الجمعة

1446-04-15

|

2024-10-18

محطات مهمة في سيرة الشيخ محمد الشريف شقيق الإمام المهدي؛ العالم المجاهد والمستشار الألمعي

بقلم: الدكتور علي محمّد الصلابي

الحلقة: الثالثة

صفر 1441 ه/ أكتوبر 2019

كان محمد الشريف عالماً ربانياً، ومستشاراً عبقرياً، وكان مشرفاً على معهد الجغبوب، وقد تميز بغزارة العلم، ودقة الفهم، والقدرة على التدريس، وتتلمذ على كبار علماء الحركة السنوسية، وتفرغ للطلب والتدريس، وساعده على ذلك وجود مكتبة كبيرة احتوت على النشاط الديني، والعلمي، والأدبي، وقد تحدث الطيب الأشهب عنها فقال: «ونظمت بالجغبوب مكتبة كانت من مفاخره، إذ إنها تعد في طليعة المكتبات التي لا يمكن للأفراد الإتيان بمثلها، وكانت تضم قسماً كبيراً من المخطوطات النفيسة، ولم يجد الإمام بلداً إسلامياً إلا واستجلب منه الكتب، فمن مصر والحجاز والشام والآستانة وتونس ومراكش، إلى غير ذلك من البلاد الإسلامية الأخرى».
وقال الحشائشي عن هذه المكتبة: «أما الكتب الموجودة في خزائنها فقد نيفت على الثمانية الاف مجلد، من تفسير وأحاديث وأصول وتوحيد وفقه، وغير ذلك من كتب العلوم المعقولة والعلوم الطبيعية وغير ذلك، ولا يطبع في العالم كتاب باللغة العربية إلا ويبحثون عنه ويظفرون به..».
لقد كانت الجغبوب محلاً لتخريج القادة وشيوخ الزوايا، ولذلك حرص ابن السنوسي وابنه المهدي على أن يوفروا كافة أسباب النشاط العلمي، وتتلمذ محمد الشريف على الشيوخ والعلماء، ونهل من الكتب الموجودة، في المكتبة المباركة حتى وصل إلى درجة عظيمة من الفقه والعلم.
يقول الأستاذ الأشهب: «سمعت هذه الحكاية الاتية من تلميذه والدي، السيد أحمد بن إدريس، قال: كنا نحضر على السيد الشريف، وكنا ندرس عنه الحديث والتفسير والتصوف ومطولات كتب اللغة، يجلس بكل تواضع، ويضع الكراس الذي بيده فوق منضدة من الخشب توضع أمامه، ويقرر ما نحن بصدده، وعندما يمر بمشكلة فقهية أو تاريخية أو لغوية يسرد لنا رضي الله عنه من ذاكرته جميع وجوهها، وما ورد فيها من أقوال العلماء أو الأئمة المصنفين بأسلوب عذب ساحر خلاب، ولا يترك قولاً ورد فيها إلا ويأتي به، ثم يوضح الأصح من الأقوال والمتفق عليه، وعندما نقف على أي بيت من الشعر في أي كتاب نقرؤه أو أي موضوع نتناوله يقول لنا: إن هذا البيت من قول فلان المولود سنة كذا، والمتوفى سنة كذا، ويبتدأى في قراءة القصيدة من ذاكرته، إلى أن يقف على البيت الذي كان السبب في إعلامنا بقوة حافظة سيدنا وسلامة ذاكرته».
إن هذا العالم الجليل والحبر العظيم والبحر الزاخر من العلوم كان من أعمدة الحركة العلمية، فبوفاته اهتزت الجغبوب، وتأثر الإمام المهدي بهذا الحدث الجلل؛ يقول أحمد الشريف عن خبر وفاة والده: «وفي يوم النصف من شوال أتانا رسول خبره، فصعب علينا فراقه غاية، وأزعجنا نهاية، ولكن لم نقل إلا ما قاله الصابرون المهتدون: إنا لله وإنا إليه راجعون».
لقد تأثر الإمام المهدي لوفاة أخيه وصبر واحتسب، وبكاه الإخوان السنوسيون في كافة الأقطار، وأَبّنهُ العلماء والشعراء والخطباء؛ ومن بينهم: أبو سيف مقرب، والسيد السني، وهذه القصائد تدل على مدى النبوغ الأدبي الذي وصل إليه أتباع الحركة السنوسية:
قال الشيخ الشاعر العلامة محمد السني في رثاء محمد الشريف:
هجمت عليّ من الزمان خطوب ومصائب منها القلوب تذوب
خَطْب يئن له الجماد وتنثني منه متون العزم وهي صلوب
نوب تنوب وحادثات زواعج ترمي الورى بسهامها فتصيب
جلت وجل بها المصاب وغادرت رحب الفؤاد يئن وهو كئيب
لبس الأسى منه الأساء كما اكتسى ثوب السواد لأجلها جغبوب
عهدي بربع الخل ملتحف إليها مخضرة أرجاؤه مرغوب
والشمل مجتمع ونشر البين في طي وذيل سروره مسحوب
واليوم أصبح مقشعراً نازحاً وحشى الطلول لأجلهم مخروب
دارت عليه من الزمان دوائر أبدلنهن على السرور وثوب
لا در در البين يوم ترحلوا وسرت بهم نُجْبُ المنون تجوب
وحدا بهم حادي النوى والقلب في نار الجوى متقلب مرغوب
سقياً لأيام مضت لما انقضت إن البكاء لأجلهم مطلوب
كل الرزايا إن توالت أسليت إلا مصابك «يا شريف» صعيب
رزءٌ بِهِ ثُكْلُ الفضائل كلها ولوقعه وجه الزمان قطوب
تبكيك أبصار لأنك نورها وبصائر منكم لها تطبيب
ومعاشر أنتم ربيع قلوبهم ومعاهد أنتم لها أشبوب
وفرائض ونوافل ومحافل ومشارق ومغارب وجنوب
وبكى عليك الجو يقطر دمعه وعلاه من أحزانه تثريب
أسفي وتهيامي وحر لواعجي وقريح جفني بالدموع سكوب
صبر لأمر قد قضاه إلـهنا وعلى الجميع مقدَّرٌ مكتوب
ناداه إكراماً وتشريفاً له فغدا يهرول للنِّدا ويجيب
في ليلة القدر التي قد فضلت عن ألف شهر خصه الترحيب
وأما السيد أبو سيف مقرب فقد قال قصيدة في رثاء محمد الشريف، قال ذلك الشاعر الفحل إذا أخذت من كل بيت أول حرف يظهر لك هذه الجملة الاتية: سيدي ومولاي السيد محمد الشريف رضي الله عنه. قال الحشائشي: وهذا من أنواع البديع المسمى بالترصيع، قال الشاعر رحمه الله:
س سرنا بنعشك خُضَّع الأعناق سيراً دوين العدو والأعناق
ي يا خير محمول لأعلى جنة ولحورها يلقينه بعناق
د داء أصاب المكرمات فغالها واغتال روح مكارم الأخلاق
ي يجري على وفق القضا حتماً فلا تبقى مواضيه على الأرماق
و والدهر يعتام الأخاير والردى يعتاد نهب نفائس الأعلاق
م ما ضرّه لو أن صارم صرفه أبقاك للعافين والطراق
و والعلم والحلم الذي شمخت به افاق جغبوب على الافاق
ل لكنه لا ينتهي عن قصده بتطبب أو رقية من راق
أ أودى الشريف ابن الشريف محمد من للمعالي بعده من راق؟
ي يا جامعاً أصل العلوم وفرعها جمعاً لمن ناواك غير مطاق
أ أنت الإمام لكل من أم الهدى والدين بالإجماع والأصفاق
ل لك كنز معارف وعوارف تحت الصفائح محكم الأطباق
س سرٌّ ثوى في روضة موشية وشي الربا نحب الحيا الغيداق
ي يا ثاوياً مع أصله في لحده هذا قران السعد في الأعماق
د دار حوت أصل المكارم والعلا مع فرعه شبت على الأطواق
م ما تلك جنة بها قد زخرفت ورثت يا مولاي باستحقاق
ح حزت النعيم بها وكنت منعماً والله يمنحك النعيم الباقي
م ما عذر من ينعاك إذ لم يرتشف كأس الردى من دمعه المهراق
د دمع من العين منها مرسل تهمي بذاك قريحة الماق
أ إن قصرت يوماً فإن قلوبنا أسرى لفقدك في أشد وثاق
ل لو كان يفدى الميت بادر كلُّنا يفديك بالاجال والأرزاق
ش شرفت يا جغبوب حقباً بالذي أعلى منارك بالثناء الباقي
ر روت إليك وجوه امال الورى عطشاً لورد نواك الدفاق
ي يسعى لأرضك كل جلف مملق فيثاب بالاداب والأرماق
ف فازت رجال باحتلال رياضه ورياضه الخلد النعيم الراقي
ر راضَ الأنام بعلمه وبحلمه فتقدموا في حلبة الأسباق
ض ضارٍ إذا ما ربته في دينه أو رمت نقض العهد والميثاق
ي يا صفة صفوة يا شبل صبراً على ريب الزمان وخطبة الفراق
أ إن المنايا غاية ما دونها من ناصر كلا ولا من واق
لا لا تخطأى الأحيا سهام حتوفها من فاته هذا فذاك يلاقي
إن الحركة السنوسية فجرت طاقات الشعراء، وأضفت على شعراء الحركة معاني في الصدق، والمثل الرفيعة، ومبادأى الدعوة، وكوَّنتْ أدباً رفيعاً خاصاً بها، يستحق البحث والتنقيب، والدراسة والتحليل، وخصوصاً إذا علمنا أن الشعر لميكن صفتهم الأولى، وإنما كان أمراً لاحقاً، وشيئاً ثانوياً بالقياس إلى صفتهم الأصيلة، وهي كونهم علماء دعاة، اتجهوا في حياتهم إلى نشر العلم بين ذويهم، وتهذيب النفوس وإحياء الشعور الديني، وإصلاح المجتمع بهذه الوسيلة، ثم كانوا مع هذا يتمتعون بالموهبة الأدبية، على أقدار مختلفة.
إن القصائد السابقة تساعد الباحث على تصور الأجواء التي كانت إثر وفاة محمد الشريف رحمه الله، وبذلك يستطيع أن يصل إلى تأثير خبر الوفاة على الإمام المهدي وإخوانه في الحركة.
وبعد أسابيع قليلة من وفاة السيد الشريف أرسل السيد المهدي في طلب العائلة من الجغبوب إلى الكفرة، فسافر محمد عابد وأفراد بيت والده مصحوباً بالسيد أحمد الريفي، وأبي سيف مقرب، وبهذا الانتقال لم يبق من أفراد البيت السنوسي أحد بالجغبوب.
وفي عام (1314 هـ) جاء جلة أعيان برقة، ورؤساء القبائل لزيارة الإمام المهدي، ليقدموا لسيادته أحرَّ التعازي في وفاة أخيه، ويتدارسوا اخر تطورات الأوضاع الدولية، والمحلية، والإقليمية.

مراجع البحث:
1. علي محمد محمد الصلابي، مِنْ أَعْلَامِ التَّصَوُّفِ السُّنِّيِّ:6سيرة الزعيم محمد المهدي السنوسي،دار الروضة،اسطنبول،1438ه،2017م ص (66:72).
2. محمد الطيب الاشهب، برقة العربية بين الأمس واليوم،دار الهواري:القاهرة،1364ه،1945م، ص (227).
3. محمد بن عثمان الحشائشي التونسي. رحلة الحشائشي إلى ليبيا سنة 1895(جلاء الكرب عن طرابلس الغرب)، تحقيق،علي مصطفى المصراتي،دار لبنان للطباعة والنشر،بيروت.1385ه، 1965م. ص (152).


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022