الكعبة الحرام (2)
الحلقة 117 من كتاب
مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
رجب 1443 هــ / فبراير 2022
- قدسية الكعبة:
ويأتي الإسلام، فيزيد هذه الكعبة قدسية ومكانة ومهابة، حتى يأمر الله تعالى المسلمين بأن ينصرفوا في صلاتهم إليها بعد ما طال انتظار النبي صلى الله عليه وسلم، ورأى ربه جل وعز تقلب وجهه في السماء فولَّاه القبلة التي يرضاها وهي الكعبة، وجعل الطواف بها من العبادات المقربة إليه، بل جعله ركنًا في الحج والعمرة، لا يصح الحج والعمرة إلا بذلك، ولا يستلم في الدنيا بيت ولا يطاف به إلا الكعبة البيت الحرام.
جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة الصديقة: «تَعَالَيْ أُرِيكِ». فخرج بها، وأوقفها عند الكعبة، وبيَّن لها أن الحِجْر وهو البناء الذي يقع إلى شمال الكعبة وليس ملصقًا بها أنه من الكعبة، وأن قريشًا لما هموا ببنائها قصرت بهم النفقة، ولم يجدوا ما يكفي في بناء الكعبة كلها، فبنوا جزءًا منها، وتركوا الحِجْر خارج الكعبة وهو نحو ستة أو سبعة أذرع، وكان من ضمن بناء الكعبة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «لَوْلا أنَّ قَوْمَكِ حدِيثُ عهْدٍ بجاهِلِيةٍ- زاد في رواية: فأخافُ أنْ تُنْكِر قُلُوبُهُمْ- لأمرْتُ بِالْبَيْتِ فهُدِم فأدْخلْتُ فِيهِ ما أُخْرِج مِنْهُ وألْزقْتُهُ بِالْأرْضِ وجعلْتُ لهُ بابيْنِ بابًا شرْقِيًّا وبابًا غرْبِيًّا». وفي لفظ: «وَلَجَعَلْتُ لَهَا بَابًا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ، وبابًا يخْرُجُون مِنْهُ». وفي لفظ: «فبلغْتُ بِهِ أسَاسَ إِبْراهِيمَ».
وفي رواية: «وَهَلْ تدْرِينَ لِمَ كَانَ قوْمُكِ رَفَعُوا بَابَهَا؟». قالتْ: قُلْتُ: لا. قال: «تَعَزُّزًا ألا يدْخُلَها إِلَّا مَنْ أرَادُوا؛ فكان الرجُلُ إِذا هُو أرَادَ أنْ يدْخُلَها يَدَعُونهُ يرْتقِي، حتَّى إِذا كادَ أنْ يدْخُلَ دفعُوهُ فَسَقَطَ». وفي لفظ: «فَعَلَ ذاك قوْمُكِ لِيُدْخِلُوا منْ شاءُوا ويمْنعُوا منْ شاءُوا».
فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم هذا البيان لعائشة وفيه عبر ودروس:
أولًا: ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء الكعبة بعد الإسلام كما هي، وعلل ذلك بقوله: «فأخافُ أنْ تُنْكِر قُلُوبُهُمْ».
لقد كان صلى الله عليه وسلم حريصًا على إيمان الناس وعلى قلوب الناس وسكينتهم، وهذا مما خص به صلى الله عليه وسلم في حسن سياسة الأمور والتأتي بالناس وعظيم الرفق بهم، فقد خاف أن تنكر قلوب الناس، أو يظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا من باب الفخر والجاه، وهو أبعد ما يكون عن ذلك صلى الله عليه وسلم، ولذلك ترك الكعبة كما هي، ولم يحدث فيها شيئًا.
وهذا دليل عظيم على حسن الاختيار؛ أي أن الإنسان قد يكون أمامه أكثر من خيار، وكلها شرعية، فبناء الكعبة على قواعد إبراهيم هو خيار شرعي، ولهذا علّمه النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة، وتَرْكُ الكعبة كما هي دون تعديل خيار شرعي آخر، والنبي صلى الله عليه وسلم اختار الثاني من حيث الفعل، واختار الأول من حيث البيان؛ لتقوم بذلك معرفة الناس بهذه القاعدة، بمعنى أن الإنسان قد يترك الشيء الذي هو في الأصل فاضل ومشروع، وإنما تركه لرعاية مصلحة أخرى أعظم من ذلك.
وهكذا النبي صلى الله عليه وسلم حينما ترك قتل المنافقين، وعلل ذلك: «لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أصحابَه».
وهذه قاعدة شرعية عظيمة جدًّا في حسن الاختيار؛ لأن الله تعالى علم أن الأمم تتغير أحوالها وظروفها وأزمنتها، ويمر بالناس أوقات حضارة وتقدم، وضعف وتخلف، وأوقات كثرة وقلة، وأوقات غناء وفقر، ولا تسع الناس طريقة واحدة.
ولهذا جعل الله تعالى هذه السعة حتى قال الله سبحانه: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾ [الزمر: 18].
ولهذا نستطيع أن نقول: إن من أعظم الفقه فقه الاختيار. أي أن يختار الإنسان من الأقوال والأحوال والأعمال والفتاوى ما يكون مناسبًا للمقام، وقد يجد الإنسان أن أمامه ألوانًا من الحق، ولهذا كان هذا من أعظم الحكمة المتضمنة في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ [الزمر: 18].
والقول قد يكون هو الوحي في أحد المعاني، وكله حسن، لكن الحسن وزيادة الحسن مرتبطة بحالات؛ منها: مراعاة الظرف، ومراعاة المكان، ومراعاة الناس وما يناسبهم وما يصلحهم: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت: 35].
ثانيًا: بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الكعبة أوسع مما هي عليه، وأن الحِجْر يدخل في الكعبة، ولهذا يطوف الناس من ورائه، ولو أن امرأً طاف ودخل إلى داخل الحِجْر، وترك الحِجْر عن يمينه لما كان طوافه مجزئًا؛ لأنه ترك جزءًا من الكعبة لم يطف به.
ثالثًا: قوله صلى الله عليه وسلم: «وَلَجَعَلْتُ لَهَا بَابًا يدْخُلُ الناسُ مِنْهُ، وَبَابًا يخْرُجُون مِنْهُ».
وهذا يؤكد على معنى عظيم، وهو أن الإسلام منذ بدايته جاء ليؤكد كل معاني المساواة بين الناس، والمساواة لا تعني ألا يحفظ لأهل القدر قدرهم؛ لأن الله تعالى خلق البشر، وفاضل بينهم في العقول والأشكال، والمفاهيم، وفي التقوى والأخلاق، ولكن الميزان الأساس في التفضيل هو التفضيل بالتقوى، وإلا فالناس في الأصل سواء، لا فرق بين عربي وعجمي، وأبيض وأسود، وغني وفقير إلا بالتقوى.
فالنبي صلى الله عليه وسلم هَمَّ بأن يسوي باب الكعبة ليكون على الأرض، وأن يكون سهلًا ليدخل الناس من هذا الباب، ويصلون في الكعبة داخلها، ويخرجون من الباب الآخر.
وقد رأى العلماء أن تظل الكعبة كما هي؛ لئلا تكون لعبة للملوك والدول: هذا يهدها وهذا يعيدها، ورأوا أن تبقى كما هي، ويكفي وجود هذا الحديث النبوي، ويكفي البناء الموجود والحِجْر لتطبيق ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم، وحتى الحِجْر هو مفتوح إلى اليوم من الطرفين، بمعنى أن أي مسلم يستطيع أن يصلِّي داخل الحِجْر، ويكون بذلك قد صلَّى داخل الكعبة وخرج من الباب الآخر.
المهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معنيًّا بالقضاء على نوع مما يسمى بالتميز الذي كانت قريش تعطيه لنفسها، فكانوا يجعلون لأنفسهم مكانة خاصة ليست للناس، حتى في الأمور التعبدية، ففي الحج كان الناس يقفون بعرفة، وقريش يرفضون ذلك ويقولون: أهل بيت الله وأهل حرمه، لا نخرج من الحرم إلى الحل، فكانوا يقفون بمزدلفة، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن موافقًا لقريش، فكان يقف بعرفة، ولما حج في الجاهلية قبل الإسلام وقف مع الناس، ولم يقف مع قريش، وهكذا نزل القرآن، وقال الله تعالى لقريش ولغيرهم:
﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ [البقرة: 199]. يعني: قفوا بعرفة كما يقف الناس، وأفيضوا معهم كما يفيضون من عرفة إلى مزدلفة، ولا تتميزوا أو تختصوا عنهم بشيء، فهذا الدين ليس دين طبقية ولا دين تمييز، فلا تميز إلا بالتقوى والعلم النافع، والإنسان كلما كان أتقى وأعلم كان أكثر تواضعًا واندماجًا مع الناس وتسامحًا معهم، وكان أكثر معرفة بعيوبه وقدر نفسه، وبهذا جاء الإسلام، وهكذا كانت أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم.
رابط تحميل كتاب مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
http://alsallabi.com/books/view/506
كما ويمكنكم تحميل جميع مؤلفات فضيلة الدكتور سلمان العودة من موقع الدكتور علي الصَّلابي الرسمي