أنهينا الحديث في المقالة السابقة بما أرساه الصديق فيما يتعلق بأصول المبادئ السياسية في الإسلام وهي مبدأ الشفافية بين السلطة والمجتمع. وننهي في هذه المقالة من سلسلة الثقافة الدستورية الحديث عن المبادئ الدستورية في عهد الصديق رضي الله عنه. 4- العدل والمساواة ولأهمية استقرار المجتمع لابد من أصلين هما: العدل والمساواة فقال الصديق: "والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله" فبين أن من أصول الحكم و واجب الحكومة والحاكم السعي لتحقيق العدل والمساواة بين قطاعات وفئات المجتمع بغض النظر عن أي خلفية عرقية أو دينية أو ثقافية. ولمواصلة إقامة العدل أبقى الصديق رضي الله عنه على القضاة المعينين في العهد النبوي كما عين عمر رضي الله عنه قاضيا في المدينة. ونظرا لصغر رقعة الدولة في المدينة فقد شارك أبو بكر بنفسه في الفصل القضائي بين الناس. ولا شك أن العدل في فكر أبي بكر هو عدل الإسلام الذي يمثل الدعامة الرئيسية في إقامة المجتمع والحكم فلا وجود للإسلام في مجتمع يسوده الظلم ولا يعرف العدل. وإن إقامة العدل بين الناس أفراداً وجماعات
أنهينا الحديث في المقالة السابقة بما أرساه الصديق فيما يتعلق بأصول المبادئ السياسية في الإسلام وهي مبدأ الشفافية بين السلطة والمجتمع. وننهي في هذه المقالة من سلسلة الثقافة الدستورية الحديث عن المبادئ الدستورية في عهد الصديق رضي الله عنه. 4- العدل والمساواة ولأهمية استقرار المجتمع لابد من أصلين هما: العدل والمساواة فقال الصديق: "والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله" فبين أن من أصول الحكم و واجب الحكومة والحاكم السعي لتحقيق العدل والمساواة بين قطاعات وفئات المجتمع بغض النظر عن أي خلفية عرقية أو دينية أو ثقافية. ولمواصلة إقامة العدل أبقى الصديق رضي الله عنه على القضاة المعينين في العهد النبوي كما عين عمر رضي الله عنه قاضيا في المدينة. ونظرا لصغر رقعة الدولة في المدينة فقد شارك أبو بكر بنفسه في الفصل القضائي بين الناس. ولا شك أن العدل في فكر أبي بكر هو عدل الإسلام الذي يمثل الدعامة الرئيسية في إقامة المجتمع والحكم فلا وجود للإسلام في مجتمع يسوده الظلم ولا يعرف العدل. وإن إقامة العدل بين الناس أفراداً وجماعات ودولاً، ليست من الأمور التطوعية التي تترك لمزاج الحاكم أو الأمير وهواه، بل إن إقامة العدل بين الناس في الإسلام تعد من أقدس الواجبات وأهمها، وقد أجمعت الأمة على وجوب العدل، قال الفخر الرازي -رحمه الله- أجمعوا على أن من كان حاكماً وجب عليه أن يحكم بالعدل . وهذا الحكم تؤيده النصوص القرآنية والسنة النبوية. إن من مبادئ الإسلام إقامة المجتمع الذي تسود فيه قيم العدل والمساواة و يمنع فيه الظلم ، بكافة أشكاله وأنواعه، و يفسح المجال وييسر السبل أمام كل إنسان يطلب حقه أن يصل إليه بأيسر السبل وأسرعها دون أن يكلفه ذلك جهد أو مال ويمنع أي وسيلة من الوسائل من شأنها أن تعيق صاحب الحق من الوصول إلى حقه. لقد أوجب الإسلام على الحكام أن يقيموا العدل بين الناس دون النظر إلى لغاتهم أو أعراقهم أو أحوالهم الإجتماعية ، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (سورة المائدة، آية:8). وأما مبدأ المساواة الذي أقره الصديق في بيانه الذي ألقاه على الأمة، فيعد أحد المبادئ العامة التي أقرها الإسلام في بناء المجتمعات وسبق به تشريعات وقوانين العصر الحاضر، ومما ورد في القرآن الكريم تأكيداً لمبدأ المساواة قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (سورة الحجرات، آية:13). إن الناس جميعاً في نظر الإسلام سواسية، الحاكم والمحكوم، الرجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود، لقد ألغى الإسلام الفوارق بين الناس بسبب الجنس واللون أو النسب أو الطبقة، والحكام والمحكومون كلهم في نظر الشرع سواء ، وجاءت ممارسة الصديق لهذا المبدأ خير شاهد على ذلك حيث يقول: القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه . وكان الصديق ينفق من بيت مال المسلمين فيعطي كل ما فيه سواسية بين الناس، فقد روى ابن سعد وغيره أن أبا بكر، كان له بيت مال بالسُّنح معروف، ليس يحرسه أحد، فقيل له: ألا تجعل على بيت المال من يحرسه؟ فقال: لايخاف عليه، قيل له: ولم؟ قال: عليه قفل! وكان يعطي مافيه حتى لايبقى فيه شيئاً، فلما تحوّل إلى المدينة حوّله معه فجعله في الدار التي كان فيها، وقدم عليه مال من معدن من معادن جُهينة، فكان كثيراً، وانفتح معدن بني سليم في خلافته، فقدم عليه منه بصدقة فكان يضع ذلك في بيت المال، فيقسمه بين الناس سوّياً، بين الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير على السواء. قالت عائشة رضي الله عنها: فأعطى أول عام الحرّ عشرة والمملوك عشرة، وأعطى المرأة عشرة، وأمتها عشرة، ثم قسم في العام الثاني، فأعطاهم عشرين عشرين، فجاء ناس من المسلمين فقالوا: يا خليفة رسول الله: إنك قسمت هذا المال فسوّيت بين الناس، ومن الناس أناس لهم فضل وسوابق وقدم، فلو فضلت أهل السوابق والقدم والفضل. فقال: أما ما ذكرتم من السوابق والقدم والفضل فما أعرفني بذلك وإنما ذلك شئ ثوابه على الله جلّ ثناؤه، وهذا معاش، فالأسوة فيه خير من الأثرة فقد كان توزيع العطاء في خلافته على التسوية بين الناس، وكان يشتري الإبل والخيل والسلاح، فيحمل في سبيل الله، واشترى عاماً قطائف (القطيفة كساء مخمل) أتى بها من البادية، ففرقها في أرامل أهل المدينة في الشتاء وقد بلغ المال الذي ورد على أبي بكر في خلافته مائتي ألف وزعت في أبواب الخير . لقد اتبع ابو بكر رضى الله عنه المبادئ العامة للإسلام في إقرار العدل، وتحقيق المساواة بين الناس وراعى حقوق الضعفاء فرأى أن يضع نفسه في كفة هؤلاء الواهنة أصواتهم فيتبعهم بسمع مرهف وبصر حاد وإرادة واعية لا تستذلها عوامل القوة الأرضية فتملي كلمتها. إنه الإسلام في فقه رجل دولته النابه الذي قام يضع القهر تحت أقدام قومه، ويرفع بالعدل رؤوسهم فيؤمن به كيان دولته ويحفظ لها دورها في حراسة الملة والأمة . لقد قام الصديق منذ أول لحظة بتطبيق هذه المبادئ السامية، فقد كان يدرك أن العدل عز للحاكم والمحكوم، ولهذا وضع الصديق سياسته تلك موضع التنفيذ وهو يردد قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (سورة النحل، آية:90). وما أجمل ما قاله ابن تيمية رحمه الله في أهمية العدل: إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة، ... بالعدل تستصلح الرجال، وتستغزر الأموال( ). 5- الدفاع عن الأمة ورسالتها "لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل" بهذا أكد الصديق على أساس الدفاع عن المجتمع المسلم أمام أي محاولات لزعزعة أمنه من الداخل أو الخارج وهو أساس دستوري مهم يعطي الأمة حقها في الاستعداد للدفاع عن نفسها، وكان التطبيق الفعلي واضحا لهذا الأساس فقد جهز أبو بكر رضي الله عنه الجيوش لإحباط المساعي الداخلية المتمثلة في حركات الردة والامتناع عن دفع الزكاة وكذلك بدأ يحمي حدود الدولة المسلمة بتوجيه الجيوش للإمبراطوريات المجاورة التي كانت بدأت تضيق ذرعا بالدولة الوليدة. لقد تلقى أبو بكر تربيته الجهادية مباشرة من نبيه وقائده العظيم صلى الله عليه وسلم، تلقاها تربية حية في ميادين الصراع، ولقد فهم الصديق من حديث رسول الله: إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ، إن الأمة تصاب بالذل إذا تركت الجهاد فلذلك جعل الصديق الجهاد إحدى حقائق الحكم في دولته ، ولذلك حشد طاقات الأمة من أجل الجهاد، لكي يرفع الظلم عن المظلومين ويزيل الغشاوة عن أعين المقهورين ويعيد الحرية للمحرومين، وينطلق بدعوة الله في آفاق الأرض يزيل كل عائق ضدها. 6- عاقبة مخالفة منهج الله ولأن الدولة المسلمة هي دولة قيم وأخلاق ونبل فكان أن عبر الصديق على ضرورة الأخلاق الاجتماعية بعد أن عبر عن الأخلاق السياسية فقال: "ولا تشيع الفاحشة في قومٍ إلا عمّهم الله بالبلاء" إذا هو ربط ما بين الرفاهية ورغد العيش وبين التزام منهج الله سبحانه وتعالى الذي يحث على الطيبات في الفكر والسلوك والأخلاق والعلاقات. والصديق هنا يذكر الأمة بقول النبي: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا...) إن الفاحشة هي داء المجتمع العضال الذي لا دواء له، وهي سبيل تحلله وضعفه حيث لا قداسة لشيء، فالمجتمع الفاحش لا يغار ويقر الدنية ويرضاها. إن علاقة الأخلاق بقيام الدول وظهور الحضارة علاقة ظاهرة، فإن فسدت الأخلاق، وخربت الذمم، ضاعت الأمم، وعمها الفساد والدمار, والدارس لحياة الأمم السابقة والحضارات السالفة بعين البصيرة، يدرك كيف قامت حضارات على الأخلاق الكريمة، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (سورة الإسراء، آية:16). إن الحاكم التقي الذكي العادل هو الذي يربي أمته على الأخلاق القويمة لأنه حينئذ سيقود شعباً أحس طعم الآدمية، وجرى في عروقه دم الإنسانية.. وأما إن أشاع الفاحشة في قومه وعمل على حمايتها بالقوة والقانون، وحارب القيم والأخلاق الحميدة ودفع بقومه إلى مستنقعات الرذيلة ليصبحوا كالحيوانات الضالة، والقطعان الهائمة لا هم لها إلا المتاع، والزينة الخادعة، فيصبحوا بعد ذلك أقزاماً، قد ودّعوا الرجولة والشهامة ويصدق فيهم قول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (سورة النحل، آية:112).7- شرط استمرار السلطة في أداء واجبها بما أن إلتزام منهج الله ليس فرضا على المجتمع دون السلطة جاء تأكيد الصديق رضي الله عنه بأن شرط الثقة والولاية على المسلمين قائم على إلتزام ما أمر الله ورسوله به فقال: "أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم" وإلتزام الإسلام للمسلمين هو ما أمر به الله ورسوله من إقامة للعدل ومساواة بين الناس وحماية المجتمع والأمة والسعي لتحقيق مصالحها. ثم يختم الصديق بما يدل على أن ما يفعله عبادة لله تعالى تحقق معنى الإسلام بأن نادى الناس بالصلاة فقال فقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله. فلم تكن هذا البيان الرئاسي إلا خطبة في يوم الجمعة وهي شعيرة إسلامية وعبادة فرضها الله تعالى على المؤمنين ولعل في هذا دلالة واضحة إلى أن الإسلام منهج متكامل لحياة الإنسانية يجمع في أسسه بين عبادة الله تعالى وتنظيم الحياة الإنسانية، وما الحديث عن فصل الإسلام عن الحياة إلا نتاج عدم تمعن في رسالة الإسلام كما جاء بها القرآن الكريم والسنة والتطبيقات النبوية وحركة المسلمين طوال تاريخهم الطويل.
الكاتب: د. علي الصلابي
أ. إسماعيل كريتلي
المصدر: حركة التوحيد والإصلاح