عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه سنقف عند بداية الحديث عن عهد عثمان رضي الله عنه على تطور فقه الشورى عند المسلمين، الذي تجلى بوضوح في الآليات والإجراءات التي أوصى بها الفاروق لاختيار الخليفة من بعده . ومن المهم التذكير في هذا المقام بأن ما فعله المسلمون من تنظيم عملية اختيار الحاكم لم تكن مألوفة لدى العرب؛ الذين كانوا يتبعون الأسلوب الوراثي في انتقال الزعامة والرياسة. لقد لاحظنا تنوع الطرق في اختيار الخليفة، حيث لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم أي وصية لكيفية من يتولى إدارة شؤون المسلمين من بعده، وهذا دليل واضح على أصالة مبدأ الشورى في الرؤية الإسلامية للحكم، ولو فعل النبي الكريم بترك وصية لمن يخلفه لما ترسخ مبدأ الشورى بين المسلمين من حيث التأصيل. ثم جاءت طريقة الصديق في اختيار الفاروق، ولاحظنا فيها التزامه بمبدأ الشورى الذي انتهجه المسلمون في اختياره الذي أنجز في سقيفة بني ساعدة، مع تغيير وتعديل في الإجراءات والأساليب. وفي هذا المقال سنتابع الجهود التي بذلها عمر رضي الله عنه في اختيار الخليفة من بعده، وكذلك سنتعرف على الإجراءات التي اتبعها المسلمون بعد وفاته، وهذا التنوع في آلي
عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه سنقف عند بداية الحديث عن عهد عثمان رضي الله عنه على تطور فقه الشورى عند المسلمين، الذي تجلى بوضوح في الآليات والإجراءات التي أوصى بها الفاروق لاختيار الخليفة من بعده . ومن المهم التذكير في هذا المقام بأن ما فعله المسلمون من تنظيم عملية اختيار الحاكم لم تكن مألوفة لدى العرب؛ الذين كانوا يتبعون الأسلوب الوراثي في انتقال الزعامة والرياسة. لقد لاحظنا تنوع الطرق في اختيار الخليفة، حيث لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم أي وصية لكيفية من يتولى إدارة شؤون المسلمين من بعده، وهذا دليل واضح على أصالة مبدأ الشورى في الرؤية الإسلامية للحكم، ولو فعل النبي الكريم بترك وصية لمن يخلفه لما ترسخ مبدأ الشورى بين المسلمين من حيث التأصيل. ثم جاءت طريقة الصديق في اختيار الفاروق، ولاحظنا فيها التزامه بمبدأ الشورى الذي انتهجه المسلمون في اختياره الذي أنجز في سقيفة بني ساعدة، مع تغيير وتعديل في الإجراءات والأساليب. وفي هذا المقال سنتابع الجهود التي بذلها عمر رضي الله عنه في اختيار الخليفة من بعده، وكذلك سنتعرف على الإجراءات التي اتبعها المسلمون بعد وفاته، وهذا التنوع في آلية الإختيار يدل دلالة واضحة على أن فقه الشورى فقه متجدد يتفاعل مع الواقع وحيثياته وليس قوالب صماء بل لم يبدأ بأي قوالب مسبقة حددها النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه في نفس يستند إلى ثوابت من الشفافية والنزاهة إلى جانب سيادة الأمة وأنها مصدر الشرعية. ولا يسع الكاتبان إلا أن يقدما شكرهما الخالص، وتقديرهما العميق لأستاذين كريمين لم يبخلا بإبداء الملاحظات، وتقديم الإضافات على نصوص المقالات، كل ذلك في زحمة انشغالاتهم وعديد التزاماتهم، فلهم منا وافر الشكر وخالص الدعاء.
أولا: تطبيقات الفاروق لمبدأ الشورى في اختيار من يخلفه
لقد استطاع الفاروق برغم معاناته من جروح الطعن، أن يبتكر طريقة جديدة غير تلك التي اختير بها الصديق وتختلف عن تلك التي اتبعت لاختياره هو ( )، الأمر الذي يعني لنا بأن الفاروق أدرك أن باب الاجتهاد مرنا مفتوحا أمام كافة البدائل في تطوير آليات الانتخاب والترشيح. وقد تلخصت طريقة الفاروق بتحديد عدد من المسلمين مشهود لهم بالفضل والدراية، ورسم طريقة لاختيار الخليفة من بينهم على أن يكون الفائز بينهم من يتحصل على أكثر الأصوات، وفصل مجموعة المرشحين عن الاختلاط بالناس حماية لعملية الاختيار من التأثر بأي عوامل قد تخل بها. وفيما يلي تلخيصا للإجراءات التي اتبعها الفاروق لتطبيق مبدأ الشورى: 1- تحديد عدد معين من المرشحين: رشح عمر رضي الله عنه ستة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من أصل عشرة اشتهروا بوصفهم العشرة المبشرون بالجنة وهم، علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم جميعا. واستثنى من العشرة المبشرين سعيد بن زيد لأنه من أبناء عمومته من قبيلة بني عدي، وكان آخر الأسماء من العشرة المبشرين أبا عبيدة بن الجراح الذي استشهد في طاعون عمواس في عهد الفاروق. ويلاحظ على الأسماء المختارة أنهم لا ينضوون تحت فئة معينة من حيث التخصص فمنهم التاجر ومنهم العالم ومنهم الحرفي وهذه دلالة على أن رئاسة الدولة ترتبط بالأهلية وإقرار الأمة، ولا تنحصر في فئة بعينها, يظهر ذلك بوضوح في ترشيحات الفاروق رضى الله تعالى عنه حيث راعى أن يختار من المسلمين من هم محل إجماع أو قبول واسع بينهم ومن ينظر للقائمة التي اختارها الفاروق لا يجد فيها من تربطه به وشيجة قربى أو صلة ما, بل استثنى كما مر معنا ابن عمه وكذلك منع أن يكون ابنه عبد الله رضي الله عنه أحد المرشحين. 2- اجتماعات الشورى وتأسيس هيئة انتخابية: أوجد الفاروق بيئة محايدة للشورى، وحاول أن يعزلها عن أية مؤثرات؛ خارجية فجمع المرشحين الستة في بيت واحد، وطالبهم بالتشاور لاختيار أحدهم، وجعل بينهم ابنه عبد الله يعاونهم في المشاورات دون أن يكون له صوت ابتداء إنما له صوت الترجيح عند تساوي الأصوات بين المرشحين، ولم يجعل هذا الترجيح أيضا مطلقا بل قيده كما سيتضح . كما عين عبد الرحمن بن عوف رئيسا لكل عمليات الشورى والنقاش. وقد منع الفاروق كل المرشحين من القيام بأي عمل عام يخص المسلمين كالصلاة بهم، وعين صهيبا الرومي ليصلي بالناس وقال له: أنت أمير الصلاة, وهذا أمر في غاية الأهمية في تحقيق النزاهة في عملية الإختيار وبه يكون الستة الذين رشحهم للخلافة على قدم سواء ولا يستأثر أحدهم على الباقين بفضل إستخلافه للصلاة، مما قد يعتبره الناس إشارة على رضائه لهم في أمر دينهم فلما لا يكون الأصلح في أمر دنياهم، كما قال بعض الصحابة إبان انتخاب الصديق رضي الله عنه. بهذا التنظيم الدقيق أبعد الفاروق عن المرشحين وعن الناس أي إيحاء قد يخرجهم عن الخط الذي رسمه طريقا لممارسة الشورى. وحفاظا للمسار التشاوري، وضمانا لاستقلال الجلسات عين المقداد بن الأسود وأبا طلحة الأنصاري بمراقبة موقع الاجتماعات ومنع حركة الدخول والخروج منه لحين انتهاء المهلة التي حددها عمر. وتأكيد على حماية الشورى من التدخل وإعلام المجتمعين بجديتها طلب الفاروق أبا طلحة الأنصاري وقال له: يا أبا طلحة، إن الله -عز وجل- أعز الإسلام بكم، فاختر خمسين رجلا من الأنصار فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم. 3- تحديد وتضييق فترة التشاور والانتخاب: ومن المسائل المهمة التي تفطن لها الفاروق عدم ترك عملية الاختيار متطاولة زمنيا، مما يعرض العملية برمتها لمخاطر الانهيار، خصوصا وأن الفاروق نفسه قد تعرض للاغتيال، فكان أن فرض بصرامة واضحة مدة ثلاثة أيام، هي المدة النهائية لاختيار من يقود المسلمين من بعده فقال لهم: لا يأتي اليوم الرابع إلا وعليكم أمير. 4- ضبط مآلات النزاع والاختلاف: إن الناظر للإجراءات التي وضعها الفاروق لنجاح عملية اختيار الحاكم يستنتج بوضوح لا لبس فيه النهضة التي أحدثها الإسلام بين العرب بل وبمقارنة لكل نظم الحكم في ذلك الزمان وما بعده لا نجد إلا نظما وراثية تختلف أشكال التوريث فيها، إلا أنه وفي وسط صحراء شبه جزيرة العرب انبعثت أمة انتقل بها الإسلام من خلال مبدأ الشورى فأحدثت نقلة نوعية في النظم السياسية اتسمت بالسلاسة واليسر ولم تقم على أنهار الدم والثورات كما حصل في أوروبا التي يعتبرها الكثير من المسلمين المثال الواجب الإتباع ولعل في بعض ما نذكر هنا ما يؤكد حقيقة المنهج الإسلامي في الحكم. وهنا نرى هيمنة فكر الشورى على عمر رضي الله عنه وسيطرة حق الأمة في الاختيار، فقام باعتماد نظام التصويت وجعل بينهم ابنه عبد الله ليمثل في النهاية نقطة الترجيح عند الاختلاف فأوصى الفاروق بأن يحضر عبد الله بن عمر معهم في المجلس وأن ليس له من الأمر شيء، وقال لهم: فإن رضي ثلاثة رجلا منهم وثلاثة رجلا منهم فحكموا عبد الله بن عمر، فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلا منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر -وهنا يأتي تقييد الترجيح الذي سيقوم به عبدالله بن عمر رضي الله عنه وهو رضى الستة بهذا الترجيح - فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف ووصفه قائلا: نعم ذو الرأي عبد الرحمن بن عوف، مسدد رشيد، له من الله حافظ، فاسمعوا منه. وبالفعل فقد اضطلع عبدالرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه بمهمة إدراة الشورى أو ما يسمى بإدارة الانتخابات وسحب حق ترشحه ليكون كما قال عمر رضي الله تعالى عنه مسدد ورشيد ويظهر أيضا في هذه التوجيهات أنها جاءت للتعامل مع واقع استثنائي دلت الوقائع على أن المسلمين بفضل الله تعالى ثم بفضل دور عبدالرحمن بن عوف ووعي المسلمين لم يضطروا إليه بل تمت عملية الاختيار على خير وجه وتحققت فيها إرادة الأمة التي هي مصدر الشرعية. 5- توسيع دوائر الشورى: لم تكن اجتماعات الستة ومناقشاتهم إلا تمهيدا لعرض نتائج تلك المشاورات على المسلمين من سكان المدينة المنورة حيث كانت المدينة حتى ذلك العهد تمثل ثقل الدولة الإسلامية وعاصمتها، وكان رأيها مطاع بين المسلمين لوجود كبار الصحابة والمسلمون الأوائل فيها حيث منعهم الفاروق من الخروج منها. ثانيا: منهج عبد الرحمن بن عوف في إدارة الشورى لقد كانت تلك هي ترتيبات وإجراءات الشورى التي وضعها عمر رضي الله عنه لضمان ضبط مسار الشورى ونتائجها، وأعلم بها عبد الرحمن بن عوف باعتباره مسؤولا عن تسيير العملية الشورية لاختيار الحاكم من بعد عمر. وقد التزم ابن عوف رضي الله عنه بتلك الترتيبات، وبدأ ينفذها بأسلوب فيه عمق المعرفة باحتياجات المجتمع المسلم، وكانت تلك الخطوات كالتالي: 1- الشروع في عقد اجتماعات الهيئة الانتخابية: لم يكد يفرغ الناس من دفن الفاروق حتى أسرع ابن عوف لجمع المرشحين الستة في بيت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أو في بيت فاطمة بنت قيس الفهرية أخت الضحاك بن قيس، على اختلافٍ في الروايات. ومن الجدير بالذكر هنا، أن مكان انعقاد اجتماعات أقل ما توصف بها أنها غاية في الأهمية لتضمنها اختيار قائد للمسلمين قد تم في أحد بيوت نساء المسلمين، وهذا فيه دلالة واضحة على مكانة المرأة في المجتمع الإسلامي. 2- تفويض ابن عوف بإدارة عملية الشورى: ما إن بدأت أولى جلسات التشاور حتى أعلن عبد الرحمن بن عوف تنازله عن الترشيح وطلب من المرشحين الباقين أن يفوضوه بدورهم في إدارة جلسات الشورى فوافقوه على ذلك فقال لعلي وعثمان بعد أن تساوت أصواتها: والله على أن لا آلو عن أفضلكما، فقالا: نعم. والتزم ابن عوف بمبدأ الشورى وحق الأمة في الاختيار فوسع من دائرة اتصالاته ومشاوراته فور انتهاء اجتماع المرشحين الستة صباح أول يوم من المدة المقررة لها، واستمرت مشاوراته واتصالاته ثلاثة أيام كاملة وفي هذا التوسيع دلالة أخرى على فهم جماعي لدى المسلمين بأن لا بديل عن إنفاذ مبدأ الشورى حتى في حالة فراغ مهم بسبب جراح ومن ثم استشهاد خليفة المسلمين. وبدأ ابن عوف بعلي بن أبي طالب فقال له: إن لم أبايعك فأشر عليَّ، فمن ترشح للخلافة؟ قال علي: عثمان بن عفان، وذهب إلى عثمان وسأله نفس السؤال فأجابه: علي بن أبي طالب, وشاور البقية من المرشحين فكان أمرهم بين عثمان رضي الله عنه وعلي رضي الله عنه . وبهذا خلصت الشورى إلى شخصين اثنين فقط، وكان على ابن عوف أن يرجح بين أحدهما ولتحقيق ذلك شاور كبار الصحابة في المدينة، ثم إذا ما انتهى منهم بدأ يشاور كل من يلقاه في المدينة من الصحابة وأمراء الجيش المتواجدين بالمدينة، ومن كان يأتي للمدينة في فترة انعقاد الشورى. وشملت مشاورته النساء، كما شملت الصبيان والعبيد في المدينة، وكانت نتيجة مشاورات عبد الرحمن بن عوف أن معظم المسلمين كانوا يشيرون بعثمان بن عفان، ومنهم من كان يشير بعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. وفي منتصف ليلة اليوم الثالث، عاد ابن عوف ليسأل للمرة الأخيرة المرشحين فبدأ مع الزبير وسعد، ثم جلس مع علي مدة أطول، ثم ختم مشاوراته مع عثمان. 3- إعلان نتيجة الشورى وأخذ البيعة العامة: بعد صلاة صبح اليوم الثالث، حضر عبد الرحمن إلى المسجد وقد اعتم بالعمامة التي عممه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا إشارة مهمة للمسلمين الحاضرين بمكانة عبدالرحمن لدى رسول الله وأنه ما كان ليستبدل هذه المكانة السامية بتحيز ولا ميل الأمر الذي يمنح كلامه ثقة ومصداقية يحتاجها الموقف, وكان المرشحون قد اجتمعوا عند المنبر، ثم أرسل ابن عوف ينادي من كان حاضرا في المدينة من المهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد حيث كانوا قد حجوا مع الفاروق في ذلك العام ورجعوا معه إلى المدينة. وجاء في رواية البخاري: فلما صلى الناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر فأرسل إلى كل حاضر من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر، فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ثم قال: أما بعد، يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أراهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلا، فقال: أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون. وجاء في رواية صاحب (التمهيد والبيان) أن علي بن أبي طالب أول من بايع بعد عبدالرحمن بن عوف. وبإعطاء البيعة العامة لعثمان رضي الله عنه يكون المسلمون قد مضوا قدما في تطبيق مبدأ الشورى وحق الأمة في الاختيار ولتكون هي مصدر الشرعية لأي حاكم يقودها. ولعل في الأساليب التي اتبعها عبد الرحمن بن عوف والإجراءات التي اتخذها ما يدل بوضوح تام إلى وعي جماعي لدى الصحابة والمسلمين في تلك الفترة التاريخية بأن الشورى هي سبيلهم الوحيد لممارسة حقهم وتنفيذ واجبهم بحماية الأمة من الاستبداد. ومما لا شك فيه أن تنازل عبد الرحمن عن الترشح لمنصب الخلافة كان له الأثر الكبير في تسهيل عملية الاختيار وإنفاذ الشورى وقد قال الإمام الذهبي في ذلك: ومن أفضل أعمال عبدالرحمن عزله نفسه من الأمر وقت الشورى، واختياره للأمة من أشار به أهل الحل والعقد، فنهض في ذلك أتم نهوض على جمع الأمة على عثمان رضي الله عنه , ولو كان محابيا فيها لأخذها لنفسه، أو لولاها ابن عمه وأقرب الجماعة إليه سعد بن أبي وقاص.
الكاتب: د. علي الصلابي
أ. إسماعيل كريتلي
المصدر: حركة التوحيد والإصلاح