(بعض ما أُخذ على الإمام أبي حنيفة)
اقتباسات من كتاب "مع الأئمة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة: الثامنة والثلاثون
ذو الحجة 1443ه/ يوليو 2022م
أولًا: تقديم القياس على الحديث الصحيح:
وهذا يردُّه كثير من الروايات التي تنص على تعظيمه للحديث وتقديمه على القياس، منها:
قال الحسن بن صالح بن حَيٍّ: «كان النعمان بن ثابت فهِمًا عالمًا متثبِّتًا في علمه، إذا صحَّ الخبر عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَعْدُهُ إلى غيره».
وتقدم قول أبي حنيفة رحمه الله: «ما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلناه على الرأس والعينين...».
وقد اشتهر من أصول أبي حنيفة أنه لا يقدِّم شيئًا على الكتاب والسنة ثم قول الصحابي، وأما ما خالف من بعض الأحاديث، فلاعتقاده أنها منسوخة أو لم تثبت عنده وثبت عنده ما يخالفها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا.
ولما قعد أبو حنيفة للتدريس، قال فيه مساورٌ الوَرَّاق:
كنا من الدِّين قبلَ اليوم في سَعَةٍ *** حتى بُلِينا بأصحاب المَقاييسِ
قَومٌ إذا اجتمعوا صاحوا كأنهم *** ثَعالِبٌ ضَبَحَتْ بين النَّوَاوِيسِ
فبلغ ذلك أبا حنيفة فبعث إليه بمال، فقال مُساورٌ حين قبض المال:
إذا ما النَّاسُ يومًا قايَسُونَا *** بآبِدَةٍ منَ الفُتْيَا طَرِيفَهْ
أتيناهمْ بمِقْيَاسٍ صحيحٍ *** مُصِيبٍ من طراز أبي حنيفهْ
إذا سَمِعَ الفَقِيهُ بها وَعاهَا *** وأَثبتها بحِبْرٍ في صَحِيفَهْ
ثانيًا: الضعف في الحديث:
وقد اختلف أئمة الحديث في الاحتجاج بحديث الإمام أبي حنيفة، فمنهم مَن قَبِل حديثه، ورأى أنه حُجَّة فيما يرويه.
وهذا منقول عن يحيى بن مَعِين، وعلي بن المديني، وشعبة بن الحجَّاج.
ومنهم مَن ضعَّفه ولم يحتجَّ بحديثه؛ لكثرة غلطه وعدم ضبطه.
قال الذهبيُّ: «لم يصرف الإمامُ همَّته لضبط الألفاظ والإسناد، وإنما كانت همَّته القرآن والفقه، وكذلك حالُ كلِّ مَن أقبل على فنٍّ؛ فإنه يُقصِّر عن غيره، من ثَمَّ ليَّنوا حديثَ جماعة من أئمة القُرَّاء، كحفص وقالون، وحديثَ جماعة من الفقهاء، كابن أبي ليلى وعثمان البَتِّي، وحديثَ جماعة من الزهَّاد، كفَرْقَدٍ السَّبَخي وشَقِيق البَلْخِي، وحديثَ جماعة من النُّحاة، وما ذاك لضعف في عدالة الرجل؛ بل لقلة إتقانه للحديث، ثم هو أنبل من أن يكذب».
ثالثًا: الإِرْجاء:
بالرغم من ثناء العلماء على الإمام أبي حنيفة رحمه الله في سَعة علمه وفقهه وورعه ومجانبته السلاطين، فقد عابوا عليه كلامًا بلغهم عنه في الإيمان، وتكلَّموا فيه من أجله، كقوله: «إن العمل لا يدخل في مسمَّى الإيمان». ومن هنا كانت نسبة أبي حنيفة إلى الإرجاء.
وهذا إرجاء مقيَّد، وليس هو الإرجاء الخالص المطلق الذي يُنسب لأصحابه أنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فبرغم موافقته لهؤلاء في عدم إدخال الأعمال في مسمَّى الإيمان، لكنه يختلف معهم اختلافًا جذريًّا؛ فهم يرون- حسبما يُنقل عنهم، ولا أعرفه يُنسب لشخص بعينه- أنه لا تضر مع الإيمان معصية، وهو يرى أن مرتكب الذنب مستحق للعقاب، وأمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، والمقصود أنه لا يجوز لنا أن نصف الإمام بالإرجاء المطلق.
ولم يختص أبو حنيفة رحمه الله بهذا المذهب وحده، بل إنه مذهب لبعض أهل العلم ممن اشتغلوا بعلم الحديث وروايته، بل إن منهم مَن روى له الشيخان- البخاري ومسلم- في «صحيحيهما».
يقول الحافظ ابن عبد البر: «ونقموا أيضًا على أبي حنيفة الإرجاء، ومن أهل العلم مَن يُنسب إلى الإرجاء كثير، لم يُعْنَ أحد بنقل قبيح ما قيل فيه، كما عنوا بذلك في أبي حنيفة لإمامته، وكان أيضًا مع هذا يُحسد ويُنسب إليه ما ليس فيه، ويُختلق عليه ما لا يليق به».
وكما قيل:
إنَّ العَرَانين تَلْقَاها مُحَسَّدةً *** ولنْ تَرَى لِلئامِ الناسِ حُسَّادَا
وقيل:
حَسَدُوا الفتى إِذْ لمْ يَنالوا سَعْيَهُ *** فالقَومُ أعْدَاءٌ لَهُ وَخُصومُ
كَضَرائِرِ الحَسناءِ قُلنَ لوَجهِها *** حَسدًا وَبَغيًا إنَّهُ لَدَميمُ
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 78-81
يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي: