الجمعة

1446-04-15

|

2024-10-18

المدرستان المكِّيَّة والبصريَّة زمن الفاروق رضي الله عنه؛ قطبان حضاريان في العالم الإسلامي

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة الرابعة و الثلاثون

 

1 ـ المدرسة المكِّيَّة:
احتلَّت هذه المدرسة المكانة في قلوب المؤمنين، السَّاكنين، والثَّائبين إِلى بلد الله الحرام، الحجاج، والعمَّار، والزُّوَّار، بل أخذت مكَّة بألباب كلِّ مؤمنٍ راها، أو تمنَّى أن يراها، ولقد كان العلم بمكَّة يسيراً زمن الصَّحابة، ثمَّ كثر في أواخر عصرهم، وكذلك في أيَّام التَّابعين، وزمن أصحابهم، كابن أبي نجيحٍ، وابن جريجٍ، إِلا أنَّ مكَّة اختصت زمن التَّابعين بحبْر الأمَّة، وترجمان القران ابن عباسٍ ـ رضي الله عنهما ـ الَّذي صرف جلَّ همِّه، وغاية وسعه إِلى علم التَّفسير، وربَّى أصحابه على ذلك، فنبغ منهم أئمَّةٌ كان لهم قصب السَّبق بين تلاميذ المدارس في التفسير، وقد ذكر العلماء مجموعةً من الأسباب أدَّت إلى تفوُّق هذه المدرسة، أهم هذه الأسباب، والأساس فيها إِمامةُ ابن عبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ وأستاذيَّته لها.
وقد تحدَّث العلماء عن مجموعةٍ من الأسباب أهَّلَت ابن عباسٍ ـ رضي الله عنهما ـ وقدَّمته على غيره من الصَّحابة في فهم كتاب الله، والقدرة على تفسيره، وهي على الإجمال: دعاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم له بالفقه في الدِّين، والعلم بالتَّأويل، الأخذُ عن كبار الصَّحابة، قوَّةُ اجتهاده، وقدرتُه على الاستنباط، اهتمامُه بالتَّفسير، منهجُه المُمَيَّز في تعليم أصحابه، حرصُه على نشر العلم، رحلاتُه، وأسفاره، تأخُّرُ وفاته، قربُ منزلته من عمر ـ رضي الله عنهـ فقد حظي بعنايةٍ خاصَّةٍ من الفاروق عندما لمس فيه مخايل النَّجابة، والذَّكاء، والفطنة، فكان يدنيه من مجلسه، ويقرِّبه إِليه، ويشاوره، ويأخذ برأيه فيما أشكل من الآيات، وابنُ عباسٍ ما زال شابّاً غلاماً، فكان لذلك الأثرُ البالغ في دفعه، وحثِّه على التَّحصيل، والتقدُّم بل والإِكثار في باب التَّفسير، وغيره من أبواب العلم، فعن عامرٍ الشَّعبيِّ، عن ابن عباسٍ، قال: قال لي أبي: يا بنيَّ ! أرى أمير المؤمنين يقرِّبك، ويخلو بك، ويستشيرك مع أناسٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحفظ عنِّي ثلاثاً: اتَّق الله لا تفشينَّ له سرّاً، ولا يجرِّبنَّ عليك كذبةً، ولا تغتابنَّ عنده أحداً.
وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يداخله مع أكابر الصَّحابة، وما ذلك إِلا لأنَّه وجد فيه قوَّة الفهم، وجودة الفكر، ودقَّة الاستنباط، وقد قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ كان عمر يسألني مع أصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم، فكان يقول لي: لا تتكلَّم حتى يتكلَّموا، فإِذا تكلَّمتُ، قال: غلبتموني أن تأتوا بما جاء به هذا الغلام الَّذي لم تجتمع شؤون رأسه.
وكان ابن عباسٍ لشدة أدبه إِذا جلس في مجلسٍ فيه من هو أسن منه لا يتحدَّث إِلا إِذا أُذن له، فكان عمر يلمس ذلك منه، فيحثُّه، ويحرِّضه على الحديث تنشيطاً لنفسه، وتشجيعاً له في العلم، كما مرَّ معنا في تفسير قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} [البقرة: 266]، وقوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *} [النصر: 1].
وكان لعمر ـ رضي الله عنه ـ مجلسٌ يسمع فيه من الشَّباب، ويعلِّمهم، وكان ابن عباسٍ من المقدَّمين عند عمر، فعن عبد الرَّحمن بن زيدٍ، قال: كان عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ إذا صلَّى السُّبْحَةَ، وفرغ، دخل مِرْبداً له، فأرسل إلى فتيانٍ قد قرؤوا القران، منهم ابن عباسٍ، قال: فيأتون، فيقرؤون القران ويتدارسون، فإِذا كانت القائلة؛ انصرف، قال: فمرُّوا بهذه الآية و {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ *} [البقرة: 206 ـ 207]، فقال ابن عباسٍ لبعض من كان إِلى جانبه: اقتتل الرَّجلان. فسمع عمر ما قال، فقال: وأيُّ شيءٍ قلت ؟ قال: لا شيء يا أمير المؤمنين ! قال: ماذا قلت ؟ اقتتل الرَّجلان ؟ قال: فلمَّا رأى ذلك ابن عباسٍ؛ قال: أرى ها هنا مَنْ إِذا أُمر بتقوى الله أخذته العزَّة بالإِثم، وأرى من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، يقوم هذا، فيأمر هذا بتقوى الله، فإِذا لم يقبل، وأخذته العزَّة بالإِثم، قال هذا: وأنا أشتري نفسي ! فقاتله، فاقتتل الرَّجلان، فقال عمر: لله تلادُك يا بن عباسٍ.
وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يسأل ابن عباسٍ عن الشَّيء من القران، ثمَّ يقول: غص غوَّاص، بل كان عمر إِذا جاءته الأقضية المعضلة؛ يقول لابن عباس: يا أبا عبَّاسٍ ! قد طرأت علينا أقضيةٌ عضلٌ، وأنت لها، ولأمثالها ! ثمَّ يأخذ برأيه، وما كان يدعو لذلك أحداً سواه إذا كانت العضل، وعن سعد بن أبي وقَّاص، قال: ما رأيت أحداً أحضر فهماً، ولا ألبَّ لبّاً، ولا أكثر علماً، ولا أوسع حلماً من ابن عباس !
ولقد رأيت عمر بن الخطاب يدعوه للمعضلات، ثمَّ يقول: عندك قد جاءتك معضلةٌ، ثمَّ لا يجاوز قوله، وإِنَّ حوله لأهلُ بدرٍ من المهاجرين، والأنصار، وكان عمر يصفه بقوله: ذاكم فتى الكهول، إِنَّ له لساناً سؤولاً، وقلباً عقولاً.
يقول طلحة بن عبيد الله: ما كنت أرى عمر بن الخطَّاب يقدِّم على ابن عباسٍ أحداً، وكان ابن عباسٍ ـ رضي الله عنهما ـ كثير الملازمة لعمر، حريصاً على سؤاله، والأخذ عنه، ولذا كان رضي الله عنه من أكثر الصَّحابة نقلاً، وروايةً لتفسير عمر، وعلمه ـ رضي الله عنهم ـ وقد أشار بعض أهل العلم إِلى أنَّ عامَّة علم ابن عباسٍ أخذه عن عمر رضي الله عن الجميع.
هذا بعض ما لقيه ابن عباسٍ إِمام المدرسة المكِّيَّة من عناية الفاروق، وتقريبه له ـ رضي الله عنهم ـ وأظنُّ هذا ممَّا أعان ابن عباسٍ، وشجَّعه للمُضيِّ قُدُماً في طريق العلم عامَّةً، والتَّفسير خاصَّةً.
3 ـ المدرسة البصريَّة:
أوَّل من مَصَّر البصرة عتبة بن غزوان ـ رضي الله عنه ـ اختطَّها سنة أربع عشرة ـ وقيل غير ذلك ـ بأمر عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وسيأتي الحديث عنها بإِذن الله تعالى عند حديثنا عن التَّطوير العمراني في السِّياسة العمريَّة، وهي أقدم من الكوفة بثلاث سنين، وهي منافسةٌ لمدرسة الكوفة في كلِّ الفنون، وقد نزلها من الصَّحابة جمعٌ كثيرٌ، منهم: أبو موسى الأشعريُّ، وعمران بن حصين ـ رضي الله عنهما ـ، وعدَّةٌ من الصَّحابة كان خاتمهم أنسُ بن مالكٍ رضي الله عنه.
ومن أشهر مَنْ نزل البصرة أبو موسى الأشعريُّ، وأنس بن مالكٍ ـ رضي الله عنهما ـ فأمَّا أبو موسى ـ رضي الله عنه ـ فكان فيمن قدم مكَّة، وأسلم، وهاجر إِلى الحبشة مع من هاجر، وكان يعدُّ من أعلم الصَّحابة، وقد قدم البصرة، وعلَّم بها، وقد تأثر أبو موسى بعمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنهما ـ وكانت بينهما مراسلاتٌ، سنأتي عليها ـ بإِذن الله ـ عند حديثنا عن مؤسَّسة الولاة، والقضاة، وكان أبو موسى ـ رضي الله عنه ـ قد اشتهر بالعلم، والعبادة، والورع، والحياء، وعزَّة النفس، وعفتها، والزُّهد في الدُّنيا، والثَّبات على الإِسلام. ويعد أبو موسى ـ رضي الله عنه ـ من كبار علماء الصَّحابة، وفقهائهم، ومفتيهم، فقد ذكره الذَّهبيُّ في « تذكرة الحفَّاظ » في الطَّبقة الأولى من الصَّحابة رضي الله عنهم، قال عنه: كان عالماً عاملاً، صالحاً، تالياً لكتاب الله، إِليه المنتهى في حسن الصَّوت بالقران، روى علماً طيِّباً مباركاً، أقرأ أهل البصرة، وأفقههم.
وقد كان رضي الله عنه كثير الملازمة للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، كما أنَّه تلقَّى من كبار الصَّحابة كعمر، وعليٍّ، وأبيِّ بن كعبٍ، وعبد الله بن مسعودٍ، وتأثَّر أبو موسى على وجه الخصوص بعمر بن الخطَّاب كثيراً، وكان عمر يتعهَّده بالوصايا، والكتب في أثناء ولايته الطَّويلة على البصرة، كما أنَّ أبا موسى كان يرجع إِلى عمر في كلِّ ما يعرض له من القضايا، حتَّى عدَّه الشَّعبي واحداً من أربعة قضاة، هم أشهر قضاة الأمَّة، فقال: قضاة الأمة: عمر، وعليٌّ، وزيد بن ثابتٍ، وأبو موسى.
وكان أبو موسى عندما يأتي المدينة المنوَّرة يحرص على مجالس عمر ـ رضي الله عنهما ـ وربما أمضى جزءاً كبيراً معه، فعن أبي بكر بن أبي موسى: أنَّ أبا موسى ـ رضي الله عنه ـ أتى عمر بن الخطَّاب بعد العشاء، فقال له عمر: ما جاء بك؟ قال: جئت أتحدَّث إِليك، قال: هذه الساعة ! قال: إِنَّه فقه. فجلس عمر، فتحدَّثا طويلاً، ثمَّ إِن أبا موسى قال: الصَّلاة يا أمير المؤمنين ! قال: إِنَّا في صلاةٍ.
وكما كان أبو موسى حريصاً على طلب العلم والتَّعلُّم، كان أيضاً حريصاً على نشر العلم، وتعليم الناس، وتفقيههم، وكان يحضُّ النَّاس على التعلُّم، والتعليم في خطبه، فعن أبي المهلب قال: سمعت أبا موسى على منبره وهو يقول: من علَّمه الله علماً؛ فليعلِّمه، ولا يقولنَّ ما ليس له به علمٌ، فيكون من المتكلِّفين، ويمرق من الدِّين.
وقد جعل أبو موسى مسجد البصرة مركز نشاطه العلميِّ، وخصَّص جزءاً كبيراً من وقته لمجالسه العلميَّة، ولم يكتف بذلك، بل كان لا يدع فرصةً تمرُّ دون أن يستفيد منها في تعليم النَّاس، وتفقيههم، فإِذا ما سلم من الصَّلاة استقبل ـ رضي الله عنه ـ الناس، وأخذ يعلِّمهم، ويضبط لهم قراءتهم للقران الكريم، قال ابن شوذب: كان أبو موسى إِذا صلَّى الصُّبح؛ استقبل الصُّفوف رجلاً رجلاً يقرئهم.
واشتهر أبو موسى بين الصَّحابة بجمال صوته، وحسن قراءته، فكان النَّاس يجتمعون عليه حين يسمعونه يقرأ، وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ إِذا جلس عنده أبو موسى، طلب منه أن يقرأ له ما يتيسَّر له من القران، وقد وفَّقه الله لتعليم المسلمين، وبذل رضي الله عنه كلَّ ما يستطيع من جهدٍ في تعليم القران، ونشره بين النَّاس في كل البلاد الَّتي نزل فيها، واستعان بصوته الجميل، وقراءته النَّديَّة، فاجتمع النَّاس عليه، وازدحم حوله طلاب العلم في مسجد البصرة، فقسمهم إِلى مجموعاتٍ وحِلَقٍ، فكان يطوف عليهم يسمعهم، ويستمع منهم، ويضبط لهم قراءتهم، فالقران الكريم شغله الشَّاغل ـ رضي الله عنه ـ صرف له معظم أوقاته في حلِّه، وفي سفره، فعن أنس بن مالك قال: بعثني الأشعريُّ إِلى عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال عمر: كيف تركت الأشعريَّ ؟ فقلت له: تركته يعلِّم النَّاس القران، فقال: أما إِنَّه كيسٌ، ولا تسمعها إِيَّاه. حتَّى عندما كان يخرج إِلى الجهاد كان يعلِّم، ويفقِّه، فعن حطَّان بن عبد الله الرّقاشي قال: كنَّا مع أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ في جيشٍ على ساحلٍ دجلة، إِذ حضرت الصَّلاة، فنادى مناديه للظُّهر، فقام النَّاس للوضوء، فتوضَّأ، ثم صلَّى بهم، ثم جلسوا حِلَقاً، فلمَّا حضرت العصر نادى منادي العصر، فهبَّ الناس للوضوء أيضاً، فأمر مناديه: لا وضوء إِلا على من أحدث. وأثمرت جهوده العلميَّة ـ رضي الله عنه ـ وقرَّت عينه برؤية عددٍ كبير حوله من حفَّاظ القران الكريم، وعلمائه، زاد عددهم في البصرة وحدها على ثلاثمئةٍ، ولمَّا طلب عمر بن الخطَّاب من عمَّاله أن يرفعوا إِليه أسماء حفاظ القران لكي يكرمهم، ويزيد عطاءهم، كتب إِليه أبو موسى: أنَّه بلغ من قبلي ممَّن حمل القران ثلاثمئةٍ وبضعة رجالٍ.
واهتمَّ أبو موسى ـ رضي الله عنه ـ بتعليم السُّنَّة، وروايتها، فروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير، كما روى عن كبار الصَّحابة السُّنَّة وروايتها، وروى عنه عددٌ من الصَّحابة، وكبار التَّابعين. قال الذَّهبي ـ رحمه الله ـ: حدَّث عنه بريدة بن الحصيب، وأبو أمامة الباهليُّ، وأبو سعيدٍ الخدريُّ، وأنس بن مالك، وطارق بن شهاب، وسعيد بن المسيب، والأسود بن يزيد، وأبو وائل شقيق بن سلمة، وأبو عثمان النَّهديُّ، وخلقٌ سواهم.
وكان رضي الله عنه شديد التمسُّك بسنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم، دلَّ ذلك على ما أوصى به أولاده عند موته. ومع حرصه الشَّديد على السُّنة لم يكثر ـ رضي الله عنه ـ من رواية الأحاديث الشريفة كما هو حال كبار الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فقد كانوا يتهيبون من الرِّواية عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مخافة الزَّلل، والخطأ، وقد كان عمر يوصي عمَّاله أن يهتمُّوا بالقران، وألا يكثروا من رواية السُّنَّة، وكان أبو موسى شديد الطَّاعة لعمر.
وأمَّا أنس بن مالكٍ النَّجاريُّ الخزرجيُّ خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كان يتسمَّى بذلك، ويفتخر به، وحقَّ له ذلك، فيقول رضي الله عنه: خدمت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين وأنا غلامٌ.
ويقول أيضاً: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين، ومات وأنا ابن عشرين سنة، وقد دعا له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بكثرة المال، والمباركة في العمر، فقال عليه الصلاة والسَّلام: « اللهم أكثر ماله، وولده، وبارك له فيه ». قال الذَّهبيُّ: وقد سرد صاحب التَّهذيب نحو مئتي نفسٍ من الرُّواة عن أنسٍ، وروى ألفي حديث، ومئتين وستةً وثمانين حديثاً، اتَّفق البخاريُّ، ومسلمٌ على مئةٍ وثمانين حديثاً، وانفرد البخاريُّ بثمانين حديثاً، ومسلمٌ بتسعين، ويعتبر أنس بن مالك رضي الله عنه شيخ السَّادة من علماء التَّابعين أمثال: الحسن البصري، وسليمان التَّيمي، وثابت البناني، والزُّهري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وإبراهيم بن ميسرة، ويحيى ابن سعيد الأنصاري، ومحمَّد بن سيرين، وسعيد بن جبير، وقتادة، وغيرهم.
وقد اهتمَّ أنس بخدمة السُّنَّة روايةً، وتعليماً، وغلبت عليه الصِّفة العلميَّة، فقد قام ببعض الأعمال الهامَّة في خدمة الخلافة الراشدة، وأسند إِليه الخلفاء الرَّاشدون ـ رضي الله عنهم ـ بعض المناصب الرَّفيعة في الدَّولة المسلمة، وخاصَّة في عهد أبي بكرٍ، وعمر رضي الله عنهما. ولما تولَّى أبو موسى الأشعريُّ ـ رضي الله عنه ـ ولاية البصرة في عهد عمر؛ قرَّب أنساً، واعتبره من خاصَّته، فعن ثابت عن أنس قال: كنا مع أبي موسى في مسيرٍ، والنَّاس يتكلَّمون، ويذكرون الدُّنيا، قال أبو موسى: يا أنس ! إِنَّ هؤلاء يكاد أحدهم يفري الأديم بلسانه فرياً، فتعال فلنذكر ربَّنا ساعةً، ثمَّ قال: ما ثبر النَّاس ـ ما بطَّأ بهم ـ ؟ قلت: الدُّنيا، والشَّيطان، والشَّهوات. قال: لا، لكن عُجِّلتِ الدُّنيا، وَغُيِّبت الاخرة، أما والله لو عاينوها ما عدلوا، ولا ميَّلوا! ولثقة أبي موسى بأنسٍ فقد كان يكلِّفه أن يكون رسوله إِلى أمير المؤمنين عمر، قال أنس: بعثني أبو موسى الأشعريُّ من البصرة إِلى عمر، فسألني عن أحوال النَّاس. وبعد فتح تستر أرسله أبو موسى إِلى عمر بالأسرى، والغنائم، فقدم على عمر بصاحبها الهرمزان.
وقد روى عن أنسٍ خلقٌ عظيمٌ من الصَّحابة، والتَّابعين، لا سيما في البصرة، وقد ترك أثره في الزُّهد، والعبادة فيمن حوله من النَّاس.
وكان أنس حريصاً على تعليم أصحابه، شديد المحبَّة لتلاميذه، يدنيهم، ويكرمهم قائلاً: ما أشبهكم بأصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم ! والله لأنتم أحبُّ إِليَّ من عدَّة ولدي إِلا أن يكونوا في الفضل مثلكم ! وإِنِّي لأدعو لكم بالأسحار، ممَّا مكَّنه من إِنشاء جيلٍ من العلماء الَّذين أخذوا عنه علم الحديث، وبلَّغوه للآخرين، وحملوا للأجيال من بعدهم، وبقي أصحاب أنسٍ الثِّقات إِلى ما بعد الخمسين ومئة.

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022