(هل ثَمَّ حواء أخرى؟)
اقتباسات من كتاب "علمني أبي..مع آدم من الطين إلى الطين" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة: الواحدة والثلاثون
ربيع الأول 1444ه/ أكتوبر 2022م
يُحكى أن آدم تأخَّر ذات ليلة، فلما أوى إلى سكنه بادرته حواء بالسؤال:
- أين كنتَ؟
- كنتُ في بعض شأني!
ثم أردف متسائلًا:
ولمَ السؤال؟ أتخافين من حواء أخرى وما خلق الله على الأرض غيرك؟
تظاهرت حواء بالاقتناع، وحين غطّ في نومه بدأت تتحسس أضلاعه!
رحمك الله يا آدم، كيف لو رأيتَ ذريتك وقد سنَّ لهم ربُّهم سنة الزواج، وجعله مودة وسكنًا ورحمة، فجعلوه صراعًا وتنافسًا وتحسسًا وتجسسًا، إِلَّا مَن رحم الله!
هذه الأنثى التي خُلقت من ضلعك على حين سِنَةٍ من النوم تغشتك فرأيتها أول مرة فألفتها وأحببتها وفرحت بها، ثم طال العهد ببنيك فملُّوا وقال قائلهم لحليلته حين سألته:
- يا أبا فلان، أين أنت من حسن العهد وقد عشتُ معك أربعين سنة؟
فأجاب: والله ما لك ذنبٌ غير هذا!
حكى أحدهم في مجلس قصة رجل تزوَّج فتاة تصغره بعقود من الزمن، وأنجبت له أولادًا، وهي لا تحبه وتتهرَّب منه وتتفلَّت من بين يديه وتريد الطلاق، وهو يولول ويصيح ليله ونهاره متمسِّكًا بها مصرًّا على إبقائها في عصمته حتى الممات لسبب بسيط..
- إنه يحبها!
وكفى بالحب سببًا.
عبَّر أحد الحاضرين عن الإعجاب والثناء على قلبه العامر وإصراره على بقاء الحبل موصولًا بحبيبته وأم أولاده، فكثير من الرجال تمنعهم كبرياء الرجولة من إظهار التمسك بالأنثى، ويرون هذا نقيصة ومسبة لا تليق برجولتهم!
وثنَّى آخر بالتفاتة ألمٍ لصبية صغار، يخشى عليهم من الضياع والشتات والتدمير العاطفي والنفسي، إن حدث الفراق ولم تلتف الساق بالساق، وما لم يحضنهم بيت واحد فهم على شفا اضطراب واكتئاب..
والتَفَتَ ثالث إلى الأم الفتية داعيًا إلى إعادة النظر في (قرارها)، والعودة إلى (قرارها): ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾، والقناعة والرضا بما كتب الله وقضى وإن كرهتيه فعسى أن تكرهي شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرا!
ويكفي في حسنات زوجك أنه أحبك وجعلك دنياه كلها، وربط سعادته بوجودك، وأن مَن في مثل سِنِّه لا تطمح عينه إلى سواك، ولا يخطر بباله غير خيالك..
ولعله ليس من بابة رجال نسوا قديمهم، وتجاهلوا نديمهم، وتنكَّروا لأسرتهم الأولى، وتخلَّوْا عن أبنائهم وبيوتهم تحت ضغط الأنانية والرغبة الشخصية والوطأة الغريزية.
أيًّا ما كانت الوجهة فقد شفع النبيُّ صلى الله عليه وسلم لدى بَرِيرة لتعود إلى زوجها مُغيث، وكانت تكرهه، فقالت: يا رسولَ الله: تأمرني؟ قال: «لا، إِنَّـمَا أَنَا شَافِعٌ». قالت: لا حاجة لي به!
الحب من الله، وربما كان بقاء أنثى فتية في عصمة شيخ ضعيف مدعاة لفتنتها.
يقال بأن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لما تزوَّج مَيْسُون بنت بَحْدَل الكَلْبيَّة نقلها من البادية وأسكنها قصرًا في دمشق، فقالت:
لَبَيْتٌ تَخْفِقُ الأَرْيَاحُ فِيهِ *** أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ قَصْرٍ مَنِيفِ
وَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي *** أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشَّفُوفِ
وَأَكْلُ كُسَيْرَةٍ مِن كِسْرِ بَيْتي *** أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَكْلِ الرَّغِيفِ
وَأَصْوَاتُ الرِّيَاحِ بِكُلِّ فَجٍّ *** أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَقْرِ الدُّفُوفِ
وَكَلْبٌ يَنْبَحُ الطُّرَّاقَ عَنِّي *** أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ قِطٍّ أَلِيفِ
وَبَكْرٌ يتْبَعُ الأَظْعَانَ صَعْبٌ *** أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ بَغْلِ زَفُوفِ
وَخَرْقٌ مِن بَنِي عَمِّي نَحِيفٌ *** أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ عِلْجٍ عَلِيفِ
خُشُونَةُ عِيشَتِي فِي الْبَدْوِ أَشْهَى *** فَحَسْبِي ذَاكَ مِنْ وَطَنٍ شَرِيفِ
وكان كل ذلك لأنها لم تحبّه.
رحمك الله يا آدم، كيف لو رأيتَ بعض بنيك وهو يضرب في الأرض باحثًا عن المتعة، تحت مسميات شتَّى، وربما واقع الحرام أو قاربه، ثم هو يخشى أن يُبتلى بزوجه الطاهرة الحصينة فيتجسس عليها، ويفتش أوراقها وأجهزتها وتاريخها القديم، ويستحلفها بكل مقدَّس، وبالطلاق أن تصدقه وتخبره عن علاقاتها وما مرَّ عليها، فإن كذبته صدَّقها وإن صدقته كذَّبها!
رحمك الله يا آدم، كيف لو رأيتَ بعض بناتك وقد حولت حياة شريكها إلى معاناة دائمة بكثرة التطلب والتذمر والعتاب، والغفلة عن حالة نفسية لدى زوجها ناتجة عن أزمة مالية أو صحية أو قهرٍ يحس به، ثم لا يجد من صاحبته إحساسًا بالتعاطف ولا مواساةً ولا مراعاة، فربما غضب أو هاجر فلا تجد في قاموسها كلمة تلطف أو تعطف أو اعتذار، وكأن اللغة عقمت أو المشاعر نضبت وجفت، فلم يعد لكلمة (آسف) مرادفات ولا ذيول.. صارت لا تقال، وإن قيلت فبلا رصيد ندم أو وفاء أو تدارك..
وكأن بيت الزوجية مصنوع من الريش أو القش، ولا يضير أن يتداعى أو ينهار، أو تسقط بعض جدرانه، أو تنهد بعض أركانه، أو يحجب عنه الماء والهواء والضوء..
بيت بنيتموه معًا وتعاهدتموه، ونبتت فيه أشجار وأزهار، أفمن السهل أن يُقَوَّض ويصبح أثرًا بعد عين؟
أو تعجز النفوس أن تحتمل تقصيرًا من الشريك، وهي ولا بد قد قصَّرت يومًا بقصد أو بغير قصد، ولو لم يكن إلا تقصير الطبع والفطرة والتربية التي لا تساعد أحيانًا، أو تجعل المرء يقصِّر لأنه لا يستطيع أن يقوم بالواجب.
كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول لزوجه: «إذا غَضِبْتُ فرضِّيني، وإذا غضبتِ رضَّيتك، فإذا لم نكن هكذا ما أَسْرَعَ ما نَفتَرِقُ».
حين تَزِنُ نفسك وزوجك فلا تضع إبهامك على طرف الكفة.. دع الميزان يكشف الحقيقة.
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب علمني أبي للشيخ سلمان العودة، صص 183-177
يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي: