أشارت المصادر التاريخية والدراسات الحديثة إلى أن المصالحة تمت وفق شروط وضعها الطرفان. أ- العمل بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخلفاء تذكر رواية البخاري أن الحسن ما سأل الوفد (عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر) شيئًا إلا قالا له: نحن لك به، وكان أول ما طالب به الحسن العمل وفق توجيهات القرآن الكريم والسنة النبوية باعتبارهما المرجعية لدولة ومجتمع المسلمين، وقد ذكر ابن حجر الهيتمي: "صالحه على أن يسلم إليه ولاية المسلمين وأن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة ورسوله وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين. وفي هذا تأكيد على أن من أهم مسائل المصالحة الوطنية الاتفاق على المرجعية العليا للدولة، وبالاتفاق على هذه المرجعية التي يمكن أن تمثل في دستور انتقالي ثم دائم، تكون القوى المتصالحة قد رسخت قواعد التعايش المشترك وفق المبادئ التي وافقت عليها الأغلبية مع مراعاة لحقوق كافة الأقليات سواء أكانت دينية أو مذهبية طائفية أو عرقية. ب- الأموال ذكر البخاري في صحيحه أن الحسن قال لوفد معاوية؛ عبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عامر بن كريز: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال. فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به. فالحسن يت
أشارت المصادر التاريخية والدراسات الحديثة إلى أن المصالحة تمت وفق شروط وضعها الطرفان. أ- العمل بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخلفاء تذكر رواية البخاري أن الحسن ما سأل الوفد (عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر) شيئًا إلا قالا له: نحن لك به، وكان أول ما طالب به الحسن العمل وفق توجيهات القرآن الكريم والسنة النبوية باعتبارهما المرجعية لدولة ومجتمع المسلمين، وقد ذكر ابن حجر الهيتمي: "صالحه على أن يسلم إليه ولاية المسلمين وأن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة ورسوله وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين. وفي هذا تأكيد على أن من أهم مسائل المصالحة الوطنية الاتفاق على المرجعية العليا للدولة، وبالاتفاق على هذه المرجعية التي يمكن أن تمثل في دستور انتقالي ثم دائم، تكون القوى المتصالحة قد رسخت قواعد التعايش المشترك وفق المبادئ التي وافقت عليها الأغلبية مع مراعاة لحقوق كافة الأقليات سواء أكانت دينية أو مذهبية طائفية أو عرقية. ب- الأموال ذكر البخاري في صحيحه أن الحسن قال لوفد معاوية؛ عبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عامر بن كريز: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال. فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به. فالحسن يتحدث عن أموال سبق أن أصابها هو وغيره من بني عبد المطلب يريد الحسن أن لا يطالبهم بها معاوية، ولا ذكر لأموال يطلب من معاوية أن يدفعها إليه من قادم. وهنا يطالب الحسن معاوية رضي الله عنهما أن لا يضع يده على أموال الحسن وأهله، والتي أخذوها بوجه حق، ويستعملونها في قضاء حوائجهم ومن معهم من المسلمين. وقد وافق معاوية على شرط الحسن، ويروى أنه زاد على شرط الحسن بالكثير من الصلات التي حافظ عليها معاوية مع آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ج- العفو العام كان الحسن رضي الله عنه يعي أن الدماء قد أريقت بين المسلمين، منذ مقتل عثمان وحتى اغتيال والده رضي الله عنهما، وإن هذه المصالحة لن يكتب لها الحياة إذا أصر كل فريق على المطالبة بالدماء التي أصابها الفريق المقابل، و لذا كان من المهم أن يتضمن اتفاق الصلح بين الجانبين أن الناس كلهم آمنون على دمائهم، ومما جاء في رواية البخاري أن الحسن قال لوفد معاوية: "إن هذه الأمة عاثت في دمائها، فكفل الوفد للحسن العفو للجميع فيما أصابوا من الدماء. إن الحسن اشترط على معاوية، أن لا يطالب أحدًا من أهل المدينة والحجاز والعراق بشيء، وهو ما يترتب عليه ضرورة ترك المطالبة بدم عثمان، وقد تم الاتفاق على عدم مطالبة أحد بشيء كان في أيام علي، وقد تمت المصالحة المؤسسة على الالتزام والشرعية حيث تأسست على العفو المطلق عن كل ما كان بين الفريقين، قبل إبرام وثيقة المصالحة، وبالفعل لم يعاقب معاوية أحدًا بذنب سابق، وتأسس بذلك صلح الحسن على الإحسان والعفو، تأليفًا لقلوب الجماعة. وهنا يتأكد لنا بأن العدالة الانتقالية التي أرستها المصالحة بين المسلمين في العراق والشام وقادها الحسن ومعاوية قد أخرج الأمة من مشكلة استمرت منذ اغتيال عثمان، ولم تنته إلا باغتيال علي رضي الله عنهما، إن هذه العدالة وتلك المصالحة قامت على إعطاء الأمان للناس والعودة إلى الشرعية المتأسسة على المرجعية المتفق عليها في المجتمع، وتقديم وحدة الأمة على المصالح الفئوية، والمتابع لمسار تاريخ المسلمين بعد المصالحة يلحظ بوضوح الآثار الكبيرة التي ترتبت عليها سواء بتحقيق الأمن والرفاه الاجتماعي أو بتوسع رقعة الدولة وزيادة مواردها. وهو أمر يحتم علينا اليوم السعي لإطلاق مبادرات للمصالحة الوطنية، عبر المنابر المختلفة داخل وخارج الوطن، بغية الوصول إلى صيغ للمصالحة بين فئات المجتمع المتنوعة، وتطبيقات راسخة للعدالة الانتقالية التي تؤسس للعدالة الدائمة, وهو أمر يسترعي انتباهنا إلى أن الحوار مع كل فئات المجتمع مهما اختلفت بات أمرا ملحا، لا يجوز التراخي فيه فضلا عن فداحة الخطأ في إشاحة النظر عنه. فمجتمعنا وبرغم الكثير من الاحتكاكات التي سقط جراء بعضها قتلى في كل الاتجاهات وعلى مختلف الجبهات لا يزال يملك استنادا لهذا الخبرة التاريخية أن يفتح بابا واسعا للحوار والمصالحة، ربما يصير بعد ذلك نموذجا ومثالا يحتذى به خصوصا في المغرب العربي الذي بات مهددا أكثر من ذي قبل بموجات عنف، ستضر بالجاني والضحية معا. د- العودة إلى مبدأ الشورى والاختيار جاء في نص الصلح الذي ذكره ابن حجر الهيتمي: "... بل يكون الأمر من بعده (أي معاوية) شورى بين المسلمين. وروي عن الحسن قوله: "أما ولاية الأمر من بعده، فما أنا بالراغب في ذلك ولو أردت هذا الأمر لم أسلمه. هنا يتأكد لنا هذا الفهم الدقيق الذي استمر عليه المسلمون حتى بعد ما مروا به من صعوبات جمة أدت إلى العديد من المواجهات الداخلية الدامية إلا أن الحسن يعود بالأمة لأصلها الأول وهو أن الحكم مبدأه وانتهاؤه الشورى بين المسلمين خصوصا وهو من قال لأبيه رضي الله عنهما عند بيعته أن يوسع دائرة الاختيار لتشمل كافة أقاليم الدولة المسلمة، وكان لعلي رضي الله عنه رأيا بأن المدينة هي عاصمة الإسلام وفيها تؤخذ القرارات الكبرى والتي من بينها الحكم، وكان الحسن ينظر برؤية الشاب الذي يعني متطلبات عصره والتطور الذي لحق بتركيبة المجتمع المسلم بعد أن دخلته شعوب كبيرة وعريقة، وهنا في الصلح بعد سنين طويلة يعود بالحق للأمة فيشترط على معاوية أن يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين. وبغض النظر على ما تم بعد ذلك من توريث معاوية الأمر لابنه يزيد، فإن الأساس العلمي والبناء القيمي يؤكد على أن المسلمين لم يكن لهم من سبيل سوى الشورى لاختيار الحاكم ومراقبة سير السلطة.
ثالثا: الإعلان التدريجي عن المصالحة
بعد أن ثبت الحسن رضي الله عنه من سلامة القصد، وصدق النية عند أهل الشام بدأ يعلن بين مقربيه مصالحته مع معاوية فقد قال ابن جعفر: "والله إني لجالس عند الحسن إذ أخذت لأقوم فجذب بثوبي وقال: أقعد يا هناه، واجلس، فجلست قال: إني قد رأيت رأيًا وأحب أن تتابعني عليه قال: قلت: ما هو؟ قال: قد رأيت أن أعمد إلى المدينة فأنزلها وأخلي بين معاوية وبين هذا الحديث، فقد طالت الفتنة، وسقطت فيها الدماء، وقطعت فيها الأرحام، وقطعت السبل، وعُطلت الفروج- يعني الثغور- فقال ابن جعفر: جزاك الله عن أمة محمد، فأنا معك على هذا الحديث، فقال الحسن: ادع لي الحسين، فبعث إلى الحسين فأتاه فقال: يا أخي قد رأيت رأيًا وإني أحب أن تتابعني عليه. قال: ما هو؟ قال: فقص عليه الذي قال لابن جعفر قال الحسين: أعيذك بالله أن تكذب عليًا في قبره وتصدق معاوية. قال الحسن: والله ما أردت أمرًا قط إلا خالفتني إلى غيره، والله لقد هممت أن أقذفك في بيت فأطينه عليك حتى أقضي أمري. قال: فلما رأى الحسين غضبه قال: أنت أكبر ولد علي، وأنت خليفته، أمرنا لأمرك تبع، فافعل ما بدا لك.
رابعا: الإعلان العام عن المصالحة والتمسك بها
بعد نجاح مفاوضات الصلح بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهما، وأخذ الحسن مباركة أهم قادته ورجاله شرع في تهيئة نفوس أهل العراق على تقبل الصلح الذي تم، فقام فيهم خطيبًا ليبين لهم ما تم بينه وبين معاوية، فقال: "إني أرجو أن أكون أنصح خلقه لخلقه، وما أنا محتمل على أحد ضغينة، ولا حقدًا، ولا مريدًا به غائلة، ولا سوءًا، ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة، ألا وإني ناظر لكم خيرًا من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري، ولا تردوا علىَّ، غفر الله لي ولكم. فنظر بعض الناس إلى بعض وقالوا: عزم والله على صلح معاوية، وضعف وخار، وشدوا على فسطاطه، فدخلوه، انتزعوا مصلاه من تحته، وانتهبوا ثيابه، ثم شد عليه عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي جعال الأزدي، فنزع مطرفه. من عاتقه، فبقي متقلدًا سيفه فدهش ثم رجع ذهنه، فركب فرسه، وأطاف به الناس، فبعضهم يعجزه ويضعفه، وبعضهم ينحي أولئك منه، ويمنعهم منه، وانطلق رجل كان يرى رأى الخوارج، فقعد له فيه ينتظره فلما مر الحسن، ودنا من دابته فأخذ بلجامها، ثم أخرج معولاً. كان معه وقال: أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل، وطعنه بالمعول في أصل فخذه، فشق في فخذه شقًا كاد يصل إلى العظم، فحمل الحسن إلى المدائن للعلاج. وبرغم ما كان من بعض أهل العراق ضد الحسن ومحاولة قتله للمرة الثالثة، فإن الحسن أصر على مواصلة خطة المصالحة حتى نهايتها، فبعد تماثله للشفاء جمع الحسن بن علي رؤوس أصحابه في قصر المدائن، فقال: "يا أهل العراق، لو لم تذهل نفسي. عنكم إلا لثلاث خصال لذهلت: مقتلكم أبي، ومطعنكم بغلتي وانتهابكم ثقلي، أو قال: ردائي عن عاتقي، وإنكم قد بايعتموني أن تسالموا من سالمت وتحاربوا من حاربت، وإني قد بايعت معاوية فاسمعوا له وأطيعوا، قال: ثم نزل فدخل القصر.
خامسا: تقوية المصالحة في الواقع ومحاورة الرافضين
كان الحسن رضي الله عنه يدرك تماما بأن المصالحة لن تنجح وتستمر بمجرد الإعلان عنها وتحمل بعض المناوشات التي تمت عند الإعلان، بل لابد من حشد التأييد لها وثبيت أركانها بين أهل العراق قبل غيرهم، وكان من المهم للحسن أن يضمن موافقة شرطة الخميس على المصالحة، وقد تعاون الحسن مع معاوية في حشد تأييد جيوش العراق للمصالحة، حيث كان معاوية يلبي مطالب الناس للدخول في المصالحة، وقد روي موقف قيس بن سعد بن عبادة في التالي: "بعث الحسن بالبيعة إلى معاوية، فكتب بذلك الحسن إلى قيس بن سعد فقال قيس بن سعد في أصحابه فقال: يا أيها الناس، أتاكم أمران، لابد لكم من أحدهما: دخول في الفتنة، أو قلت مع غير إمام، فقال الناس: ما هذا؟ فقال: الحسن بن علي قد أعطى البيعة معاوية، فرجع الناس، فبايعوا معاوية.
سادسا: تنازل الحسن عن الخلافة وتسليمه الأمر إلى معاوية
قبل أن يتحرك الحسن من المدائن قافلا إلى الكوفة، كان قد استلم كتاب المصالحة من معاوية يلبي له فيه ما اشترطه وطلبه. وبعد وصول الحسن إلى الكوفة، وعدم حصول أي بلابل سار معاوية إلى الكوفة وتوقف عند أطرافها، وهنا صورة للحظات الأخيرة من إتمام المصالحة: "خرج الحسن رضي الله عنه من الكوفة إلى النخيلة ليقابل معاوية ويسلم الأمر له، فعن مجالد، عن الشعبي، قال: شهدت الحسن بن علي بالنخيلة حين صالحه معاوية فقال معاوية: إذا كان ذا فقم فكلم وأخبر الناس أنك قد سلمت هذا الأمر لي، وربما قال: أخبر الناس بهذا الأمر الذي تركته لي- فقام فخطب على المنبر فحمد الله وأثنى عليه- قال الشعبي: وأنا أسمع- ثم قال: أما بعد فإن أكيس. الكيس التقي، وإن أحمق الحمق الفجور، وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إما كان حقًا لي تركته لمعاوية إرادة صلاح هذه الأمة وحقن دمائهم، أو يكون حقًا كان لامرئ كان أحق به مني ففعلت ذلك (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ). [الأنبياء: 111]. وفي رواية أخرى قال: "ما بين جابلص. وجابلق رجل جده نبي غيري، وإني رأيت أن أصلح بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكنت أحقهم بذاك، ألا إنا قد بايعنا معاوية ولا أدري لعلة فتنة لكم ومتاع إلى حين».
الكاتب: د. علي الصلابي
أ. إسماعيل كريتلي
المصدر: حركة التوحيد والإصلاح