محنة الإمام أحمد بن حنبل في عهد المعتصم
اقتباسات من كتاب "مع الأئمة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة: الثالثة و الثمانون
صفر 1444ه/ سبتمبر 2022م
تولَّى المعتصم محمد بن هارون الرَّشِيد سنة (218هـ)، ولم يكن على درجة المأمون في عقله ومعرفته، بل كان موصوفًا بالجهل، وهو القائل:
«إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون؛ خليفةٌ أميٌّ، ووزير عاميٌّ». وذلك لما مرت عليه كلمة «الكلأ» فلم يعرف معناها لا هو ولا وزيره.
باء المعتصم بالأمر بضرب الإمام أحمد في عهده حتى خُلعت يداه، إذ لم يُضْرَبْ قبلُ في عهد المأمون ولا بعدُ في عهد الواثق.
بقي أحمد مقيَّدًا في بغداد يُنقل من سجن إلى سجن، حتى حُوِّل إلى سجن العامة، وكان يصلِّي بأهل السجن، وهو مقيَّد، فصار مُكْثُه نحوًا من ثلاثين شهرًا.
وكان يناظره في السجن رجلان هما: أحمد بن محمد بن رَباح، وأبو شُعيب الحجَّام، وكانا كلما فرغا من مناظرته، زاداه قيدًا على قيوده، وآلت به الحال إلى إثقاله بالقيود، وجعله في سجن ضيِّق مظلم لا نور فيه.
وهذا نموذج جدير بالازدراء في الحوار مع سَجِين مكبَّل، يلوَّح له بحل القيد عنه، وتكريمه بما يستحق، متى أذعن ونطق بما يُراد منه، أو على الأقل متى تعهَّد بالصمت وعدم التصريح بعقيدته.
ولم ينقل أن أحمد عيَّر هذا بأنه حجَّام، ولا أساء لهم في الخطاب، كان يطلب منهم دليلًا من القرآن أو السنة أو قولًا مأثورًا عن السلف، ويطلب منهم أن يكفُّوا ويقفوا عند الأمر الذي وقف عنده مَن سبقهم من الأمة.
وكان ممن تُوفِّيَ في السجن عام (218هـ) شيخ دمشق ومحدِّثها: أبو مُسْهِر عبد الأعلى بن مُسْهِر الغسَّاني، ببغداد في حبس المأمون؛ لكونه تمنَّع من القول بأن القرآن مخلوق.
ثم حُمل الإمام أحمد على دابة إلى المعتصم في العشر الأواخر من رمضان عام (219هـ)، فناظره أحمد بن أبي دؤاد، وجمع كثير من أصحابه في مجالس متعدِّدة يُحَاجِّه هذا ثم يُحَاجِّه آخر.
وكان الإمام أحمد لا يلتفت إلى أحمد بن أبي دُؤاد ولا ينظر إليه، وكان يرفض أحيانًا محاجَّته، فيزداد غيظ ابن أبي دُؤاد، وينزل من عيون الحضور.
والإمام أحمد في هذه المجالس المتعاقبة لا يرى الأخذ بالتَّقِيَّة والإجابة في الفتنة، فاستمر وهو صابر محتسب، وما ضُبِطَ عليه لحن قط، والناس في رحبة الدار خلق لا يحصيهم إِلَّا الله تعالى، في أيديهم الصحف والأقلام والمحابر، يكتبون ما يقوله أحمد.
الجلَّادون يضربونه بالسِّياط، وبعضهم ينخسه بقوائم السيوف، والإمام مقيَّد، وصائم، واستمر الإمام على هذه الحال ثمانية وعشرين شهرًا.
يرق المعتصم أحيانًا للإمام أحمد، ويقول: «لولا أني وجدتك في يد مَن كان قبلي، ما عرضتُ لك». ويريد أن يخلِّي سبيله، وأحمد بن أبي دُؤاد يصرفه عما يريد، ويهوِّل عليه سوء العاقبة إن أطلقه وخلَّى سبيله.
ثم استدعى المعتصم عَمَّ الإمام أحمد، وقال لهم: «انظروا إليه، أليس هو صحيح البدن. قالوا: نعم. قال: سلمتُه إليكم صحيح البدن». وما هذا إِلَّا لعظم منزلة الإمام أحمد في نفوس العامة والخاصة، فخاف أن يموت من الضرب، فتخرج عليه عامة بغداد، وخلع عليه المعتصم ثيابًا ورِياشًا، فلما وصل أحمد إلى داره خلع ما كان عليه، وأمر به فبيع، وتُصدِّق بثمنه.
أمزجة فردية وقرارات متسرِّعة ومُضيٌّ في طريق من سلف، دون مراجعة، كانت الفتنة تعبيرًا عن تدخل سياسي فاسد في الاجتهاد العلمي والاعتقاد الشرعي، ونموذجًا لغياب المؤسسة في دولة الخلافة، حيث يتحوَّل رأي الخليفة إلى عقيدة دينية تعسف عليها الأمة وتوظَّف أجهزة الشرطة للاستجواب والسجن والتعذيب كما ترى!
عاش الإمام طليقًا يحضر الجمعة والجماعة، بعد بُرئه من مرض ما لحقه من الضرب والتعذيب، يباشر التدريس، والفتوى، والتحديث، وذلك لمدة سبع سنين دأبًا، حتى مات المعتصم سنة (227هـ).
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 167-169
يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي: