حرمة المسلمين (1)
الحلقة 114 من كتاب
مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
رجب 1443 هــ / فبراير 2022
كأنه يرانا !
من معجزات النبوة وأسرارها العظيمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع لبعض أصحابه: «اسْتَنْصِتِ النَّاسَ». أي: اطلب من الناس أن يسكتوا؛ لأن ثمة كلامًا مهمًّا سوف يقال، فقام النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ثم صرخ بأعلى صوته: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ».
إن في هذا إشارة إلى أن من المسلمين من سوف يستحل دم أخيه المسلم بأدنى الحيل، ويتأول في ذلك، مع أن الإنسان حينما يجمع النصوص النبوية يجد أنها قد أغلقت كل الاحتمالات: «لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا»، «لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِه».
بل يكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصل قتل المسلم إلى أن يكون نوعًا من الكفر، وليس المقصود أن من قتل مسلمًا كفر، لكنه شابه الكافرين، فقد كان العرب قبل الإسلام يقتل بعضهم بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا، وهناك ألوان من العداوات والثارات معروفة في التاريخ، وما حرب داحس والغبراء أو حرب البسوس إلا نموذج لذلك، ولهذا فإن الناس الذين فقهوا هذا المعنى النبوي كان عندهم حساسية مفرطة من العدوان على أعراض المسلمين أو دمائهم، أو المشاركة في ذلك ولو بكلمة أو إشارة، والذين وعوا هذا المعنى النبوي كانوا في غاية اليقظة لذلك، يقول قائلهم:
وَلَسْتُ بِقَاتِلٍ رجـلًا يُصَلِّي *** عَلَى سُلْطَانِ آخرَ مِنْ قُرَيْشِ
لَهُ سُلْطَـانُــهُ وعَلَـيَّ إِثْمـي *** مَعَاذَ اللهِ مِنْ جَهْـلٍ وَطَيْـشِ
أأقْتُلُ مُسْلِمًا فِي غَيْـرِ جُرْمٍ *** فَلَيْسَ بِنَافِعٍ مَا عِشْتُ عَيْشِي
ولما قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، اتق الله. فقال أحد الصحابة: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ قال: «لَعَلَّهُ أنْ يَكُونَ يُصَلِّي». فالصلاة تعصم دم المسلم، وليس لك مجال للتأويل.
قال لي يومًا بعض الشباب: هؤلاء الناس منافقون. قلت: هب أنهم منافقون، هل قتل النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين؟ كلا، بل حقن دماءهم ونهى عن قتلهم وقال: «لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ».
ومن يقرأ التاريخ الإسلامي يدري أنه إلى جوار أولئك الذين فقهوا عن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، واعتبروا أن دماء المسلمين وأعراضهم حفرة من حفر النار كما صحت بمعنى ذلك النصوص، فإن هناك حالات غير قليلة من العدوان والاستهانة والاستخفاف بأعراض المسلمين بتأويلات كثيرة جدًّا، فأحيانًا يتم العدوان على دم المسلم أو عرضه من منطلق دنيوي مصلحي، فالخلافات التي شحن بها تاريخ المسلمين من القتال المذهبي، أو القتل بين الطوائف، أو القتال بين الدول، أو بين القبائل أو غير ذلك، وذهبت فيه أعداد هائلة جدًّا من الضحايا كان قتالًا في غير الحق.
ألم يقل ذاك الرجل بكل بجاحة وبذاءة وقلة أدب للنبي صلى الله عليه وسلم: اعدل يا محمد.
أو يأتي آخر والنبي صلى الله عليه وسلم يقسم فيقول: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «رَحِمَ اللهُ موسى قَدْ أُوذِيَ بِأكْثَرَ مِنْ هذا فَصَبَرَ».
أو يقول للآخر: «أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً». قال فقام رجل فقال: يا رسول الله، اتق الله. قال: «وَيْلَكَ، أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ الله؟». فيقول خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ قال: «لاَ، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي». فقال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ قُلُوبَ النَّاسِ، وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ».
ولهذا كان عمر رضي الله عنه يقول بعد ذلك: «إن أناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمَن أظهر لنا خيرًا أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومَن أظهر لنا سوءًا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة».
رابط تحميل كتاب مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
http://alsallabi.com/books/view/506
كما ويمكنكم تحميل جميع مؤلفات فضيلة الدكتور سلمان العودة من موقع الدكتور علي الصَّلابي الرسمي