(صور من زهد الإمام أحمد بن حنبل)
اقتباسات من كتاب "مع الأئمة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة: التاسعة والسبعون
محرم 1444ه/ أغسطس 2022م
قضى رحمه الله حياته كلها فقيرًا، وكان يحب التواضع والبَذَاذة، وقد عُرضت عليه أُعطيات كثيرة من التجار ومن السلاطين، فكان لا يقبل شيئًا من ذلك قط، مهما كان به من حاجة.
قال إسحاق بن رَاهُويه: «لما خرج أحمد بن حنبل إلى عبد الرزاق، انقطعت به النفقة، فأَكْرَى نفسه من بعض الحمالين إلى أن وافى صنعاء، وقد كان أصحابه عرضوا عليه المواساة، فلم يقبل من أحد شيئًا».
وأعطاه عبد الرزاق بعض الدنانير، فلم يقبلها منه، وقال: «أنا بخير».
قال عبد الرزاق: بلغني أن نفقته نفدت، فأخذتُ بيده، فأقمته خلف الباب، وما معنا أحدٌ، فقلتُ له: إنه لا تجتمع عندنا الدنانير، إذا بعنا الغلَّة أشغلناها في شيء، وقد وجدتُ عند النساء عشرةَ دنانير، فخذها، وأرجو أن لا تُنفقها حتى يَتَهيَّأ شيءٌ. فقال لي: يا أبا بكر، لو قبلتُ من أحد شيئًا، قبلتُ منك».
قال عبد الله: قلتُ لأبي: بلغني أن عبد الرزاق عرض عليك دنانير؟ قال: نعم، وأعطاني يزيد بن هارون خمسمئة درهم، فلم أقبل».
وقال محمد بن سعيد التِّرمذيُّ: «قدم صديقٌ لنا من خُرَاسان، فقال: إني اتخذتُ بضاعة ونويتُ أن أجعل ربحها لأحمد بن حنبل، فخرج ربحها عشرة آلاف درهم، فأردتُ حملها إليه، ثم قلتُ: حتى أذهب إليه فأنظر كيف الأمر عنده، فذهبتُ إليه فسلمتُ عليه، فقلتُ: فلان. فَعَرَفَه. فقلتُ: إنه أبضع بضاعة وجعل ربحها لك، وهو عشرة آلاف درهم. فقال: جزاه الله عن العناية خيرًا، نحن في غنى وسعة. وأَبَى أن يأخذها».
وقال صالحٌ: «دخلتُ على أبي في أيام الواثق- والله يعلمُ في أيِّ حالةٍ نحن- وقد خرج لصلاة العصر، وقد كان له لِبَدٌ يجلسُ عليها، قد أتت عليه سنونَ كثيرةٌ حتى قد بَلِيَ، فإذا تحته كتابٌ كاغدٌ، وإذا فيه: بلغني يا أبا عبد الله ما أنت فيه من الضِّيق، وما عليك من الدَّيْن، وقد وجَّهْتُ إليك بأربعة آلاف درهم على يدي فلان لتقضيَ بها دينك وتوسِّعَ بها على عيالك، وما هي من صدقة ولا زكاة، وإنما هو شيءٌ ورثته من أبي. فقرأتُ الكتابَ ووضعتُهُ، فلما دخل قلتُ: يا أبتِ، ما هذا الكتابُ؟ فاحمرَّ وجهه، وقال: رفعتُه منك. ثم قال: تذهبُ بجوابه. فكتب إلى الرجل: وصل كتابك إليَّ، ونحن في عافية، فأما الدَّيْنُ فإنه لرجل لا يُرْهِقُنا، وأما عيالُنا فهم في نعمة والحمدُ لله. فذهبتُ بالكتاب إلى الرجل الذي كان أوصل كتاب الرجل، فقال: ويحكَ! لو أن أبا عبد الله قبل هذا الشيء، ورمى به مِثْلًا في الدِّجْلة كان مأجورًا؛ لأن هذا رجلٌ لا يُعرفُ له معروف. فلما كان بعد حينٍ ورد كتابُ الرجل بمثل ذلك، فردَّ عليه الجواب بمثل ما ردَّ، فلما مضت سنةٌ أو أقلُّ أو أكثرُ ذكرناها، فقال: لو كنا قبلناها كانت قد ذهبت!».
وقال حنبل بن إسحاق: «جاء يعقوب؛ أحد حُجَّاب المتوكِّل، فاستأذن على أبي عبد الله، فدخل، ودخل أبي وأنا، ومع بعض غلمانه بَدْرَةٌ على بغل، ومعه كتاب المتوكِّل، فقرأه على أبي عبد الله: إنه صحَّ عند أمير المؤمنين براءة ساحتك، وقد وجَّه إليك بهذا المال تستعين به. فأَبَى أن يقبله، وقال: ما لي إليه حاجة. فقال: يا أبا عبد الله، اقبل من أمير المؤمنين ما أمرك به، فإنه خير لك عنده، فإنك إن ردَدَّته، خفتُ أن يظن بك سوءًا. فحينئذ قَبِلها. فلما خرج، قال: يا أبا علي، قلتُ: لبيك. قال: ارفع هذه الإنجانة، وضعها- يعني: البَدْرة- تحتها. ففعلتُ وخرجنا. فلما كان من الليل، إذا أم ولد أبي عبد الله تدق علينا الحائط، فقالت: مولاي يدعو عمه. فأعلمتُ أبي، وخرجنا، فدخلنا على أبي عبد الله، وذلك في جوف الليل، فقال: يا عم، ما أخذني النوم. قال: ولم؟ قال: لهذا المال، وجعل يتوجَّع لأخذه، وأبي يسكِّنه ويسهِّل عليه. وقال: حتى تصبح وترى فيه رأيك، فإن هذا ليل، والناس في المنازل. فأَمْسَك وخرجنا. فلما كان من السَّحر، وجَّه إلى عُبْدُوس بن مالك، وإلى الحسن بن البزَّار، فحضرا وحضر جماعة، منهم: هارون الحمَّال وأحمد بن مَنِيع وابن الدَّوْرَقي وأبي وأنا وصالح وعبد الله، وجعلنا نكتب مَن يذكرونه من أهل السِّتر والصلاح ببغداد والكوفة. فوجَّه منها إلى أبي كُريب، وللأشجِّ وإلى مَن يعلمون حاجته، ففرَّقها كلها ما بين الخمسين إلى المئة وإلى المئتين، فما بقي في الكيس درهم، ثم تصدَّق بالكيس على مسكين!».
حتى الكيس نفسه!
ولما مات الإمام أحمد بعث ابنُ طاهر بكفن وحَنُوطٍ، فأبى صالح ولد الإمام أحمد أن يقبلها، وقال: «إن أبا عبد الله قد أعدَّ كفنه وحَنُوطه». فردَّ صالحٌ ما بعث به ابنُ طاهر، فردَّ ابنُ طاهر مرةً أخرى، وقال: إني أكره أن يجد أميرُ المؤمنين عليَّ! فقال صالحٌ: «إن أميرَ المؤمنينَ أَعْفَى أبا عبد الله مما يكره، وهذا مما يكره، فلستُ أقبله». فردَّه صالح.
كان الإمام أحمد يقول لولده صالح: «إن كانت والدتك- وكان يحبها كثيرًا ويتذكَّرها وكانت قد ماتت قبله- في الغلاء تغزل غزلًا دقيقًا، فتبيع الأستار بدرهمين أو نحوه، فكان ذلك قوتنا».
وكان يقول: «أنا أفرح إذا لم يكن عندي شيء».
وبلغ من ورع الإمام وزهده أن نهى ولديه وعمَّه عن أن يأخذوا شيئًا من أُعطيات السلاطين، وكان صالح قد وليَ القضاءَ وأخذ بعض المال، فكان أحمد لا يأكل من طعامه، من باب الورع، ولأنه يرى أن في هذه الأموال شبهة، ولما أخذ أولاده بعض ذلك عاتبهم فاعتذروا، وقالوا: احتجنا يا أبانا. فهجرهم.
ولما مرض وصفوا له بعض القرع الذي يُشوى ويُؤخذ ماؤه، فلما جاؤوا بهذا القرع، قال بعض الحضور: اجعلوها في تَنُّوْرِ صالحٍ؛ لأن تنورَ صالحٍ قد أُوقد وحَمِي، فكان الإمام أحمد يقول بيده هكذا: لا.. لا. أي: لا تجعلوها في تنور صالح؛ لأنه يأخذ من السلطان.
وكان لعمه غلام يجلس عند الإمام أحمد، فربما حرَّك عليه المِرْوَحة يروِّح عنه، فأبغض الإمام أحمد ذلك؛ لأنه يخشى أن يكون عمه اشترى هذا العبد من أُعطيات السلطان.
لم يكن يحرِّم الحلال، ولا يضيِّق على الناس، ولكنه كان في خاصة نفسه ومَن يعول يتَّخذ مَسْلَكَ الورع والتقوى والاحتياط والتعفُّف، والبعد حتى عن أقل القليل من ذلك.
وكان هذا الموقِف الصارم تعبيرًا شخصيًّا عن رفض مسلك الخلفاء في اجتياح المال العام وتوظيفه في كسب الولاء!
وهذه طرائق في السلوك تختلف مقاماتها وتتفاوت درجاتها، لم يكن الإمام أحمد يمتحن بها الناس ولا يضيِّق عليهم، ولا يصادر اجتهاداتهم وميولهم، ولكنه أخذ نفسه بالحزم والعزيمة في أمر يلائمه، ويتفق مع طبعه وجِبلَّته، ويرتاح له، وهذا من التنوع في مسالك الشرع.
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 159-163
يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي: