الخميس

1446-06-25

|

2024-12-26

(الإمام أحمد وعلماء عصره)

اقتباسات من كتاب "مع الأئمة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)

الحلقة: السادسة والثمانون

صفر 1444ه/ سبتمبر 2022م

عاش أحمد في زمن حركة علمية هائلة، خاصة في علوم الشريعة، كالحديث والأصول والفقه والتفسير، ومثلها علوم اللغة، فهي مرحلة تأسيس وحراك.

وعاش في مراكز العلم ومدنه، ورحل وتنقَّل، والتقى بالعلماء والشيوخ، وقلَّ أحد منهم إِلَّا واتصل به أحمد معلِّمًا أو متعلِّمًا، ومنهم مَن كانت علاقته معه تتَّسم بالمباعدة؛ لمواقفه العقدية وتحريضه السياسي.

ومن أبرزهم:

1- الإمام الشافعي:

ومع أنه أسنُّ من أحمد، إِلَّا أنه كان يرجع إليه في الحديث، ويعترف له بالفضل والسبق، ويقول له: «أنتم أعلم بالحديث والرجال مني».

وقد أخذ أحمد من الشافعي نحو عشرين حديثًا.

وكان أحمد معجبًا بالشافعي وعقله، وسَبَقَ قولُه لإسحاق بن راهويه: «يا أبا يعقوب، تعال حتى أُرِيَكَ رجلًا لم تر عيناك مثله. قال إسحاق: لم تر عيناي مثله؟ قال: نعم. فجاء به فأوقفه على الشافعي».

كما أخذ عن الشافعي جملة من كلام العرب، ولما مات أحمد وُجِد في تركته كتاب «الرسالة» للإمام الشافعي، وكان أحمد يقرأ فيه، ويستفيد منه، ويدعو للشافعي ويثني عليه.

ولما لقي الإمامُ الشافعيُّ الإمامَ أحمدَ في رحلته الثانية إلى بغداد، بعد سنة تسعين ومئة، وعمر أحمد إذ ذاك نيِّف وثلاثون سنةً، قال له: «أنتم أعلمُ بالحديث والرجال منِّي، فإذا كان الحديثُ صحيحًا فأعلموني، كوفيًّا كان أو بصريًّا أو شاميًّا، حتى أذهبَ إليه، إذا كان صحيحًا».

قال ابنُ كثير: «قولُ الشافعي له هذه المقالة تعظيمٌ لأحمد وإجلالٌ له، وإنه عنده بهذه المثابة إذا صحَّح أو ضعَّف يرجع إليه في ذلك، وقد كان الإمام أحمد بهذه المثابة عند الأئمة والعلماء.. وقد بَعُدَ صِيته في زمانه، واشتهر اسمه في شبيبته في الآفاق».

وكان الإمام أحمد يقول لولد الإمام الشافعي محمد بن محمد: «أبوك أحد الستة الذين أدعو لهم وقت السَّحَر».

وكان الإمام أحمد في حداثته يختلف إلى مجالس علماء آخرين، كالقاضي أبي يوسف، وقد كتب روايات علماء الرأي، ثم أقبل على الحديث والسنة.

2- عبد الرزاق بن همام اليماني، أبو بكر الصنعاني:

الحافظ الكبير، عالم اليمن، من ثقات شيوخ الإمام أحمد المشهورين بالحفظ.

رحل إليه أحمد وأكثر عنه؛ فقد روى عنه في «المسند» وحده ما يزيد عن ألف وخمسمئة حديث.

وكان أحمد يعرف فضله وعلمه؛ فعن أحمد بن صالح المصري قال: قلتُ لأحمد بن حنبل: رأيتَ أحدًا أحسنَ حديثًا من عبد الرزاق؟ قال: لا. قال أبو زُرعة: عبد الرزاق أحد مَن ثبت حديثه.

وعلى رغم أن عبد الرزاق من شيوخ أحمد، فقد كان يعرف لأحمد فضله ومكانته؛ فقد قال: «كتب عني ثلاثة، لا أبالي أن لا يكتب عني غيرهم، كتب عني ابن الشَّاذَكوني، وهو من أحفظ الناس، وكتب عني يحيى بن مَعِين، وهو من أعرف الناس بالرجال، وكتب عني أحمد بن حنبل، وهو من أزهد الناس».

وقال مرةً لأحمد: «أما أنت، فجزاك الله عن نبيك خيرًا».

ومع أن عبد الرزاق من شيوخ أحمد الذين أكثر عنهم، إِلَّا أنه روى عنه؛ وهذا لمعرفته بمنزلة أحمد ومكانته في الحديث.

وكان عبد الرزاق يتفقَّد حال أحمد؛ فلما علم أن نفقته نفدت عرض عليه بعض الدنانير، فلم يقبلها منه أحمد، كما تقدَّم.

3- ابن أبي دُؤاد، وكان يسمَّى: قاضي القضاة، وكان عالم الخليفة، غير أنه أعلن بمذهب الجهمية وحمل السلطان على امتحان الناس بخلق القرآن، وأن الله لا يُرى في الآخرة، وهو الذي تسبَّب في المحنة وناظر الإمام أحمد ووقف على رأسه، وأغرى به وآذاه وحصل منه ما حصل، ثم دارت الدائرة عليه، فجُرِّد من منصبه، وبِيعت أمواله بالمزاد العلني، وأُخرج من بغداد، واضْطُهد وضُيِّق عليه، وابتلاه الله بالفالج قبل موته بأربع سنين، حتى بقي طريحًا في فراشه لا يستطيع أن يحرِّك شيئًا من جسده، ومات ولم يحضر جنازته إلا عدد قليل.

وقال رجل للإمام أحمد: «قد أَمْكَنَكَ الله من عدوك ابن أبي دُؤَاد. فلم يرد عليه جوابًا».

فلم ينتقم، بل أعرض متمثِّلًا بقوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [الشورى:40]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك، ولا تخن مَن خانك».

واستفتوه في أموالٍ لابن أبي دُؤاد، وكانت أموالًا قد جاءته من السلاطين، فلم يرد منها شيئًا، وما أفتاهم بشيء.

بل ذكر البيهقيُّ حكاية عجيبة عن أبي الفضل التَّميمي عن الإمام أحمد أنه كان يدعو في السجود: «اللهمَّ مَن كان من هذه الأمة على غير الحق، وهو يظنُّ أنه على الحق، فردَّه إلى الحق ليكونَ من أهل الحق».

قال إبراهيم الحربي: «أحلَّ أحمد بن حنبل مَن حضر ضربه، وكل مَن شايع فيه والمعتصمَ، وقال: لولا أن ابن أبي دُؤاد داعيةٌ لأحللتُه».

وذُكر أنه أحلَّ ابنَ أبي دُؤاد فيما بعد.

وهذا هو اللائق بسماحة نفسه، وطيب خلقه، ورحمته بالناس.

هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 172-173

يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي:

https://www.alsallabi.com/uploads/books/16527989340.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022