(إمام الورع: أحمد بن حنبل)
اقتباسات من كتاب "مع الأئمة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة: الثامنة والسبعون
محرم 1444ه/ أغسطس 2022م
كان رحمه الله مُعْرِضًا عن الدنيا ومباهجها وزخرفها، قال الشافعيُّ: «يا أبا عبد الله، إن أميرَ المؤمنين سألني أن ألتمس له قاضيًا لليمن، وأنت تحبُّ الخروجَ إلى عبد الرزَّاق، فقد نلت حاجتك، وتقضي بالحق. فقال للشافعي: يا أبا عبد الله، إن سمعتُ هذا منك ثانيةً، لم ترني عندك». وكان وقتها قرابة ثلاثين سنة أو سبعًا وعشرين سنة.
كانت قضية عند أحمد لا تقبل المساومة!
وهذا اجتهاد الإمام فيما يرضيه هو ويرى أنه أولى به، أما القضاء والأعمال الإدارية التي فيها مصالح العباد، فهي بحسب النية والقصد، وهي لمَن نوى بها خيرًا، وأخلص في العمل وأدَّى ما عليه، من أعظم القربات وأَجَلِّ الطاعات، ولا بد للناس منها، وقد يتعيَّن هذا المنصب أو ذاك على مَن يكون أهلًا له وجَدِيرًا به.
أما أحمد، فكان جهاده وبلاؤه في غير هذا السبيل.
وقد كان أحمد رحمه الله يكره التكلُّف والتصنُّع والتزيُّن والتظاهر، حتى قال أبو حاتم: «كان أحمدُ بنُ حنبل إذا رأيتَه تعلم أنه لا يظهر النُّسك، رأيتُ عليه نعلًا لا يُشبه نعل القرَّاء، له رأس كبير- يعني النعل- معقد، وشراكه مسبل، كأنه اشتُري له من السوق». يعني: نعله من نعال الناس، وليس من النعال التي يتميَّز بها القرَّاء وأحيانًا فتيان القرَّاء.
وكان لبعض المحدِّثين والقرَّاء سَمْت خاص وبَزَّة معينة، أما أحمد فلم يكن كذلك، بل كان كسائر الناس.
الِّلباس الخاص يمنح العالم هَيْبَة، وربما عرفه مَن لم يكن يعرفه، ويميل إليه الفقيه في حداثته غالبًا؛ لأنه يعطيه تميُّزًا عند الناس وتقديرًا، واللباس المعتاد يُزيل الحاجز عن الناس، ويجعل الفقيه أقرب إلى التواضع وأبعد عن رؤية النفس، ويزيل الحاجز عن الآخرين.
قال أبو حاتم: «ورأيتُ عليه إزارًا وجُبَّة».
قال ابنُ أبي حاتم: «أراد بهذا- والله أعلم- ترك التزيُّن بزِيِّ القُرَّاء وإزالته عن نفسه ما يُشتهر به».
وقال المَرُّوْذي: «رأيتُ أبا عبد الله إذا كان في البيت عامةُ جلوسه متربِّعًا خاشعًا، فإذا كان برَّا- يعني: خارج بيته- لم يتبين منه شدة خشوع كما كان داخلًا، وكنتُ أدخل عليه والجزء في يده يقرأ».
كان رحمه الله يهتم بالحقائق لا بالمظاهر، وبالمعاني لا بالرسوم.
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 158-159
يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي: