الأحد

1446-11-27

|

2025-5-25

الأحداث التي سبقت معركة الجمل (3)

الحلقة الثانية والخمسون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الآخر 1441 ه/ فبراير 2020

رابعاً: موقف معتزلي الفتنة:
اعتمد كثير من الصحابة ممن اعتزلوا الفتنة ـ رضوان الله عليهم ـ، على قول رسول الله ﷺ: «ستكون فتن؛ القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرّف لها تستشرفه، فمن وجد منها ملجأ أو معاذاً فليعذ به».
قال ابن حجر: ففي الحديث تحذير من الفتنة والحث على اجتناب الدخول فيها، وأن شرّها يكون بحسب التعلق بها.
وقال رسول الله ﷺ: «إنها ستكون فتنة يكون المضطجع فيها خيراً من الجالس، والجالس فيها خيراً من القائم، والقائم خيراً من الماشي، والماشي خيراً من الساعي»، قالوا: يا رسول الله، ما تأمرنا؟ قال: «من كانت له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه»، قالوا: فمن لم يكن له شيء؟ من ذلك؟ قال: «يعمد إلى سيفه فيضرب بحدّه على حرّة، ثم لينجُ ما استطاع النجاء».
وقال رسول الله ﷺ: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن.
وغير ذلك من الأحاديث التي تدعو صراحة إلى النهي عن الدخول في قتال الفتنة.
قال الجويني: قد صار طوائف من جلة أصحاب رسول الله ﷺ إلى التخلف عن القتال في زمن علي رضي الله عنه، وإيثار السكون، والركوب إلى السلام، والتباعد عن ملتطم الغوائل، منهم: سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وكان من العشرة المبشرين بالجنة، وممن تخلف أولاً: أبو موسى الأشعري، وعبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، وأبو أيوب الأنصاري، وتبع هؤلاء أمم من الصحابة ولم يشتد نكير علي عليهم.
وقد ذهب ابن حجر رحمه الله إلى أن الصحابة الذين اعتزلوا كانوا قلة، قال: ومن ثم كان الذين توقفوا عن القتال في الجمل وصفين أقل عدداً من الذين قاتلوا، وكلهم متأول مأجور إن شاء الله بخلاف من جاء بعدهم ممن قاتل على طلب الدنيا.
وقال ابن تيمية: وأكثر أكابر الصحابة لم يقاتلوا، لا من هذا الجانب، ولا من هذا الجانب، واستدل التاركون للقتال بالنصوص الكثيرة عن النبي ﷺ في ترك القتال في الفتنة، وبيَّنوا أن هذا قتال فتنة.
وقد ذهب الإمام القرطبي إلى أن العلة في توقف الصحابة عن المشاركة في القتال مع الإمام علي هو أن قتال الفئة الباغية فرض كفاية وليس فرض عين، فلذلك تخلف أمثال سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة وغيرهم، وإليك طرفاً من أقوال الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة.
1- سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:
كان سعد رضي الله عنه أفضل الصحابة بعد علي رضي الله عنه يوم صفين، ولما قيل لسعد بن أبي وقاص: ألا تقاتل؟ إنك من أهل الشورى، وأنت أحق بهذا الأمر من غيرك، قال: لا أقاتل حتى يأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان! يعرف المؤمن من الكافر، فقد جاهدت وأنا أعرف الجهاد.
وأخرج مسلم من حديث عامر قال: كان سعد بن أبي وقاص في إبله فجاءه ابنه عمر، فلمّا رآه قال: أعوذ بالله من شر هذا الرّاكب. فنزل فقال له: أنزلت في إبلك وغنمك، وتركت النّاس يتنازعون المُلك بينهم؟ فضرب سعد في صدره فقال: اسكت. سمعت رسول الله يقول: «إن الله يحب العبد التقي النقي الخفي».
2- محمد بن مسلمة رضي الله عنه:
عن الحسن: أن علياً بعث إلى محمد بن مسلمة فجيء به، فقال: ما خلفك عن هذا الأمر؟ قال: دفع ابن عمك ـ يعني النبي ﷺ ـ سيفاً، فقال: «قاتل به ما قوتل العدو، فإذا رأيت الناس يقتل بعضهم بعضاً، فاعمد به إلى صخرة، فاضربه بها، ثم الزم بيتك، حتى تأتيك منية قاضية، أو يد خاطئة»، قال: خلوا عنه.
3- أبو موسى الأشعري رضي الله عنه:
عن زيد بن وهب قال:... جاءنا قتل عثمان، فجزع الناس من ذلك، فخرجت إلى صاحب لي كنت أستريح إليه، فقلت: قد منع الناس ما ترى، وفينا رهط من أصحاب محمد ﷺ، فاذهب بنا إليهم، فدخلنا على أبي موسى، وهو أمير الكوفة، فكان قوله نهياً عن الفتنة، والأمر بالجلوس في البيوت.
وأخرج الطبري في قصة قدوم ابن عبّاس والأشتر إلى الكوفة لاستنفار الناس: أنّ أبا موسى قام ـ وكان يومها أميراً على الكوفة ـ فدعا الناس إلى لزوم البيوت، ووضع السيوف في أغمادها، وكان مما قاله يومئذ:... فإنها فتنة صمّاء، النّائم فيها خير من اليقظان، واليقظان فيها خير من القاعد، والقاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، فكونوا جرثومة من جراثيم العرب، فاغمدوا السيوف، وأنصلوا الأسنّة واقطعوا الأوتار، وآووا المظلوم المضطهد، حتى يلتئم الأمر وتنجلي هذه الفتنة.
وقال أيضاً: إنّ الفتنة إذا أقبلت شبهت، وإذا أدبرت تبينت، وإن هذه الفتنة باقرة كداء البطن، تجري بها الشمال والجنوب والصّبا والدبور، فتسكن أحياناً، فلا يدرى من أين يؤتى، تذر الحليم كابن أمس، شيموا سيوفكم، وقصّوا رماحكم، وأرسلوا سهامكم، واقطعوا أوتاركم، والزموا بيوتكم.
وكان أبو موسى يستدل لموقفه بما رواه عن رسول الله ﷺ من النهي عن الدخول في الفتنة والأمر بتكسير القسيّ، وتقطيع الأوتار، وضرب السيوف بالحجارة، والرضا بمنزلة ابن آدم المقتول، فعن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله ﷺ قال: «إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً، ويمسي كافراً، ويُمسي مؤمناً، ويصبح كافراً، القاعد فيها خير من القائم، والماشي فيها خير من الساعي، فاكسروا قسيكم، واقطعوا أوتاركم، واضربوا بسيوفكم بالحجارة، فإن دخل ـ يعني على أحد منكم ـ فليكن كخير ابن آدم».
4- عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
قالت عائشة رضي الله عنها: ما أعلم رجلاً سلمه الله من أمور الناس واستقام على طريقة من كان قبله استقامة عبد الله بن عمر. وعن سعيد بن جبير قال: خرج علينا عبد الله بن عمر، فرجونا أن يحُدّثنا حديثاً حسناً، قال: فبادرنا إليه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن! حدّثنا عن القتال في الفتنة، والله يقول: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ [البقرة: 193]. فقال: هل تدري ما الفتنة ثكلتك أمّك؟! إنمّا كان محمد يقاتل المشركين، وكان الدخول في دينهم فتنة، وليس كقتالكم على المُلك.
وعن نافع: أن رجلاً قال لابن عمر: يا أبا عبد الرحمن، ألا تسمع قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ﴾ [الحجرات: 9].
فقال: لأن أعتبر بهذه الآية فلا أقاتل، أحبّ إليّ من أن أعتبر بالآية التي يقول فيها: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ﴾ [النساء: 93]، ألا ترى أن الله يقول: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ [البقرة: 193]. قد فعلنا على عهد رسول الله ﷺ إذ كان الإسلام قليلاً، وكان الرّجل يفتن في دينه، إمّا أن يقتلوه، وإمّا أن يسترقّوه، حتى كثر الإسلام، فلم تكن فتنة.
وقد ورد أن أمير المؤمنين علي حَمِد لابن عمر وسعد بن أبي وقاص هذه المنزلة التي ارتضياها، إذ قال: لله در مقام قامه سعد بن مالك وعبد الله بن عمر، إن كان براً إنّ أجره لعظيم، وإن كان إثماً إنّ خطأه ليسير.
وفي رواية: لله درّ منزل نزله سعد بن مالك وعبد الله بن عمر، والله إن كان ذنباً إنه لصغير مغفور، ولئن كان حسناً إنّه لعظيم مشكور.
وقال الخطابي: وكان ابن عمر من أشدِّ الصحابة حذراً من الوقوع في الفتن، وأكثرهم تحذيراً للنّاس من الدّخول فيها، وبقي إلى أيام فتنة ابن الزّبير فلم يقاتل معه، ولم يدافع عنه، إلاّ أنّه كان يشهد الصلاة معه، فإذا فاتته صلاّها مع الحجّاج، وكان يقول: إذا دعونا إلى الله أجبناهم، وإذا دعونا إلى الشّيطان تركناهم.
قال ابن تيمية: ومن حين مات عثمان تفرق الناس، وعبد الله بن عمر الرجل الصّالح لحق بمكّة، ولم يزل معتزل الفتنة، حتى اجتمع الناس على معاوية، مع محَبّته لعليّ، ورؤيته له أنّه هو المستحق للخلافة، وتعظيماً له، وموالاته له، وذمّه لمن يطعن عليه، ولكن كان لا يرى الدّخول في القتال بين المسلمين، ولم يمتنع عن موافقة علي إلا في القتال.
5- سلمة بن الأكوع رضي الله عنه:
لما قُتل عُثمان بن عفان خرج سلمة بن الأكوع إلى الرّبذة وتزوج هناك امرأة، وولدت له أولاداً، فلم يزل بها حتى أقبل قبل أن يموت بليال فنزل المدينة.
6- عمران بن حصين رضي الله عنه:
قال عنه الذهبي: كان ممن اعتزل الفتنة ولم يقاتل مع علي. وعن حميد بن هلال قال: لما هاجت الفتن، قال عمران بن حصين لحجير بن الربيع العدوي: اذهب إلى قومك فانههم عن الفتنة. قال: إني لمغمور فيهم وما أطاع؛ فأبلغهم عنّي وانههم عنها. قال: وسمعت عمران يقسم بالله: لأن أكون عبداً حبشياً أسود في أعنز حصبات، في رأس جبل أرعاهنّ حتَّى يدركني أجلي؛ أحبّ إليّ أن أرمي أحد الصفّين بسهم أخطأت أم أصبت.
7- سعيد بن العاص الأموي رضي الله عنه:
قال الذهبي: وقد اعتزل الفتنة فأحسن، ولم يقاتل مع معاوية، ولما صفا الأمر لمعاوية وفد سعيد إليه، فاحترمه وأجازه بمال جزيل. وقال ابن كثير: فلما مات عثمان اعتزل الفتنة، فلم يشهد الجمل ولا صفين، فلما استقر الأمر لمعاوية وفد إليه. ولم يعتزل سعيد وحده بل تابعه قوم، اعتزلوا باعتزاله، حتى مضت الجمل وصفين.
8- أسامة بن زيد رضي الله عنهما:
قال الذهبي: انتفع أسامة من قول النبي ﷺ، إذ يقول له: «كيف بلا إله إلا الله يا أسامة؟!»، فكف يده، ولزم منزله، فأحسن. ويريد الذهبي بذلك ما رواه أسامة بن زيد؛ حيث قال: بعثني رسول الله ﷺ في سرية، فاستبقنا أنا ورجل من الأنصار إلى العدو، فحملت على رجل، فلما دنوت منه كبّر، وطعنته فقتلته، ورأينا أنما فعل ذلك ليحرز دمه، وذكر الحديث، وفيه: كيف؟! فقال ـ يعني النبي ﷺ: «يا أسامة من لك بلا إله إلا الله؟!» فقلنا: يا رسول الله، إنما قالها تعوُّذاً من القتل. قال: «من لك يا أسامة بلا إله إلا الله؟!» فما زال يردِّدها حتى قال أسامة: لوددت أنَّ ما مضى من إسلامي لم يكن، وإني أسلمت يومئذ، ولم أقتله. ثم قال: إني أعطي لله عهداً ـ ألا أقتل رجلاً يقول: لا إله إلا الله، أبداً. فقال النبي ﷺ: «بعدي يا أسامة؟» قال: بعدك.
وعن حرملة، أنه قال: أرسلني أسامة إلى علي، وقال: إنه سيسألك الآن، فيقول: ما خلف صاحبك؟ فقل له: يقول لك: لو كنت في شدق الأسد، لأحببت أن أكون معك فيه، ولكن هذا أمر لم أره. قال ابن حجر: فاعتذر بأنه لم يتخلف ضناً منه بنفسه عن علي، ولا كراهة له، وإنه لو كان في أشد الأماكن هولاً لأحب أن يكون معه فيه ويواسيه بنفسه، ولكنه إنما تخلف لأجل كراهيته في قتال المسلمين. وفي رواية أخرى عند الذهبي: عن الزهري قال: لقي علي أسامة بن زيد، فقال: ما كنا نعدك إلا من أنفسنا يا أسامة، فلم لا تدخل معنا؟ قال: يا أبا حسن! إنك والله لو أخذت بمشفر الأسد، لأخذت بمشفره الآخر معك، حتى نهلك جميعاً أو نحيا جميعاً، فأما هذا الأمر الذي أنت فيه، فو الله لا أدخل فيه أبداً.
9- عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما:
فقد ورد عنه: أنه لما سُئل عن خروجه مع معاوية وأبيه إلى صفين، أنه لم يخرج لقتال، وإنما خرج طاعة لأبيه، فعن حنظلة بن خويلد العنبري، قال: بينما أنا عند معاوية، إذ جاءه رجلان يختصمان في رأس عمار، فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال عبد الله بن عمرو: ليطب به أحدكما نفساً لصاحبه، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «تقتله الفئة الباغية»، فقال معاوية: يا عمرو، ألا تغني عنا مجـنونك، فما بالك معنا؟ قال: إن أبي شكاني إلى رسول الله ﷺ فقال: «أطع أباك ما دام حياً»، فأنا معكم ولست أقاتـل، وورد ما يـدل على ندمه على حضوره صفين، فقد أخرج ابن سعد بسنده عن ابن أبي مليكة، قال: قال عبد الله بن عمـرو: ما لي ولصفين، ما لي ولقتال المسلمين؟! لوددت أني مت قبلها بعشر سنين ـ أما والله على ذلك ـ ما ضربت بسيفي، ولا رميت بسهم.
10- صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه:
قال الذهبي: وكان ممن اعتزل الفتنة وأقبل على شأنه. وعن جعفر بن برقان: أن ميمون بن مهران ذكر أصناف الناس وخلافهم في أمر عثمان وطلحة والزبير ومعاوية، وكان مما قاله: وأما من لزم؛ فمنهم سعد بن أبي وقاص، وأبو أيوب الأنصاري، وعبد الله بن عمر، وأسامه بن زيد، وحبيب بن سلمة الفهري، وصهيب بن سنان، ومحمد بن مسلمة في أكثر من عشرة آلاف من أصحاب رسول الله ﷺ، والتابعين لهم بإحسان، قالوا جميعاً: نتولى عثمان وعلياً، ولا نتبرأ منهما، ونشهد عليهما وعلى شيعتهما بالإيمان ونرجو لهم، ونخاف عليهم.
11- أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه:
أخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وخليفة بن خياط في تاريخه، وابن سعد في الطبقات عن شعبة قال: سألت الحكم: هل حضر أبو أيوب صفين؟ قال: لا، ولكن شهد يوم النهر موقعة النهروان.
12- أبو هريرة رضي الله عنه:
فقد ورد أنه لم يشارك في الجمل ولا صفين، وهو أحد رواة أحاديث النهي عن الدخول في الفتنة؛ فقد قال: قال رسول لله ﷺ: «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ومن تشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذ به».
13- عبد الله بن سعد بن أبي السرح رضي الله عنه:
قال الذهبي: ولي مصر لعثمان، وقيل: شهد صفين، والظاهر أنه اعتزل الفتنة وانزوى إلى الرملة.
هذا غيض من فيض، وقليل من كثير من أقوال الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة، فلم يشاركوا فيها، بل إن بعضهم كان يحذِّر غيره من المشاركة، وهو اقتناع تكوَّن لديهم، من خلال الأحاديث التي رووها، والتي فيها النهي عن الدخول في الفتن التي تقع بين المسلمين، وقد فرّق هؤلاء الصحابة بين قتال الخوارج والقتال في الجمل وصفين، فقد شارك في قتال الخوارج كأبي برزة وأبي أيوب الأنصاري، وهما من اعتزل الفتنة بين المسلمين في الجمل وصفين. وأيضاً فإن هؤلاء الصحابة الذين اعتزلوا سرعان ما بايعوا معاوية، بعد أن تنازل له الحسن بن علي رضي الله عنه عن الخلافة واجتمعت عليه كلمة الأمّة. وقال ابن حجر: وبايع معاوية كل من كان معتزلاً للقتال؛ كابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة.
إن الذي نفهمه من خلال هذه النصوص التي أوردناها أن علّة كفّ هؤلاء الصّحابة عن الدّخول مع أحد الطرفين، قد يكون لأن الأمور كانت مشتبهة عليهم ـ كما قال النووي ـ فلم يتبينوا المحق من المُبطل، كما يظهر من كلام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقد يكون أنّهم لم يكونوا يرون أن القتال هو الحلّ الوحيد لهذه المشكلة، لأن الصلح خير، ومن الصلح أن يتم التنازل عن بعض الحق، جمعاً لكلمة المسلمين، ولعلنا نلمح من كلام أسامة رضي الله عنه شيئاً من هذا التوجيه، فقد اعتذر لأمير المؤمنين علي بأنه لا يرى القتال معه في هذا السّبيل، رغم اعترافه بإمامته وفضله.
وقد تحدث العلماء في أعذار المعتزلين:
أ ـ قال القرطبي: وقيل: من توقف من الصحابة حملوا الأحاديث الواردة بالكف على عمومها، فاجتنبوا ما وقع بين الصحابة من الخلاف والقتال.
ب ـ قال ابن حزم: وأما من وقف فلا حجة له أكثر من أنه لم يتبين له الحق، ومن لم يتبين له الحق فلا سبيل إلى مناظرته بأكثر من أن نبين له وجه الحق حتى يراه.
ت ـ وقال ابن حجر: والحق حمْل عمل كل أحد من الصحابة المذكورين على السداد، فمن لابس القتال اتَّضح له الدليل، لثبوت الأمر بقتال الفئة الباغية، وكانت له القدرة على ذلك، ومن قعد لم يتَّضح له أي الفئتين هي الباغية، وإذا لم يكن له القدرة على القتال. وقد وقع لخزيمة بن ثابت أنه كان مع علي، وكان مع ذلك لا يقاتل، فلما قتل عمار قاتل حينئذ، وحدث بحديث: «يقتل عمار الفئة الباغية». أخرجه أحمد وغيره.
د ـ وقال الجصاص: فإن قيل: قد جلس عن علي جماعة من أصحاب النبي ﷺ، منهم: سعد، ومحمد بن مسلمة، وأسامة بن زيد، وابن عمر! قيل له: لم يقعدوا عنه لأنهم لم يروا قتال الفئة الباغية، وجائز أن يكون قعودهم عنه لأنهم رأوا الإمام مكتفياً بمن معه، مستغنياً عنهم بأصحابه، فاستجازوا القعود عنه لذلك، ألا ترى أنهم قعدوا عن قتال الخوارج لا على أنهم لم يروا قتالهم واجباً، لكن لما وجدوا من كفاهم قتل الخوارج استغنوا عن مباشرة القتال.

يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022