(فتنة القول بخلق القرآن في عهد المأمون)
اقتباسات من كتاب "مع الأئمة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة: الثانية والثمانون
صفر 1444ه/ أغسطس 2022م
تولَّى المأمون الخلافة (سنة 198هـ)، وكان ذكيًّا متكلِّمًا، له نظر في المعقول، فاستجلبَ كتبَ الأوائل، وعرَّب حكمة اليونان، وحمل الأمة على القول بخلق القرآن، وامتحن العلماءَ والفقهاءَ والمحدِّثينَ في ذلك، وحين مات من سنته، استفحلت الفتنة في أيام المعتصم، واستمرت على الوَتِيرة ذاتها، وأيام حفيده الواثق ابن المعتصم، والثلاثة أبناء أمهات أولاد، وكان الإمام أحمد يقف بمفرده ضد هذا التيار، وتعرَّض بسبب ذلك لمحنة عظيمة سوَّدت صفحات تلك المرحلة من التاريخ الإسلامي.
اعتمد المأمون خطة قسرية لحمل الناس على عقيدته، وكان متولِّي كبرها شخصان:
1- أحمد بن أبي دُؤَاد، رئيس قضاة المأمون، المتوفى سنة (240هـ).
2- خادمه في بغداد: إسحاق بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب الخزاعي المُصعبي، المتوفى سنة (235هـ)، صاحب الشرطة في بغداد، أيام المأمون والمعتصم والواثق والمتوكِّل.
كان المأمون يبعث له وهو في طَرَسوس سنة (218هـ) الكتب بدعوة العلماء إلى دار الشرطة ببغداد، وأخذ جوابهم على القول بخلق القرآن، ثم بعث أجوبتهم إليه، وخصَّ مَن لهم مناصب من العلماء، وجعل عقوبة مَن لم يُجِبْ العزل من منصبه.
فكتب ثانية له ببعث سبعة من المحدِّثين، هم: محمد بن سعد صاحب «الطبقات»، وأبو مسلم عبد الرحمن بن يونس مُسْتَملي يزيد بن هارون، ويحيى بن مَعِين، وأبو خَيْثَمة زُهير بن حرب، وإسماعيل بن داود، وإسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقي.
وتحت التهديد والامتحان أجابوا مكرهين.
فلما علم الإمام أحمد اغتمَّ لذلك وتمنَّى لو صبروا وقاموا لله، لكان الأمر قد انقطع، وقال: «هم أول مَن ثَلَمَ هذه الثُّلْمة وأفسد هذا الأمر». لأنهم أجابوا وهم عيون البلد، فاجتُرئ على غيرهم.
وكان أحمد لا يرى التحديث عمَّن أجاب في الفتنة، ولم يُصَلِّ على مَن أجاب.
ثم اشتدت لهجة المأمون في كتبه، فجعل فيها عقوبة مَن لم يُجب الحبس، وأمر بإحضار علماء بغداد، وامتحانهم على ذلك، فلم يجب أربعة منهم، وهم: أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، وعُبيد الله بن عُمر القواريري، والحسن بن حماد، المشهور بـ: «سَجَّادة».
وقد أجاب الأخيران بَعْدُ تَقِيَّةً، وأصرَّ أحمد ومحمد بن نوح على رفض هذا المذهب.
حُبس الشيخان، وقُيِّدا، وحُمِلا على جمل متعادلين، وبُعِثَ بهما إلى المأمون في طَرَسُوس، وكان أحمد وهو في الطريق يسأل الله أن لا يرى المأمون، فمات المأمون وهما في الطريق سنة (218هـ)، فرُدَّا إلى بغداد، ومات محمد بن نوح في الطريق بمحل اسمه: «عانات»، فحُلَّت أقياده وغُسِّل، وصلَّى عليه الإمام أحمد، ودُفع بأحمد إلى السجن في بغداد.
أما صحفي الفتنة، فتلميذ ثُمامة بن أَشْرَس والنظَّام: الجاحظ عَمرو بن بَحْر بن محبوب البصري الكناني مولاهم المتوفى سنة (255هـ)، كان ينشر المناظرة ويروِّجها، وقد أهدى كتابه: «البيان والتبيين» لابن أبي دُؤاد، فأجازه عليه خمسة آلاف دينار.
وبينما الفتنة على أَشُدِّها في عهد المأمون، نازعه المرض، فلما أحس بدنو الأجل، كانت وصيته لأخيه المعتصم الخليفة من بعده، أن يواصل أمر المحنة على القول بخلق القرآن، وحمل الناس عليه، ولهذا بلغ البلاء أشده في عهد المعتصم.
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 165-166
يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي: