(ابتلاء الإمام أحمد بن حنبل بالشهرة)
اقتباسات من كتاب "مع الأئمة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة: السابعة والسبعون
محرم 1444ه/ أغسطس 2022م
ضربت شهرة الإمام أحمد رحمه الله الآفاقَ من حيث لا يريد، وسارت بذكره الرُّكْبان، وصار محمودًا على ألسنة الصالحين والعامة، وكان يَضِيق بذلك ويقول: «قد بُليتُ بالشهرة» .
لم يكن ذلك بسبب «كاريزما» اجتماعية؛ فأحمد كان يحب الخَلْوة والعُزلة، ويكره الاختلاط الواسع بالناس، إِلَّا بقدر الحاجة، ولكن شهرته كانت بسبب حفظه الواسع، وتقواه التي هي مضرب المثل، وحاجة الناس إلى ما عنده، ثم في موقفه الاستثنائي في مواجهة السلطان الغشوم.
وكان يقول: «طُوبى لمَن أَخْمَلَ الله ذكره» .
وربما رؤي عليه الحزن أحيانًا من كثرة ذكر الناس له، وقال: «لو وجدتُ السبيل لخرجتُ؛ حتى لا يكون لي ذكر».
ومن الطريف أن الحُسين بن الحسن الرَّازي يقول: «حضرتُ بمصرَ عند بقَّالٍ، فأحسن إلينا، ثم جرى بيننا وبينه الحديثَ، فسألني عن أحمد بن حَنْبَل، فقلتُ: كتبتُ عنه. فلم يأخذ ما أعطيته، وقال: لا آخذُ ثمنَ المتاع ممن يعرف أحمد بن حنبل أو رآه».
وقال فَتْح بن نوح: سمعتُ أحمد يقول: «أشتهي ما لا يكون! أشتهي مكانًا لا يكون فيه أحدٌ من الناس» .
وقال: «رأيتُ الخَلوة أَرْوح لقلبي».
يميل الإمام بطبعه للانزواء، ويحب الخمول وعدم الذكر، ويعود المريض، ويكره المشي في الأسواق، ويُؤْثِر الوَحدة.
وكان يقول: «وَدِدتُ أَنِّي نجوتُ من هذا الأمر كَفَافًا، لا عليَّ ولا لي».
وقال له رجلٌ- كما تقدَّم-: جزاك الله عن الإسلام خيرًا. فغضب وقال له: «ومَن أنا حتى يجزيني الله عن الإسلام خيرًا؛ بل جزى الله الإسلامَ عني خيرًا».
وقال المَرُّوْذِي: «قلتُ لأبي عبد الله: إن بعضَ المحدِّثين قال لي: أبو عبد الله لم يزهد في الدراهم وحدها، قد زهد في الناس. فقال: ومَن أنا حتى أزهدَ في الناس! الناس يريدون أن يزهدون فِيَّ. وقال: أسأل الله أن يجعلنا خيرًا مما يظنُّون، ويغفرَ لنا ما لا يعلمون» .
وحين امتُحن أحمد وصبر تعلَّق الناس به، عامتهم وخاصتهم، وأصبح رمزًا عند جميعهم، حتى إنه لما عاد إلى التدريس بعد رفع المحنة كان في مجلسه زهاء خمسة آلاف أو يزيدون، منهم خمسمئة يكتبون العلم والباقون يتعلَّمون من الإمام الأدب والَهدي والسمت، كما ذكر الذهبيُّ وغيره.
والشهرة أحد مطالب النفس لدى فِئام من الناس، مثل المال والمنصب ونحوها من الحاجات الفطرية القائمة، والتي يتفاوت الناس فيها، فمنهم مَن هَمُّه المال، ومنهم مَن هَمُّه الجاه، أو المنصب، أو الشهوات... وأصل هذه الغرائز محايدة قابلة للاستخدام في الخير أو الشر.
ولكن من الناس مَن يكره شيئًا منها؛ لأنه لا يتوافق مع طبعه وميله وما نذر نفسه له، كأن يكره مخالطة الناس والاحتكاك الدائم بهم؛ لأنه يُوحِش قلبه، ويُعَرِّضه لكلام لا يحتمله، إما من شدة المدح والثناء، أو شدة الذم والتنقُّص، والغالب أن المرء إذا اشتهر ابتُلي بهما معًا، فلا يزال يَعْرِض له مَن يمدحه بما ليس فيه، أو يذمُّه بما ليس فيه، فيُؤْثِر السلامة والعافية، ويزيد هذا مع تقدم العمر والإحساس بالرغبة في التعبد والنُّسُك والربانية.
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 155-157
يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي: