الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

من كتاب مع الله
(الله السبوح)
مع فضيلة الشيخ الدكتور سلمان العودة (حفظه الله)
الحلقة: 85
صفر 1442ه/ أكتوبر 2020م
التسبيح: التنزيه
سبحان الله: أي: تنزيهه من الصاحبة والولد، ومن كل نقص وعيب.
و«السُّبُّوح» هو سبحانه من بَعُدَ أن يكون له شريك أو نِدٌّ أو مثيل أو ضد، فله أوصاف الكمال والجمال بلا نقص، وتقدَّست أفعاله عن الشرِّ والسوء.
وقد ورد هذا الاسم «السُّبُّوح» في السنة من حديث عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند ركوعه وسجوده: «سُبُّوح قدوس رب الملائكة والروح».
فـ «السُّبُّوح» هو المُنَزَّهُ عن كل سوء، وعن المعائب والصفات التي تَعْتَوِر المُحْدَثين من ناحية الحدث.
و«السُّبُّوح» الذي تُسَبِّحه ألسنة الخلق، وهو يُسَبِّح نفسه، كما في غير موضع من كتاب الله تعالى، ومنها سور المُسَبِّحات، وما كان من تسبيح النبي صلى الله عليه وسلم لربه، وهذا باب يطول وقد صنَّف أهل العلم كتبًا خاصة في ألوان التسبيح وذكر الله تعالى، كما في «الأذكار» للنووي.
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم خَرَجَ من عند زوجه جويرية رضي الله عنها بكرةً حين صلى الصبح وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة، فقال: «ما زلتِ على الحال التي فارقتك عليها؟». قالت: نعم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد قلتُ بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وُزِنَتْ بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته». فيسبح الله تعالى معترفًا بحمده، مُدْرِكًا أن التسبيح من فضله جل وتعالى، جاعلًا التسبيح مقرونًا بالحمد فيقول: «سبحان الله وبحمده عدد خلقه».
و«رضا نفسه» أي: تسبيحًا يصل إلى مرضاته، وأقصى ما يريده العبد ويتطلع إليه أن ينال رضا ربه تبارك وتعالى، فإذا قال: «سبحان الله وبحمده رضا نفسه»، أي: سبحانك يا ربي حتى ترضى. وهذا تسبيح عظيم يمتد ويستمر ويعظم إلى أن يصل إلى رضوان الله تبارك وتعالى.
و«زِنَةَ عرشه» وعرش الله عز وجل العظيم لا يَقْدُر قَدْره إلا الله تعالى، ولا يحيط الخلق به علمًا في عظمته وسَعته وزِنته، فإذا سبَّح العبدُ ربَّه بزِنة هذا العرش، فكم تكون عظمة هذا التسبيح، وكثرة الثواب المترتب عليه؟
و«مداد كلماته» أي: بقدر المداد الذي تكتب به كلمات الله تبارك وتعالى، وكلمات الله تعالى نوعان:
الكلمات الشرعية: التي بها الأمر والنهي، والتحليل والتحريم، والشرع مما أنزل الله تعالى على رسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام جميعًا، كالتوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن، والصحف التي أنزلها الله تعالى على إبراهيم، فهذه كلمات الله الشرعية التي بها الأمر والنهي والتشريع.
النوع الثاني من كلماته: الكلمات القدرية: التي بها يخلق تعالى ويرزق، ويحيي ويميت، ويرفع ويخفض، ويقبض ويبسط، كما قال سبحانه:
﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن: 29]. والله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82].
فأمره كلام، وعطاؤه كلام، ومنعه كلام، ولذلك فكلمات الله تبارك وتعالى مما لا يحصيه الخلق، كما قال تعالى:
﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ [لقمان: 27]، وقال: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ [الكهف: 109].
فإذا قلت: «سبحان الله وبحمده، مداد كلماته»، سبَّحت الله سبحانه وتعالى بَقْدر المداد الذي تكتب به كلماته، مع أنه لا يأتي عليها عَدُّ الخلق ولا حصرهم.
و«سبحان الله وبحمده عدد خلقه»: وخلقه مما لا يحصيه إلا هو، في البَرِّ والبحر، والسماء والأرض، والدنيا والآخرة، من جماد، وحيوان، وإنسان، وذَرَّات، وخلايا، وما نعلم، وما لا نعلم، وما نبصر، وما لا نبصر، فهذا استيعاب لألوان التسابيح والمحامد التي فتح الله بها على سيد المسبحين صلى الله عليه وسلم.
وهذا التسبيح العظيم الجامع فيه من معاني الثناء على الله تبارك وتعالى، وتأليهه، وإثبات صفات العظمة والمجد والكبرياء له، ونفي صفات النقص والعيب والعجز عنه، فيها من ذلك الشيء العظيم، وتجد ألوانًا من التسبيح القرآني، كما يسبح الله تبارك وتعالى نفسه في قوله: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى: 1] ؛ أي: نَزِّه ربك الأعلى الذي له العلو المطلق في ذاته وصفاته، وأسمائه وقدره، وقهره وعظمته سبحانه.
وكما قال سبحانه: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [الجمعة: 1] ،
﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [الحشر: 1]،
﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: 44].
والتسبيح لله تبارك وتعالى نوعان:
الأول: التسبيح القَدَري القهري الذي بموجبه تسبح المخلوقات كلها، من الجمادات والأملاك والأفلاك، والأشجار والأحجار والجبال، والأرض والسماء والنجوم وغير ذلك، فكل هذه الأشياء تُسَبِّح الله تعالى، بل جسد الإنسان وذراته تسبح الله، فقلبه يسبح الله، ويده وجوارحه تسبح الله تبارك وتعالى، حتى الكافر، ولهذا قال الله تعالى:
﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾[الإسراء: 44].
فهذا تسبيح اضطراري قد جُبِلت عليه المخلوقات.
وقد يقول قائل: إن المقصود بهذا التسبيح أنها تطيع الله تعالى فيما خُلِقَت له، فتسبيح الشمس هو طلوعها وغروبها، وتسبيح القمر مثل ذلك، وتسبيح النجوم بسيرها في مداراتها.
وهذا معنى محتمل، وهو بذاته صحيح، وهذا من التسبيح، ولكن هذا لا يعارض أن يكون لهذه المخلوقات تسبيح آخر مما لا يفقهه الناس، ولهذا قال سبحانه: ﴿وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾، بينما الناس يفقهون بعض هذا التسبيح الذي هو تسخيرها في مصالح الناس ومنافع العباد، ولا تَعَارُض بين هذا وذاك.
وأما النوع الثاني: فهو التسبيح الاختياري الذي يسبح المؤمنون به ربهم، فيُثْنُون عليه بصفاته وأسمائه وأفعاله جل وتعالى.
والمؤمن يسبِّح ربه تبارك وتعالى في ركوعه، فيقول: «سبحان ربي العظيم»، وهذا أن ينحني انحناءة العبودية لله عز وجل، ويسبحه في سجوده بعدما يُعَفِّر حُرَّ وجهه؛ خضوعًا وتعظيمًا لهذا الرب العظيم، فيقول: «سبحان ربي الأعلى»، وقارن بين خضوعه وسجوده في الأسفل على الأرض، وبين تعظيمه لربه الأعلى جل وتعالى، وكذلك يقرأ القرآن الذي فيه من أنواع التسبيح لله تعالى ما لا يطيقه الناس، إلا أن يُقْدِرَهم الله تعالى عليه ويُعَلِّمهم إياه، ويسبح ربه بما سبحه به نبيه صلى الله عليه وسلم من جنس ما ذكرنا وأشرنا:
﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ [الروم: 17-18].
فهو المُسَبَّح المُقَدَّس، المُبَرَّأُ من النقائص، والمُنَزَّه عن الشريك، وعن كل ما لا يليق بألوهيته.
يسبحه من في السماوات والأرض بمختلف الأصوات واللغات:
﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾[الإسراء: 44]، ﴿ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ﴾ [سبأ: 10]؛ أي: سبِّحي مع داود.
فسبحانه تسبح له كل الكائنات وتسجد له: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ [الحج: 18].
يمكنكم تحميل كتاب مع الله للدكتور سلمان العودة (حفظه الله) من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي على الرابط التالي :


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022