عهد أبي بكر الصديق أنهينا في المقالين السابقين الحديث عن صحيفة المدينة التي كتبت بإشراف الرسول صلى الله عليه وسلم، لينظم بها العلاقة بين سكان المدينة، مبينا فيها الحقوق والواجبات. وفي هذه المقالة والتي تليها نستعرض التطبيقات والمفاهيم الدستورية في عهد الصديق رضى الله عنه. مثل اختيار أبي بكر رضي الله عنه للخلافة أول تجربة للشورى في التاريخ الإسلامي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ودلت مناقشات سقيفة بني ساعدة على عدم وجود أي توجيه نبوي بتحديد من يخلفه. وبرغم تفصيل القرآن الكريم والسنة النبوية للكثير من الأحكام الخاصة والشخصية، وما يتعلق بالعلاقات الأسرية، والحقوق والواجبات الخاصة بالأفراد إلا أن الأمر لم يكن كذلك في مسألة اختيار الحكومة ورأس الدولة وشكل نظام الحكم.
انعقاد الشورى في سقيفة بني ساعدة وحصول البيعة الخاصة
ظهرت ثمرة التربية السياسية والتدريب النبوي للصحابة الكرام على مفاهيم الشورى والحرية في انشغالهم - بعد استجماع أمرهم من صدمة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم- بالبحث عن حلول أفضل لإدارة الدولة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وب
عهد أبي بكر الصديق أنهينا في المقالين السابقين الحديث عن صحيفة المدينة التي كتبت بإشراف الرسول صلى الله عليه وسلم، لينظم بها العلاقة بين سكان المدينة، مبينا فيها الحقوق والواجبات. وفي هذه المقالة والتي تليها نستعرض التطبيقات والمفاهيم الدستورية في عهد الصديق رضى الله عنه. مثل اختيار أبي بكر رضي الله عنه للخلافة أول تجربة للشورى في التاريخ الإسلامي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ودلت مناقشات سقيفة بني ساعدة على عدم وجود أي توجيه نبوي بتحديد من يخلفه. وبرغم تفصيل القرآن الكريم والسنة النبوية للكثير من الأحكام الخاصة والشخصية، وما يتعلق بالعلاقات الأسرية، والحقوق والواجبات الخاصة بالأفراد إلا أن الأمر لم يكن كذلك في مسألة اختيار الحكومة ورأس الدولة وشكل نظام الحكم.
انعقاد الشورى في سقيفة بني ساعدة وحصول البيعة الخاصة
ظهرت ثمرة التربية السياسية والتدريب النبوي للصحابة الكرام على مفاهيم الشورى والحرية في انشغالهم - بعد استجماع أمرهم من صدمة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم- بالبحث عن حلول أفضل لإدارة الدولة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وبدأت التجربة بأن تجمع شيوخ ونقباء المسلمين بأسلوب مدني وحضاري في سقيفة بني ساعدة بالمدينة المنورة، ولم تكن في الاجتماع أو حوله أي مظاهر للقوة واستخدامها، فقد كان قصد الصحابة هو الحفاظ على استقرار المجتمع والدولة معا. وفي السقيفة أنشأ الصحابة الكرام حوارا طرحت فيه الآراء حول من سيكون قائد المسلمين القادم، وتواصل النقاش، واحتدم في بعض أحيانه، وبرزت أثناء الحوار اتجاهات دلت جميعها على أن الصحابة لم يكونوا يملكون نصا يحدد من يخلف وكيف سيخلف. وبعد أن عبر كل عن رأيه، انتهى النقاش إلى اختيار أبي بكر رضي الله عنه بعد أن رشحه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتمت مبايعته البيعة الخاصة من قبل أهل السقيفة وفيها تحصل على أصوات الحاضرين لقيادة المسلمين لمرحلة قادمة. الييعة العامة (الاستفتاء العام) وخطاب التولي بدأ الصحابة تنفيذ الإجراءات الخاصة بتنصيب أبي بكر رضي الله عنه في البيعة العامة (وهي أقرب إلى آلية الاستفتاء بلغة عصرنا) بمسجد المدينة وبعد أخذ البيعة والثقة من عموم المسلمين في المدينة قام أبو بكر خطيبا في الناس فقال: 1- أما بعد, أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، 2- فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، 3- الصدق أمانة والكذب خيانة، 4- والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، 5- لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، 6- ولا تشيع الفاحشة في قومٍ إلا عمّهم الله بالبلاء، 7- أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله. مما تضمنه الخطاب:
1- اختيار ليس عهدا ولا نصا
أكد الصديق رضي الله عنه في أول خطبته بأن تنصيبه خليفة للمسلمين كان بمحض الإختيار وليس من قبيل الوصية من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر الذي يؤكد أن الامة هي مصدر السلطات و أن الخليفة هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في منصب الرئاسة وليس في منصب النبوة بمعنى أنه لا يمثل سلطة دينية بل سلطة مدنية . فلم يقل عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أخرج نصا , بل كان كل ما قاله في حوار السقيفة هو أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الأئمة من قريش" ولم يذكر أحد من الحضور نصا في شخص بعينه. وحتى أحاديث القرشية فإننا نميل إلى ما قاله ابن خلدون في مقدمته من أن حديث القرشية معلل بما كانت عليه قريش من قوة ورياسة يجتمع عليها الناس كافة. ثم إذا نظرنا إلى التجربة التاريخية للمسلمين وغيرهم رجح عندنا بأن الأمر شورى، ويمكن تحديد مفهوم القوة الذي أشار إليه ابن خلدون بما يتناسب مع اجتهادات كل زمان، فكما هو حاصل في عصرنا الحاضر بأن آلية الانتخابات أو الاستفتاء أو الاختيار الشعبي هي الطرق التي تظهر قوة الشخص أو مجموعة سياسية لتولي قيادة الأمة.
2- واجب الرئيس في الخدمة وحق الأمة في الرقابة والتقويم
قال الصديق: "فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني" وهذا ما فهمه رضي الله عنه بأن واجب الحكومة والقيادة هي الإحسان والقيام بحقوق الأمة، لتتحصل بناء على ذلك على حق الإعانة والتأييد ومنح الثقة من الأمة وأهل العقد فيها، فإن أساء الحاكم فيرجع الحق من جديد للأمة بتقويم هذه الإساءة في الحاكم والحكومة، وجاءت الأحاديث في ذلك، وبهذا فإن الإسلام جاء بالمحددات التي يجب أن يكون عليها تولي المسئولية وهو القيام بأعبائها و إلا فإن الأمة التي استند إليها في تولي مسئولياته لها حق عزله واختيار غيره , فليس في هذا الدين سلطات مطلقة لأحد أو صبغة دينية تجعله فوق المحاسبة والمساءلة وتحمل المسئولية كائناَ من كان ولو كان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم و أول المسلمين به. ومن واقعية الإسلام أنه لم يضع شكلا معينا بل أفسح المجال للعقل الإنساني والتجربة البشرية لكي تطور آليات عديدة في تقويم الحكومة والحاكم مثل المساءلة في المؤسسات الدستورية والكتابة في الصحافة وسحب الثقة عنها وإجراءات التظاهر السلمي والاعتصامات والإضرابات، وكلها تؤدي إلى تقويم أو تغيير الحكومة وباختيار الأمة من جديد. وهكذا أقر الصديق رضي الله عنه بحق الأمة وأفرادها في الرقابة على أعماله ومحاسبته عليها، بل وفي مقاومته لمنع كل منكر يرتكبه وإلزامه بما يعتبرونه الطريق الصحيح والسلوك الشرعي . وأقرّ أنه لا يستمد سلطته من أي امتياز شخصي يجعل له أفضلية على غيره؛ لأن عهد الرسالات والرسل المعصومين قد انتهى، وان آخر رسول كان يتلقى الوحى انتقل الى جوار ربه، وقد كانت له سلطة دينية مستمدة من عصمته كنبي ومن صفته كرسول يتلقى التوجيه من السماء، ولكن هذه العصمة قد انتهت بوفاته صلى الله عليه وسلم وبعده أصبح الحكم والسلطة مستمدة من عقد البيعة وتفويض الأمة له . وهذا الإقرار والعمل الذي بدأ به الصديق رضي الله عنه عهدا ما هو إلا تطبيقا عمليا للمبادئ التي جاء بها الإسلام في مسألة الحكم والتي لعمقها وترسخها في النفوس الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم , لم يخالفه فيها أحد. إن الأمة في فقه أبي بكر لها إرادة حية واعية وتملك حق المناصرة والمناصحة والمتابعة والتقويم، فالواجب على الأمة نصرة الدولة والالتزام بواجباتها إكراما لشرع الله الذي تنافح وتدافع عنه الدولة والحاكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله تعالى: إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير المغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط) ، والأمة واجب عليها أن تُناصح ولاة أمرها قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة – ثلاثا -) قال الصحابة: لمن يارسول الله؟ قال: (لله -عز وجل- ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) . ولقد استقر في مفهوم الصحابة أن بقاء الأمة على الاستقامة رهن باستقامة ولاتها ولذلك كان من واجبات الرعية تجاه حكامهم نصحهم وتقويمهم، ولقد أخذت الدولة الحديثة تلك السياسة الرائدة للصديق، وترجمت ذلك الى لجان متخصصة ومجالس شورية، تمد الحاكم بالخطط، وتزوده بالمعلومات، وتشير عليه بما يحسن أن يقرره، ويوم أن أعرضت دولنا عن هذه المبادئ في الحكم عظمت مصيبتها في ظهور التسلط والسلطات المطلقة التي ليس لها حدود ، والتخلف الذي يعم معظم ديار المسلمين ما هو إلا نتيجة لتسلط بغيض، ودكتاتورية مقيتة، وسلبية مجتمعية في التقويم. وأما الأمة التي تقوم بدورها في مراقبة الحاكم ومناصحته فإنها تأخذ بأسباب القوة والتمكين في الأرض، فتنطلق الى آفاق الدنيا تبلغ دعوة الله وتنصف المظلوم وتحمي الضعفاء .
3- مبادئ الأخلاق السياسية
"الصدق أمانة والكذب خيانة" وهو تأكيد من الصديق رضي الله عنه على أهمية أن تكون العلاقة شفافة بين الأمة ومن يقودها ويتولى أمرها بل، ولأن حديثه سياسي وصف الكذب بأنه خيانة للأمة وهو ما يستوجب المسائلة والمحاسبة القانونية. وهذا يستلزم تطوير مستمر لآليات الشفافية والرقابة للسلطة. لقد أعلن الصديق مبدأ أساسياً تقوم عليه خطته في قيادة الأمة وهو: أن العلاقة يجب أن تكون شفافة بين الأمة ومن يقودها ويتولى أمرها . الصدق بين الحاكم والأمة هو أساس التعامل، وهذا يتطلب ضرورة أن تكون قنوات الاتصال والتواصل بين السلطة والمجتمع مفتوحة ولا تعيقها أي عراقيل وهذا يستلزم أيضاَ تطوير مستمر لآليات الشفافية والرقابة للسلطة. وهذا المبدأ السياسي له الأثر المهم في قوة الأمة حيث ترسيخ جسور الثقة بينها وبين السلطة. إن الشفافية خلق سياسي منطلق من دعوة الإسلام إلى الصدق قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة، آية:119) ومن التحذير منه كقول رسول الله صلى الله عليهو سلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر . إن هذه الكلمات (الصدق أمانة) تجيش بالمعاني الإيجابية، فكأن لها روحاً تروح بها وتغدو بين الناس، تلهب الحماس، وتصنع الأمل. (والكذب خيانة)، فيأبى أبو بكر إلا أن يمس المعاني، فيسمي الأشياء بأسمائها، فالحاكم الكذاب هو ذلك الوكيل الخائن الذي يأكل خبز الأمة ثم يخدعها، فما أتعس حاكم يتعاطى الكذب فيسميه بغير اسمه، لقد نعته الصديق بالخيانة، وأنه عدو أمته الأول. وهل بعد الخيانة من عداوة؟ ولأن حديثه سياسي وصف الكذب بأنه خيانة للأمة وهو ما يستوجب المسائلة والمحاسبة القانونية. وإن كثيراَ من شعوب العالم اليوم تسقط وتحجب الثقة عن حكامها متى اكتشف ارتكابهم لخيانة في حقهم . حقا لا زال الصديق يطل على الدنيا من موقفه هذا فيرفع أقواماً ويسقط آخرين! .. وتظل صناعة الرجال أرقى فنون الحكم! إذ هم عدة الأمة ورصيدها الذي تدفع به عن نفسها ملمات الأيام، ولا شك أن من تأمل كلمات أبي بكر تلك أصدقته الخبر: بأن الرجل كان رائداً في هذا الفن الرفيع، فقد كان يسير على النهج النبوي الكريم وهذا هو المنهج الرباني في التعامل بين الحاكم والمحكوم كما أوضحه النبي صلى الله عليه وسلم و أبو بكر الصديق، لكي تقاوم الأمة بكل ما لها من إمكانات أساليب تزوير الانتخابات وتلفيق التهم، واستخدام الإعلام وسيلة لترويج اتهامات باطلة لمن يعارضون الحكام أو ينتقدونهم، ولابد من إشراف الأمة على إلتزام الحكام بالصدق والأمانة من خلال مؤسساتها التي تساعدها على تقويم ومحاسبة الحكام إذا انحرفوا ، فتمنعهم من سرقة إرادتها، وشرفها، وحريتها وأموالها.
الكاتب: د. علي الصلابي
أ. إسماعيل كريتلي
حركة التوحيد والإصلاح