلاح أمر المسلمين.
ولما أرسل علي القعقاع بن عمرو لعائشة ومن كان معها يسألها عن سبب قدومها، دخل عليها القعقاع فسلم عليها، وقال: أي أُمه! ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت: أي بني إصلاح بين الناس.
وبعد انتهاء الحرب يوم الجمل جاء علي إلى عائشة ـ رضي الله عنها ـ فقال لها: غفر الله لك، قالت: ولك، ما أردت إلا الإصلاح. فتقرر أنها ما خرجت إلا للإصلاح بين الناس، وفيه رد على من طعن في عائشة رضي الله عنها من الشيعة الروافض في قولهم: إنها خرجت من بيتها وقد أمرها الله بالاستقرار فيه في قوله: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ﴾ [الأحزاب: 33]، فإن سفر الطاعة لا ينافي القرار في البيت وعدم الخروج منه إجماعاً، وهذا ما كانت تراه أم المؤمنين عائشة في خروجها للإصلاح للمسلمين، وكان معها محرمها ابن أختها عبد الله بن الزبير.
قال ابن تيمية في الرد على الرافضة في هذه المسألة: فهي ـ رضي الله عنها ـ لم تتبرج تبرج الجاهلية الأولى، والأمر بالاستقرار في البيوت لا ينافي الخروج لمصلحة مأمور بها، كما لو خرجت للحج والعمرة، أو خرجت مع زوجها في سفره، فإن هذه الآية قد نزلت في حياة النبي ﷺ، وقد سافر بهن رسول الله ﷺ بعد ذلك، كما سافر في حجة الوداع بعائشةـ رضي الله عنها ـ وغيرها، وأرسلها مع عبد الرحمن أخيها فأردفها خلفه، وأعمرها من التنعيم، وحجة الوداع كانت قبل وفاة النبي ﷺ بأقل من ثلاثة أشهر، بعد نزول هذه الآية، ولهذا كان أزواج النبي ﷺ يحججن بعده كما كن يحججن معه في خلافة عمر ـ رضي الله عنه ـ وغيره، وكان عمر يوكل بقطارهن عثمان، أو عبد الرحمن بن عوف، وإذا كان سفرهن لمصلحة جائزاً؛ فعائشة اعتقدت أن ذلك السفر مصلحة للمسلمين فتأولت في ذلك.
ويقول ابن العربي: وأما خروجها إلى حرب الجمل؛ فما خرجت لحرب، ولكن تعلق الناس بها وشكوا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة وتهارج الناس، ورجوا بركتها في الإصلاح، وطمعوا في الاستحياء منها إذا وقفت للخلق، وظنت هي ذلك، فخرجت مقتدية بالله في قوله: ﴿ لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [النساء: 114]. والأمر بالإصلاح مخاطب به جميع الناس من ذكر أو أنثى، حر أو عبد.
وهذه بعض الأمور المهمة في خروجها:
1 - هل أُكرهت السيدة عائشة على الخروج:
زعم اليعقوبي: أن الزبير بن العوام أكره السيدة عائشة على الخروج، وقال بهذا القول صاحب (الإمامة والسياسة) ، وابن أبي الحديد، وكذلك فعل الدينوري، وألمحت الرواية التي ذكرها الذهبي بأن المتسلط عليها هو عبد الله ابن الزبير ابن أختها أسماء ـ وسار على هذه الروايات كثير من الباحثين، كمحمد سيد الوكيل؛ فقد زعم أن الزبير وطلحة شجعوا عائشة على الخروج، وزاهية قدورة وغيرهم، وهذا غير صحيح؛ فقد قامت السيدة عائشة بالمطالبة بثأر عثمان منذ اللحظة التي علمت فيها بمقتله رضي الله عنه، وقبل أن يصل الزبير وطلحة وغيرهما من كبار الصحابة إلى مكة، ذلك أنه قد روي ـ أنها لما انصرفت راجعة إلى مكة، أتاها عبد الله بن عامر الحضرمي فقال: ما ردك يا أم المؤمنين؟ قالت: ردّني أن عثمان قُتل مظلوماً، وأن الأمر لا يستقيم، ولهذه الغوغاء أمر، فاطلبوا بدم عثمان تُعِزّوا الإسلام، فكان عبد الله أول من أجابها، ولم يكن طلحة والزبير قد خرجا من المدينة، وإنما خرجا منها بعدما مرَّتْ على مقتل عثمان أربعة أشهر.
2 - هل كانت متسلطة على من معها؟:
كان فيمن خرج معها رضي الله عنها جمع من الصحابة، ولم تكن السيدة عائشة المرأة المتسلطة التي تحرك الناس حيث شاءت كما زعم بروكلمان، ولقد أكدت روايات الطبري على تأييد أمهات المؤمنين لها، ولِمَنْ معها في السعي للإصلاح، بل وتأييد عدد غير قليل من أهل البصرة لها، وكان هذا العدد غير القليل ممن لا يستهان بهم، فلقد وصفهم طلحة والزبير بأنهم خيار أهل البصرة ونجباؤهم، ووصفتهم السيدة عائشة بأنهم الصالحون.
وما كان خروج هذا العدد من الصالحين إلا عن اعتقاد راسخ بجدوى هذا الخروج وصواب مقصده، وكان أمير المؤمنين يعلم هذا، ويرد الزعم الذي زعمه البعض من أن الخارجين مع السيدة عائشة كانوا جموعاً من السفهاء والغوغاء والأوباش، فلقد وقف أمير المؤمنين بعد معركة الجمل بين القتلى من فريق عائشة، يترحم عليهم ويذكر فضلهم وسيأتي بيان ذلك. ولم يكن هذا الخروج كخروج غوغائي، تحكمت فيه السيدة عائشة في أناس غير راشدين، بل كان خروجاً واعياً شارك فيه بعض الصحابة الكبار.

3 - موقف أزواج النبي ﷺ من الخروج للطلب بدم عثمان:
كان أزواج النبي ﷺ قد خرجن إلى الحج في هذا العام فراراً من الفتنة، فلما بلغ الناس بمكة: أن عثمان قد قُتل؛ أقمن بمكة وكن قد خرجن منها، فرجعن إليها، وجعلوا ينتظرون ما يصنع الناس ويتحسسون الأخبار، فلما بويع عليّ خرج عدد من الصحابة من المدينة كارهين المقام بها بسبب الغوغاء من أهل الأمصار، فاجتمع بمكة منهم خلق كثير من الصحابة وأمهات المؤمنين، وكان بقية أمهات المؤمنين قد وافقن عائشة على السير إلى المدينة، فلما اتفق رأي عائشة، ومن معها من الصحابة على السير إلى البصرة، رجعن عن ذلك وقلن: لا نسير إلى غير المدينة.
كان الخروج في أمر عثمان إذن غير مختلف عليه بين أمهات المؤمنين، لكنهن اختلفن حين تغيرت الوجهة من المدينة إلى البصرة.
غير أن أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنهما وافقت عائشة على السير إلى البصرة، وإنما عزم عليها أخوها عبد الله كيلا تخرج، فلم يكن عدم خروجها ناتجاً عن اقتناع منها، وقالت لعائشة: إن عبد الله حال بيني وبين الخروج، وأرسلت إلى عائشة بعذرها.
وتكاد الروايات الشائعة تبدي أن أم سلمة رضي الله عنها لم تكن ترى رأي عائشة ومن معها، في الخروج إلى البصرة، وإنها كانت ترى ما يراه علي، غير أن أقرب الروايات إلى الصحة هي أنها أرسلت إلى علي ابنها عمر بن أبي سلمة قائلة: والله لهو أعزّ علي من نفسي، يخرج معك فيشهد مشاهدك، فخرج فلم يزل معه، وهي رواية عند التحقيق لا يتبين لنا منها أن هذا الإرسال لابنها يعني أنها كانت تخالف أمهات المؤمنين في القول بالإصلاح بين المسلمين؛ فعائشة نفسها ومن معها لم يكونوا يرون أنهم بهذا الخروج يخالفون علياً رضي الله عنه، أو يخرجون على خلافته كما رأينا، وكما سوف تؤكد لنا الأحداث، كما إننا لم نجد في الروايات الصحيحة ما يدل على خروجها على إجماع أمهات المؤمنين في أهمية السعي للإصلاح.
وكانت أمهات المؤمنين يعلمن ـ أن هذا الخروج في الإصلاح بين المسلمين مما يدخل في معنى الفرض الكفائي، والضابط فيه أن الطلب فيه ليس متوجهاً إلى جميع المكلفين، بل هو إلى ما فيه أهلية القيام به لا على الجميع عموماً، ولقد كانت أهلية القيام بهذا الإصلاح بين المسلمين متوفرة تماماً في السيدة عائشة: مكانة وسناً وعلماً، وقدرة، وكانت عائشة أكثرهن فقهاً بإجماع جمهور المسلمين، كما إنها كانت تهتم بالأمور العامة، فكانت صاحبة شخصية ثقافية واسعة، تكوَّنت منذ نشأتها في بيت أبي بكر العالم بأيام العرب وأنسابهم، ومن عيشها في بيت رسول الله الذي خرجت منه أسس سياسة الدولة الإسلامية.
ثم هي بنت الخليفة الأول للمسلمين، وقد أكد العلماء على هذه المكانة للسيدة عائشة، فقد قال عروة بن الزبير: لقد صحبت عائشة، فما رأيت أحداً قط كان أعلم بآية أنزلت، ولا بفريضة، ولا بسنة، ولا بشِعر، ولا أروى له، ولا بيوم من أيام العرب، ولا بنسب، لا بكذا، ولا بكذا.. ولا بقضاء، ولا بطب منها. وكان الشعبي يذكرها فيتعجب من فقهها وعلمها، ثم يقول: ما ظنكم بأدب النبوة؟!. وكان عطاء يقول: كانت عائشة أفقه الناس، وأحسن الناس رأياً في العامة. وكان الأحنف بن قيس سيد بني تميم، وأحد بلغاء العرب يقول: سمعت خطبة أبي بكر وعمر، وعثمان، وعلي، والخلفاء بعدهم.. فما سمعت الكلام من فم مخلوق أفخم، ولا أحسن منه في عائشة. وكان معاوية يقول مثل هذا.
هذا وقد خرجت أمهات المؤمنين مودعات للسيدة عائشة حين خرجت للبصرة، وفي ذلك معنى من معاني المعاونة لها و التشجيع لها على أمرها.
4- مرور السيدة عائشة على ماء الحَوْءَبِ:
ثبت مرور السيدة عائشة على ماء الحَوْءَبِ من طرق صحيحة؛ فعن يحيى بن سعيد بن القطان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن حازم: «كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحَوْءَبِ». ومن طريق شعبة عن إسماعيل ولفظ شعبة: أن عائشة قالت لما أتت على الحَوْأَبْ: سمعت نباح الكلاب، فقالت: ما أظنني إلا راجعة، إن رسول الله ﷺ قال لنا: «أيتكن تنبح عليها كلاب الحَوْءَبِ». فقال لها الزبير: أترجعين؟! عسى الله عز وجل أن يُصلح بك بين الناس.
وبهذا اللفظ أخرجه يعلى بن عبيد عن إسماعيل، وهو عند الحاكم، وقال الألباني: إسناده صحيح جداً، وقال: صححه خمسة من كبار أئمة الحديث هم: ابن حبان، والذهبي، وابن كثير، وابن حجر.
فهذه الروايات الصحيحة، ليس فيها شيء من شهادة الزور أو التدليس الذي يتنزه عنه مَقام الصحابة والذي زعمته الروايات الضعيفة التي سيأتي بيانها.
إن المتأمل لهذه الروايات التي صححها العلماء لا يجد في أي منها ما يدل على نهي عن شيء، أو أمر بشيء لتفعله السيدة عائشة، بل إن ما يفهم منها هو تساؤله عن أيتهن التي يحدث أن تمر على ماء الحَوْءَبِ؟
والروايات الدالة على النهي، والتي بها لفظة (إياك) في الأثر الوارد: «إياك أن تكوني يا حميراء» لم يصححها العلماء، وإنما ضعفت، ومن هنا فإن الصحيح الذي نذهب إليه: هو أن مرور السيدة عائشة على ماء الحوءَب لم يكن له الأثر السلبي الذي افتعلته الروايات الموضوعة، ولم يكن له الأثر البعيد على نفسية السيدة عائشة نفسها، بحيث تفكر جدّيّاً في الرجوع عما خرجت له من إصلاح بين المسلمين، وسعي لتسديد خطاهم، ولم يعد الأمر أن يكون ظناً منها في احتمال الرجوع، وهذا هو ما عبرت عنه حين قالت: ما أظنني إلا راجعة. وهو ظن لم يتلبس إلا يسيراً، ثم عاد بعد هدفها واضحاً بعدما ذكرها الزبير بما عسى الله أن يجريه على يديها من إصلاح بين المسلمين.
لقد كانت ولازالت مسألة ماء الحوءَب والأحاديث المذكورة فيها مجالاً خصباً للشيعة وغيرهم يطعنون بها على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ويدينون بها خروجها في شأن الطلب بدم عثمان، حتى انتهى بهم الأمر إلى نفي صفة الاجتهاد عنها، بدعوى مخالفتها ـ في زعمهم ـ لنهي الرسول ﷺ لها عن أن ترد ماء الحوءَب.
وقد ذكرت المصادر التاريخية هذه القصة؛ فقد جاءت عند الطبري في رواية طويلة، يرويها إسماعيل بن موسى الفزاري؛ قال عنه ابن عدي: أنكروا منه الغلو والتشيع، ويروى الفزاري هذا الخبر عن علي بن عابس الأزرق، وهو ضعيف؛ قالها ابن حجر والنسائي، وهو يروي هذا الخبر عن أبي الخطاب الهجري وهو مجهول، وهذا الهجري المجهول، يرويه عن مجهول آخر هو صفوان بن قبيعة الأحمسي، ثم أخيراً عن شخصية أشد جهالة هي شخصية العزُني صاحب الجمل، وما هو بصاحب الجمل، وإنما صاحبه هو يعلى بن أمية.
وفي متن هذه الرواية ما يجده القارئ من رائحة التشيع والرفض الواضحة في آخر الرواية، حيث تزعم على لسان علي أنه كان ـ رضي الله عنه ـ يرى أحقيته بالخلافة على أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، والصحيح الثابت من الروايات المحققة يدل على خلاف ذلك تماماً.
وعلى أساس كل ما سبق يتضح لنا أن هذه الرواية غير صحيحة، وهناك روايات أخرى وردت في هذا الموضوع، كلها باطلة سنداً ومتناً، ومغزى هذه الروايات وهدفها هو الطعن على كبار الصحابة وفضلائهم، وبيان أن مقصدهم من خروجهم هذا، ما هو إلاءْ تحقيق مطامع دنيوية شخصية من مال ورئاسة وغيرها، وأن الغاية تبرر الوسيلة، وأنهم لا يتورعون في سبيل ذلك عن إشعال الحرب والفتنة بين المسلمين، وتركز الروايات على الصحابيين الجليلين طلحة والزبير رضي الله عنهما.
كما يريد مفتري هذه الروايات أن يبين ويؤكد أن هذين الصحابيين ومن معهما من أفراد المعسكر؛ يتجرؤون على انتهاك حرمات الله، فهم يُقْسِمون ويحلفون لأم المؤمنين بأيمان مغلظة: أن هذا الماء ليس ماء الحوءَب، وزيادة على ذلك أتوا بسبعين نفساً، وفي رواية: بخمسين نفساً يشهدون على صدق قولهم، فكان هذا العمل كما افترى المسعودي الشيعي الرافضي أول شهادة زور في الإسلام.
وتحاول هذه الروايات أن تظهر أن طلحة والزبير وأم المؤمنين رضي الله عنهم، ليسوا على شيء من صفاء القلوب والاجتماع على هدف واحد، وتحاول أن تظهر أن عائشة رضي الله عنها بجانب طلحة رضي الله عنه، وفي قرارة نفسها أن يتولى هو الخلافة، وذلك لأنه تيمي مثلها.
كما تظهر هذه الروايات أن هناك تنافساً داخلياً بين طلحة والزبير، وحرصاً من كل واحد منهما أن يتولى الإمارة.
وهذه الروايات لا تخلو من ضعف قوي، فبعضها منقطع السند، أو فيها مجاهيل لا يعرفون، أو فيها كلا العيبين القادحين. ولقد تأثر كثير من الكتاب والمؤرخين بهذه الروايات، واعتمدوا عليها، وساهموا في نشرها وهي لا أساس لها، كالعقاد في عبقرية علي، وطه حسين في علي وبنوه، وغيرهم من الكتّاب المعاصرين.
5 - أعمالهم في البصرة:
عندما وصل طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم ومن معهم البصرة؛ نزلوا جانب الخريبة، ومن هناك أرسلوا إلى أعيان وأشراف القبائل يستعينون بهم على قتلة عثمان، كان كثير من المسلمين في البصرة وغيرها يودون ويرغبون في القود من قتلة عثمان رضي الله عنه، إلا أن بعض هؤلاء يرون أن هذا من اختصاص الخليفة وحده، وأن الخروج في هذا الأمر بدون أمره وطاعته معصية، ولكن خروج هؤلاء الصحابة المشهود لهم بالجنة، وأعضاء الشورى ومعهم أم المؤمنين عائشة حبيبة رسول الله ﷺ وأفقه النساء مطلقاً، ومطلبهم الشرعي لا غبار عليه ولا ينكره صحابي واحد، جعل الكثير من البصريين على اختلاف قبائلهم ينضمُّون إليهم.
وأرسل الزبير إلى الأحنف بن قيس السعدي التميمي يستنصره على الطلب بدم عثمان، والأحنف من رؤساء تميم وكلمته مسموعة.
يقول الأحنف واصفاً هول الموقف:... فأتاني أفظع أمر أتاني قط، فقلت: إن خذلاني هؤلاء ومعهم أم المؤمنين وحواري رسول الله ﷺ لشديد. إلا أنه اختار الاعتزال، فاعتزل معه ستة آلاف ممن أطاعه من قومه، وعصاه في هذا الأمر كثير منهم، ودخلوا في طاعة طلحة والزبير وأم المؤمنين.
ويذكر الزهري أن عامّة أهل البصرة تبعوهم.
وهكذا انضم إلى طلحة والزبير وعائشة ومن معهم أنصار جدد لقضيتهم التي خرجوا من أجلها. وقد حاول ابن حنيف تهدئة الأمور والإصلاح قدر المستطاع إلا أن الأمور خرجت من يده، حتى قال أحدهم عن البصرة: قطعة من أهل الشام نزلت بين أظهرنا، وحتى إن معاوية فيما بعد حاول الاستيلاء عليها بمساعدة أهلها، وتذكر بعض المصادر غير الموثقة أن عثمان بن حنيف رخص لحكيم بن جبلة في القتال، فهذا لا يثبت، والمصادر الصحيحة لم تثبت ذلك.
6 - مقتل حُكَيم بن جبلة ومن معه من الغوغاء:
أقبل حُكيم بن جبلة، بعدما خطبت عائشة رضي الله عنها في أهل البصرة، فأنشب القتال، وأشرع أصحاب عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم رماحهم وأمسكوا ليُمسكوا، فلم ينته حكيم، ومن معه، ولم يُثنَ، وظل يقاتلهم طلحة والزبير وعائشة كافُّون إلا ما دافعوا عن أنفسهم، وحكيم يذمر خيله ويركبهم بها.
وعلى الرغم من ذلك، فإن عائشة رضي الله عنها ظلت حريصة على عدم إنشاب القتال، فأمرت أصحابها أن يتيامنوا بعيداً عن المقاتلين، وظلوا على ذلك حتى حجز الليل بينهم، حتى إذا كان الصباح جاء حكيم بن جبلة وهو يبربر، وفي يده الرمح، وفي طريقه إلى حيث عائشة رضي الله عنها، ومن معها، جعل حكيم لا يمر برجل أو امرأة ينكر عليه أن يسب عائشة إلا قتله، وعندئذ غضبت عبد القيس إلا من كان اغتُمر منهم، فقالوا لحكيم: فعلت بالأمس وعدت لمثل ذلك اليوم، والله لا ندعنك حتى يُقيدك الله، فرجعوا وتركوه، ومضى حكيم بن جبلة فيمن غزا معه عثمان بن عفان رضي الله عنه، وحصره من نُزَّاع القبائل كلها، فلقد كانوا قد عرفوا أن لا مقام لهم بالبصرة، فاجتمعوا إليه، ووافقوا أصحاب عائشة، فاقتتلوا قتالاً شديداً.
وظل منادي عائشة رضي الله عنهم يناديهم ويدعوهم إلى الكفّ، فيأبون، وجعلت رضي الله عنها تقول: لا تقتلوا إلا من قاتلكم، لكن حكيم لم يُرَع للمنادي، وظل يُسَعِّر القتال، عندئذ وبعدما تبينت للزبير وطلحة رضي الله عنهما طبيعة هؤلاء الذين يقاتلون، وأنهم لا يتورعون، ولا ينتهون عن حرمة، وأن لهم هدفاً في إنشاب القتال، قالا: الحمد لله الذي جمع لنا ثأرنا من أهل البصرة، اللهم لا تبق منهم أحداً، وأقد منهم اليوم، فاقتلهم، فجادُّوهم القتال، ونادوا: من لم يكن من قتلة عثمان رضي الله عنه فليكفف عنا، فإننا لا نريد إلا قتلة عثمان، ولا نبدأ أحداً.
فاقتتلوا أشد القتال، فلم يفلت من قتلة عثمان من أهل البصرة إلا واحد، وكان منادي الزبير وطلحة قد نادى: ألا من كان فيكم من قبائلكم أحد ممن غزا المدينة فليأتنا بهم.
وكان فريق من هؤلاء الجهال والغوغاء ـ كما قالت عائشة ـ قد غارُّوها في بيتها في الغَلَس ليقتلوها، وكانوا قد ذهبوا حتى سُدّة بيتها، ومعهم الدليل، إلا أن الله دفع عنها بنفر من المسلمين كانوا قد أحاطوا بيتها رضي الله عنها، فدارت عليهم الرحى وأطاف بهم المسلمون فقتلوهم.
واستطاع الزبير وطلحة ومن معهما أن يسيطروا على البصرة، وكانوا بحاجة إلى طعام ومؤنة غذائية، وقد مرت عليهم أسابيع، وهم ليسوا في ضيافة أحد، فتوجه جيش الزبير إلى دار الإمارة، ومن ثم إلى بيت المال ليرزقوا أصحابهم، وأخلي سبيل عثمان بن حنيف، واتجه إلى علي، وبذلك تمت سيطرة طلحة والزبير وأم المؤمنين رضي الله عنهم على البصرة، وقتلوا عدداً كبيراً ممن شارك في الهجوم على المدينة، قُدِّر بسبعين رجلاً من أبرزهم زعيم ثوار البصرة حكيم بن جبلة، والذي كان حريصاً على القتال وإشعال الحرب، وكان الزبير أمير القتال فقد بويع على ذلك.
7 - رسائل السيدة عائشة إلى الأمصار الأخرى:
كانت السيدة عائشة رضي الله عنها حريصة على إيضاح وجه الحق فيما حدث من قتال مع أهل البصرة، فكتبت إلى أهل الشام والكوفة واليمامة، وكتبت إلى أهل المدينة أيضاً تخبرهم بما صنعوا وصاروا إليه، وكان فيما كتبت به لأهل الشام: إنا خرجنا لوضع الحرب وإقامة كتاب الله عز وجل بإقامة حدوده في الشريف والوضيع، والكثير والقليل، حتى يكون الله عز وجل هو الذي يردُّنا عن ذلك. فبايعنا خيار أهل البصرة ونجباؤهم، وخالفنا شرارهم ونُزَّاعهم، فردُّونا بالسلاح، وقالوا فيما قالوا: نأخذ أم المؤمنين رهينة أن أمرتْهم بالحق وحثتهم عليه، فأعطاهم الله عز وجل سنة المسلمين مرة بعد مرة، حتى إذا لم يبق حجة ولا عذر استبسل قتلة عثمان أمير المؤمنين، فلم يفلت منهم إلا حُرْقوص بن زهير والله مقيده. وإنّا نناشدكم الله سبحانه في أنفسكم إلا ما نهضتم بمثل ما نهضنا به، فنلقى الله عز وجل وتلقونه، وقد أعذرنا وقضينا الذي علينا.
8 - الخلاف بين عثمان بن حنيف وجيش عائشة والزبير وطلحة:
روى الطبري عن أبي مخنف، عن يوسف بن يزيد، عن سهل بن سعد قال: لما أخذوا عثمان بن حنيف، أرسلوا أبان بن عثمان بن عفان إلى عائشة يستشيرونها في أمره، قالت: اقتلوه، فقالت لها امرأة: نشدتك بالله يا أم المؤمنين في عثمان وصحبته لرسول الله ﷺ، قالت: ردوا أُباناً، فردُّوه، فقالت: احبسوه ولا تقتلوه، قال: لو علمتُ أنكِ تدعينني لهذا لم أرجع، فقال لهم مجاشع بن مسعود: اضربوه وانتفوا شعر لحيته، فضربوه أربعين سوطاً، ونتفوا شعر لحيته ورأسه وحاجبيه وأشفار عينيه وحبسوه.
وفي سند هذه الرواية أبو مخنف؛ وهو شيعي رافضي محترف وهذه الرواية لم تثبت من طريق صحيح يمكن أن يعول عليه، والصحابة الكرام ينزهون عن مثل هذه المثلة القبيحة، والذي يفهم من رواية سيف أن الغوغاء هم الذين فعلوا ذلك، وأن طلحة والزبير رضي الله عنهما استشنعاه، واستعظماه وبعثا بالخبر إلى عائشة، فقالت: خلوا سبيله وليذهب حيث شاء.
وهذه الرواية عارضت تفصيلات أبي مخنف؛ فهي لم تذكر الأمر بقتله أو حبسه أو الأمر بنتف شعر وجهه، وقد اختار هذه الرواية النويري وابن كثير، وذكر الذهبي أن مجاشع بن مسعود قد قتل قبل دخول دار عثمان بن حنيف، وحتى لو فرض عدم قتل مجاشع بن مسعود فليست إليه القيادة حتى بصدر هذه الأوامر.

يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022